ًأبكي جوهرة سيدة الجوهر الجوهرة الفرد كانت تلمع في مقبض سيف سحري مغمدْ عُلق رصداً في باب الشرق الموصَد من يدم النظر إليها, يرتد إليه النظر المحسور, ويهوي في قاعِ النوم المسحور حتى أجل الآجال قد يُمسخ حجراً, أو في موضعه يجمد
جاء الزمن الوغد صديء الغِمد وتشقق جلد المِقبض ثم تخدد سقطت جوهرتي بين حذاء الجندي الأبيض وحذاء الجندي الأسود
محمد صلاح الدين عبدالصبور. ولد في مدينة الزقازيق (مركز محافظة الشرقية - شرقي الدلتا المصرية) وتوفي في القاهرة. عاش حياته في القاهرة، وزار عدة عواصم عربية، ومدن غربية. تلقى تعليمه قبل الجامعي بمدارس الزقازيق، وحصل على الشهادة التوجيهية (1947) ثم التحق بكلية الآداب - جامعة فؤاد الأول (القاهرة) فتخرج في قسم اللغة العربية (1951). بدأ حياته العملية مدرسًا للغة العربية، مثلما عمل صحفيًا بمؤسسة «روز اليوسف»، ومؤسسة «الأهرام». انتقل إلى وزارة الثقافة، فعمل بإدارة التأليف والترجمة والنشر، ثم رئيسًا لتحرير مجلة السينما والمسرح، ونائبًا لرئيس تحرير مجلة الكاتب، ثم عمل مستشارًا ثقافيًا بسفارة مصر بالهند (1977 - 1978)، فرئيسًا للهيئة المصرية العامة للكتاب حتى وفاته فجأة إثر استفزاز نفسي أثر في قلبه. كان عضوًا بالمجلس الأعلى للثقافة، والمجلس الأعلى للصحافة، ومجلس اتحاد الكتاب، ومجلس أكاديمية الفنون، واتحاد الإذاعة والتلفزيون. شارك في «جماعة الأمناء» التي كونها أمين الخولي، كما شارك في تكوين «الجمعية الأدبية» مع عدد من نظرائه من دعاة التجديد. نال جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته الأولى: «مأساة الحلاج» 1965، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1965، ومنحته جامعة المنيا (وسط الصعيد) الدكتوراه الفخرية. صدرت دوريات عدة عقب رحيله خصصت لإبداعاته: مجلة المسرح (أكتوبر 1981) - مجلة فصول (أكتوبر 1981) وعلى صدر الدورية عبارة: «الشاعر والكلمة». كما أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب: «وداعًا فارس الكلمة» - قصائد إلى صلاح عبدالصبور (1982). أطلقت مدينة الإسكندرية اسم الشاعر على مهرجانها الشعري الأول. قدمت عن شعره، ومسرحه الشعري، ونقده رسائل جامعية.
الإنتاج الشعري: - صدر للشاعر الدواوين التالية: «الناس في بلادي» - دار الآداب - بيروت 1957، «أقول لكم» - دار الآداب - بيروت 1960 (الطبعة الخامسة - دار الشروق - القاهرة 1982)، «أحلام الفارس القديم» - دار الآداب - بيروت 1964 (الطبعة الرابعة - دار الشروق - القاهرة 1981)، «تأملات في زمن جريح» - دار الآداب - بيروت 1970 (دار الشروق - القاهرة 1981)، «شجر الليل» - دار الآداب - بيروت 1972 (الطبعة الثالثة - دار الشروق - القاهرة)، «الإبحار في الذاكرة» - دار الشروق - بيروت1983، نشرت الدواوين الستة مع كتاب «حياتي في الشعر» في مجلد واحد من «الأعمال الكاملة» لصلاح عبدالصبور - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1993، نشرت له قصائد مختارة في ديوان بعنوان: «رحلة في الليل» - الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة 1970، ونشرت له قصائد في صحف عصره: «حياتي وعود» - مجلة الثقافة - القاهرة 1/12/1952، «انعتاق» - مجلة الثقافة - القاهرة 15/12/1952، «عودة ذي الوجه الكئيب» - الآداب - بيروت - يونيه 1954، «إلى جندي غاضب» - الآداب - بيروت - يناير 1957، «عذاب الخريف» - الآداب - بيروت - يناير 1958، «أحزان المساء» - المجلة - القاهرة - مارس 1961، «الطفل العائد» - الكاتب - القاهرة - أبريل 1961، «المرآة والضمير» - الأهرام - القاهرة 30/9/1966، «الضحك» - الأهرام - القاهرة 14/4/1967، أشعارهم عن الربيع: «الكواكب» - القاهرة 20/9/1969، «إنه قمري يا أصدقاء» - مجلة الإذاعة - القاهرة 4/10/1969، «عندما أوغل السندباد وعاد» - مجلة العربي - الكويت - أكتوبر 1979، وكتب خمس مسرحيات شعرية: «مأساة الحلاج» - دار الآداب - بيروت 1965، «مسافر ليل» نشرت في مجلة المسرح - القاهرة - يوليو وأغسطس 1969 - طبعت في دار الشروق - بيروت 1986، «الأميرة تنتظر» نشرت في مجلة المسرح - القاهرة - أكتوبر ونوفمبر 1969 - طبعت في كتاب: دار الشروق - بيروت 1986، «ليلى والمجنون» نشرت في مجلة المسرح - القاهرة - فبراير 1970 - (طبعت بالقاهرة - دار الشروق - وبيروت 1986)، «بعد أن يموت الملك» - دار الشروق - بيروت 1983.
الأعمال الأخرى: - نشر ثلاث قصص قصيرة: «قصة رجل مجهول» - مجلة الثقافة - القاهرة 8/12/1952، «الشمعة» - مجلة الثقافة - القاهرة 29/12/1952، «فدَّان لله» - مجلة صباح الخير - القاهرة 18/12/1958، وكتب اثني عشر كتابًا بين السيرة الذاتية والمتابعات النقدية، والقضايا الحضارية: «أصوات العصر» - دراسات نقدية - القاهرة 1960، «ماذا يبقى منهم للتاريخ؟» - القاهرة 1961، «حتى نقهر الموت» - بيروت 1966، «قراءة جديدة لشعرنا القديم» - بيروت 1968، «حياتي في الشعر» - بيروت 1969، «علي محمود طه» - دراسة واختيار - بيروت 1969، و«تبقى الكلمة» - بيروت 1970، «رحلة على الورق» - القاهرة 1971، «قصة الضمير المصري الحديث» - القاهرة 1972، «النساء حين يتحطمن» - القاهرة 1976، «كتابة على وجه الريح» - القاهرة 1980، «على مشارف الخمسين» - القاهرة 1983، وترجم الأعمال الإبداعية الآتية، عن الإنجل
أقول دائمًا عن صلاح عبد الصبور أنه شاعر مسرحي عبقري، لكنني لا أحب شعره الخالص كثيرًا. الحقيقة أن تجربتي مع مسرحه كانت كلية وذات نظرة شاملة، أما شعره فاقرأه متقطّعًا فأغير رأيي فيه دائمًا، كان ديوانه "أقول لكم" أول ما قرأت له وأعجبتني جدًا، لكنني قرأت بعدها كتابين لأعمال مختارة من شعره وكانا متوسطين، ثم ديوانه "الإبحار في الذاكرة" الذي لم أحبه لأسباب ذكرتها في تعليقي عليه، وها هو ديوانه شجر الليل يمدني بنشوة كبيرة لم أجدها في ديوان لصلاح عبد الصبور قبل هذا.
"منذ زمان منذ اعتدتُ التفكير كما يعتاد المدمن وخزَ الأفيون وأنا أسألُ نفسي بضعةَ أسئلة قبل النوم أحيانًا، وأنا بين اليقظة والإغماء إذ أشعر أنَّي أهوى في قاع البئر المعتم ألقي عنِّ بضعةَ أسئلة ملحاحَة حتى أهوي، لا يُثْقِلُ صَدري شيء
لكنِّي، أيضا من زمان يتعلقُ في خيطي أنفاسي، لا يُفلِتُني حتَّى يلتفَّ على صِدْغيّ وعيني هذا الاستفهامُ المُحكَم ماذا قَد يحدث؟ ماذا قد يحدُث؟ لكنِّي.. إحقاقًا للحق لا أسألُ أبدًا، لا أسأل ماذا قد نفعل؟
مخنوقًا في كلّ مساءٍ بسؤالي أهوي في قاع البئر وقد اعتدت النَّومَ كما يعتاد المُدمنُ وخز الأفيون"
عجبني جدًا الديوان ثاني أفضل ديوان أقراه سرحت معاه الكلام جميل. و تحس بنغمة جواه. تشعر ان الرياح تحملك من مكانك و كانك طائر في سماء من الكلمات الجميلة.
دواوين صلاح عبد الصبور بجانبي دائما، وأعيد قراءتها من حين لآخر. لاشك أن نبرة الحزن و السوداوية دائمة الحضور في أشعار عبد الصبور، لكن كثيرا ما تساءلت بعد كل مرة انتهى من قراءة "شجر الليل" كيف تحمل عبدالصبور نفسه ليكتب هذا الديوان؟ ___________ أهتف أحيانا، يا رباه! ارفع عنا هذا الزمن الميت أُقسُ علينا، لا تعبر عنا كأس الآلام علمنا أن نتمزق بإرادتنا العمياء في منقار الأيام علمنا أن نتبعثر في الريح الملعونة أن نتعلق بالأشجار المسنونة أن لا نمثُل للموت علمنا أن نتفتت أشلاء دموية تتنفس كاليرقات الدبقة في قيعان الزمن الآتي حتى تخرج للشطآن الضوئية
يكفيني من شعر #صلاح_عبدالصبور أني أراني بسطحيتي و عمقي و أحلامي و واقعي و بساطتي و عقدي في كل جملة شعرية يكتبها كما لا يحدث عند أديب سواه . صلاح عبد الصبور هو الانسان الأمثل الذي يفتش عن الانسان الأمثل و هو الليل الذي يبحر في أعماق ظلمة الليل و هو المدينة التي تبحث عن المدينة . الديوان الشعري هذا قد أذابني في عبد الصبور عشقا أكثر مما أذوب و لو أني أحتفظ في نفسي بالمكانة السامية لمسرحياته الشعرية و أهمها الأميرة تنتظر و ليلى و المجنون.
صوت مجموعة من النساء: كانت هي الأروع و الأغنى و الأشعر و الأعمق .... و كذلك الفصول المنتزعة من كتاب الأيام بلا أعمال - جميعها - إبداع بلا وصف يوصف ....
يحتوي الديوان الرابع لصلاح عبد الصبور على تسع قصائد، تتراوح بين مشاعر اليأس والحيرة والإحباط والقلق الوجودي، وحنين للحياة التلقائية بعيدا عن الزيف والافتعال؛ ومشاعر متناقضة عن امتلاك ناصية الشعر؛ وهناك قصيدة في الشعر الصوفي "متنكرة" في صورة شعر غزلي (يوضح الشاعر طبيعتها الصوفيه باقتباس من محيي الدين بن عربي تحت عنوان القصيدة)؛ بكائيات على هزيمة 67؛ ذكرى أصدقاء رحلوا؛ ثم القصيدة الأخيرة "توافقات" وهي الوحيدة في هذا الديوان (أو في شعر صلاح عبد الصبور كله؟) من شعر النثر الشعر جميل وعميق، مع كثير من التعبيرات والصور الموحية، واستخدام للرموز والأساطير والتراث الشرقي والغربي في لمحات عابرة وليس في قصائد بأكملها كما في دواوينه الأخرى، والصور الشعرية غنية وتتولد منها صور وأفكار بطريقة رائعة خصوصا في فقرة "بكائية" من قصيدة "فصول منتزعة"، ومثلما في دواوينه الأخرى هناك في أكثر من قصيدة حوار بين الشاعر وشعراء يذكرهم بالإسم من بلدان أخرى أما قصيدة النثر في نهاية الديوان فهي محاولة للحصول على إجابات من الكون الملغز الصامت، وهي من أجمل ما قرأت للشاعر
«علّمتُ عيني أن ترى الألوان في الألوانِ والضياءَ في الظلال علمت قلبي أن يشم ريح صدق القول والمحال علمت كفي أن تحس الدفء والصقيع في أكفّ رفقة المقام أو صحبة الترحال شبعت حكمة، وفطنة رويتُ رؤيةً وفكراً لكنني، أحسُ فيكِ يا مدينتي المحيره بأنني، أضلُ من رسالةٍ مغفلة العنوان وأنني سوف أظل واقفاً على نواصي السكك المنحدره أبحث عن مكان وربما يلمسني ما يلمس النبات والحديد والجدران من دودة الشموس والأنداء ويسقط الصدأ عندئذ، نكون يا مدينتي صِنوان وأعرف العنوان معذرة، مدينتي قلبي عطشان الى محبتك ورّبما لو زدتُ حكمةً، وفطنة، ورؤية، وفكراً عرفتُ أن قلبكِ الأسيان كمثل قلبي شاردٌ يبكي على دمامةِ الزمان»
«أبحثُ عنك في ملاءة المساءْ أراك كالنجومِ عارية نائمةً مبعثرة مشوقةً للوصل والمسامرة ولاقتراح الخمر والغناء وحينما تهتزُ أجفاني وتفلتين من شباك رؤيتي المنحسرة تذوينَ بين الارض والسماء ويسقط الإعياء منهمرًا كالمطرة على هشيمِ نفسي الذابلة المنكسرة كأنه الإغماء
أبحث عنك في مقاهي آخر المساء والمطاعم أراكِ تجلسين جلسة النداء الباسم ضاحكةً مستبشرة وعندما تهتز أجفاني وتفلتين من خيوط الوهمِ والدعاء تذوين بين النورِ والزجاجْ ويقفز المقعدُ والمائدةُ الهباء ويصبح المكان خاويًا ومعتمًا كأنه الصحراء
أبحث عنك في العطور القلقة كأنها تُطل من نوافذ الثياب أبحثُ عنكِ في الخطى المفارقة يقودها إلى لا شيء، لا مكان وهم الانتظار والحضور والغياب أبحث عنك في معاطف الشتاء إذ تُلف وتصبح الأجسام في الظلام تورية ملفوفة، أو نُصبًا مِن الرصاصِ والرخام وفي الذراعين اللتين تكشفان عن منابتِ الزغب حين يـُهل الصيف ترتجلان الحركات الملغزة وتعبثان في همودِ الموتِ والسمومِ والرخام حين يدورَ العام
أبحثُ عنكِ في مفارقِ الطرق واقفةً، ذاهلةً، في لحظة التجلي منصوبةً كخيمةٍ من الحرير يهزها نسيمُ صيفٍ دافئ، أو ريحُ صبحٍ غائمِ، مبللٍ مطير فترتخى حبالها، حتى تميل في انكشافها على سواد ظلي الأسير ويبتدي لينتهي حوارُنا القصير.
أبحثُ عنكِ في مرايا عُلبِ المساء والمصاعد أبحث عنكِ في زحام الهمهمات معقودةً مُلتَفةً في أسقفِ المساجد أبحثُ عنكِ في المتاجرْ أبحث عنكِ في محطات القطارِ والمعابر في الكتبِ الصفراء والبيضاء والمحابر وفي حدائق الأطفالِ والمقابر أنظر في عيون الناس جامد الأحداق كأنني أسأل كل عابر آوى إلى بيتي في الليل الأخير أنتظر انبثاقك –البغتة-كالحقيقة (أيتها السفينة الوهميةُ المسار يا وردةَ الصقيع أيتها العاصفةُ المحكمةُ الإسار خلف فصول الزمنِ الدوَّار)
حتى إذا طال انتظاري المرير شربتُ كأسَ الخمر والدُوار كأنني أقبّلُ الدموع في خدود الكأس قطرةً، فقطرة كأنني ألتذُ باليأس والانكسار
وأورق اليقينُ، أن مستحيلًا قاطعًا كالسيف لقاؤنا، إلا للمحةٍ من طرفْ»
في هذه القصيدة يبحث صلاح عبد الصبور بمعول الحكمة والفلسفة عن حقيقة البشر في هذا الوجود، فهو يبحث عن «وردة الصقيع» في «ملاءة المساء» كما يقول، ويراها كالنجوم واضحة في كبد السماء لكنها تفلت بعض الاحيان من شباك رؤيته الضيقة لتذوي ما بين الأرض والسماء... ثم يبحث عنها في محطات القطار والمعابر وفي زحام الهمهمات معقودة أو ملتفة في أسقف المساجد الى أن يورق اليقين فيتضح له استحالة اللقاء الا للمحة نظر قصيرة، وهنا صلاح عبد الصبور -من رأيي-يصف الحياة بميزان كلامه المعبر عن أدق تفاصيل البشري اللاهث خلف سراب الوجود.
«كل مساء، قبل أن يأوي إلى فراشه الكليم وقبل أن يغيبَ في غياهبِ الإغماء يطوف في خياله الحلمُ العقيم أن تفتحَ السماء أبوابها عن نبأٍ عظيم كل صباح، قبل أن يطالع الحياة والأحياء مسهّد الجفون، مقروح الفؤاد سأمان مما حملت صحف اصباح من أنباء يسألُ هذا الشاعر السقيم سؤاله السقيم ربّاه! ربّاه! ما سر هذه التعاسةِ العظيمة؟ ما سر هذا الفزعِ العظيم؟»
«منذ زمانٍ منذ اعتدْت التفكيرَ كما يعتادُ المُدمِنُ وخزَ الأفيون وأنا أسالُ نَفسي بِضعةَ أسئلةٍ قبلَ النَوم أحيانًا، وأنا بينَ اليقظةِ والإغماء إذ أشعرُ أني أهوى في قاعِ البئر المُعتِم ألقي عني بضعةَ أسئلةٍ مِلحاحة حتى أهوي، لا يُثقِلُ صَدري شيء لكني، أيضًا مُنذُ زَمان يتعلّقُ في خيطِ أنفاسي، لا يُفلتُني حتى يلتفَ على صَدغي وعَينيّ هذا الاستفهامُ المُحكَم ماذا قد يحدثُ؟ ماذا قد يحدثُ؟ لكني… إحقاقًا للحقِ لا أسألُ أبدًا، لا أسألُ ماذا قد نفعل؟ مخنوقًا في كُلِّ مساءٍ بسؤالي أهوى في قاعِ البِئر وقدِ اعتدتُ النومَ كما يعتادُ المُدمِنُ وخزَ الأفيون» «أهتف أحيانًا، يا رباه! ارفع عنا هذا الزمن الميت أُقْسُ علينا، لا تعبر عنا كأس الآلام علّمنا أن نتمزّق بإرادتنا العمياء في منقارِ الأيام علّمنا أن نتبعثرَ في الريحِ الملعونة أن نتعلقَ بالأشجارِ المسنونة أن لا نمثُل للموت علّمنا أن نتفتّت أشلاءً دموية تتنفسُ كاليرقاتِ الدبقة في قيعانِ الزمنِ الآتي حتى تخرجَ للشطآن الضوئية»
لا بد للقارئ أن يشعر بسياط الحزن والكآبة، ويتخيل الأثر الكبير لحيثيات العزلة والغربة التي رسمها صلاح عبد الصبور، وأن دموع الوحدة تكاد تفرمن بين سطور قصائده، ويتجلى ذلك بكل وضوح في القصائد السابقة، وأيضًا في أولى قصائده من هذا الديوان بعنوان «تأملات ليلية»، حيث تحدثَ عن نفسه وعلى لسان الصخرة تارة أو كومة الرمل تارة أخرى أو على لسان النهر؛ فيريد أن يعود الى ما كان عليه، وأن يهرب من الاختلاط بقذارات الأرصفة والحمقى الجهلاء الذين سيدنسوا نقاء وطهارة نهر الصفاء لو شربوا من مياهه.
«يسألني بول إيلوار عن معنى الكلمة "الحرية" يسألني برت بريخت عن معنى الكلمة "العدل" يسألني دانتي أليجيري عن معنى الكلمة "الحب" يسألني المتنبي عن معنى الكلمة "العزَّة" يسألني شيخي الأعمى عن معنى الكلمة "الصدق"
تتزاحم أسئلتهم حولي، لا أملك ردًا أستعطفهم، وأنام حين يُهِلُّ الصبح، أشرد في الطرقاتِ، الشمس، الأيام تسألني القدمُ السوداء عن معنى الكلمة "الصمت"»
وفي القصيدة السابقة بعنوان «مساءلات أخرى» ترتفع عظمة شعره لتصل إلى الذروة. وفي بداية الديوان قصيدة «تنويعات» كان يسأل فيها صلاح عبد الصبور الشاعر «وليم بتلر ييتس» إن كان الانسان هو الموت في مقطع أخير من القصيدة وكأنه كان يشعر باقتراب وفاته، ومات عام 1981 أي بعد كتابته لهذا الديوان بثمانِ سنوات، فأظن أن اعتقاده بالوفاة بعد كتابته لهذا الديوان قد خاب، ولكن كما قلت مسبقًا مرتين: سيعيش صلاح عبد الصبور كثيرًا، وستعيش نصوصه، وستظل محفزًا قويًا ودافعًا لكل المفتونين بالكتابة والشغوفين بالإنسانية. والتقييم للديوان: 8 من 10.
أسمع أصداء خطاي، ترن في النوافذ العمياء، وطرت بين الشمس والسحابة، ونمت في أحضان ربة الكتابة، لكنني، هذا المساء، ممددا ساقي في مقعدي المألوف، أحس اني خائف
"شجر الليل" الديوان الخامس وقبل الأخير للراحل العظيم صلاح عبد الصبور1973 ثنائية الليل والنهار لم تغب منذ الديوان الأول حتى الخامس ولكن الأوان قد آن ليمجد الشاعر ذكر الليل فيسمي ديوانه الخامس بهذا الاسم ولعل المقطوعة التي بعنوان "صوت مجموعة نساء" وتبدأ ب "شجر الليل على مفرقنا مال" هي من أجمل درر هذا الديوان وبه جوهرة فريدة بعنوان مرثية لصديق كان يضحك كثيرا وبه القلق والحزن في الليل والضجر والسأم بالنهار وبه رائعة عن الموت يتقاطع فيها مع شاعر انجليزي هو وليم بيتلر ويحاوره ويماشيه مماشاة رائعة وتظل أول قصيدة في الديوان والتي بعنوان "تأملات ليلية" نبراسا لليأس من الدنيا والناس والحياة وما أروعه في هذا المقطع اليائس التعيس الذي اختتم به تلك القصيدة حين يشبه نفسه القانطة وروحه اليائسة بكومة الرمل الرافضة أو النهر العاصي الغاضب يقول صلاح عبد الصبور
"وكأني كومةُ رملٍ تهتفُ بالأيدي ذريني فوقَ شطوطِ البحرِ القيني جنبَ طيورِ الزبدِ البيضاءْ صونيني عن آنيةِ الزرعِ الشمعي أو عن طرقِ الأمراءْ وكأني نهرٌ يهتفُ بالمجرَى : أرجعني للقممِ البيضاءْ حتى لا يشربني الحمقى والجهلاءْ "
رحمك الله والحمد لله أن لم يشربك الحمقى والجهلاء ولا داستك أقدام الأمراء وإنما وعاك الشعراء وحفظك المحبون لشعرك وتجربتك الغنية بالمرارة
لغة صلاح عبدالصبور عذبة، ناعمة، بتثلج القلب، وبجد كل وصف، كان بيمتعني حقيقي. كتابته مميزة، حقيقي حاسة هعرف أشعاره لو قريتها في أي مكان، وبجد مبسوطة إني أخيرا اتعرفت على أشعاره الجميلة.
أكتر قصائد عجبتني:
-الخجل..وهل هو شعور غريب؟ -صوت الشاعر -وقال في الفخر دي مقتطفات عجبتني أوي من المجموعة الشعرية: -"ماذا قد يحدث؟ لكني.. إحقاقاً للحق لا أسألُ أبدا، لا أسأل ماذا قد نفعل؟ مخنوقاً في كل مساءٍ بسؤالى أهوى فى قاع البئر وقد اعتدت النوم كما يعتاد المدمن وخز الأفيون" -"وكثيراً ما كانت تتهشم في فمِه الكلمات إذ يتكلم حتى تصبحَ صرخاتٍ كالريحِ المذعورة أو سقطاتٍ كالماءِ من القارورة ……. أو أصواتاً متداغمةً، لا تُفهم
أسأل أحيانا هل كان يرى ما لا نبصر أم يعلم ما لا نعلم أم كان يحسُّ بأن خيولَ الزمنِ العاتى خَلفَ خُطانا تتقدم؟" -"يعتريني المزاج الرمادى، حين تصير السماء، رمادية، حين تذبلُ شمسُ الأصيلِ، وتهوى على خنجر الشجرِ، النقطُ الشفقية تنزفُ منها، تموت بلا ضجة، ويوارى أضلاعها العاريات الترابُ الرميم"
This entire review has been hidden because of spoilers.
أتمنّى أن أُلهَمَ ذاتَ يومٍ قراءةً شاملةً في مُنجَز (عبد الصبور) الشِّعريّ. رحمة الله عليه، كان ذا نفَسٍ فريدٍ غريبٍ وطريقةٍ لا جِدالَ في أصالتِها وصدقِ النفس التي صدرَت عنها.
لكنني، هذا المساء ممددا ساقي في مقعدي المألوف أحس أنني خائف وأن شيئا في ضلوعي يرتجف وأنني أصابني العيُّ، فلا أبين وأنني أوشك أن أبكي وأنني، سقطت، في، كمين.
منذ زمان منذ اعتدتُ التفكير كما يعتاد المدمن وخزَ الأفيون وأنا أسألُ نفسي بضعةَ أسئلة قبل النوم أحيانًا، وأنا بين اليقظة والإغماء إذ أشعر أنَّي أهوى في قاع البئر المعتم ألقي عنِّ بضعةَ أسئلة ملحاحَه حتى أهوي، لا يُثْقِلُ صَدري شيء
لكنِّي، أيضا من زمان يتعلقُ في خيطي أنفاسي، لا يُفلِتُني حتَّى يلتفَّ على صِدْغيّ وعيني هذا الاستفهامُ المُحكَم ماذا قَد يحدث؟ ماذا قد يحدُث؟ لكنِّي.. إحقاقًا للحق لا أسألُ أبدًا، لا أسأل ماذا قد نفعل؟
مخنوقًا في كلّ مساٍ بسؤالي أهوي في قاع البئر وقد اعتدت النَّومَ كما يعتاد المُدمنُ وخز الأفيون
------------
ها أنا سائرٌ في الفصول، عليل صحيحٌ، كئيبٌ - وأخشى الكآبة حينًا، وتمضي الحياةُ بعيدُ مداراتها والشموس النجوم تعيد استدارتها وروحي تعيدُ ولاداتها واحتضاراتها والشموسُ النجوم والشموس النجومُ الأهِلَّةُ، يا زمنًا فاترا، يا حياةً تجرِّب كيف تقلد صورتها في الزمان البعيدِ القديم ها أنا أستديرُ بوجهي إليك، أيا زَمَنًا ليس يوجد بعدُ، أيا زمنًا قادمًا من وراء الغيوم
ها أنا أستديرُ بوجهي إليك، فأبكي لأنّ انتظاري طالَ، لأن انتظاري يطولُ، لأنَّك قد لا تجيء، لأن النجوم تُكَذِّب ظنِّي، لأن كتابَ الطوالع يزعم أنك تأتي إذا اقترن النسر والأفعوانُ، لأن الشواهدَ لم تتكشَّف، لأن الليالي الحبالى يلدن ضُحًى، مجهضًا، ولأن الإشارات حين تجيء.. تجيءإلينا الإشارات من مرْصَدِ لغيبِ، يَكشِفُ عن سِرِّها العلماء الثقاتُ، تقول: انتظار عقيم ! انتظار عقيم ! انتظار عقيم !
مُنذُ زَمانْ منذُ اعتدْتَ التفكيرَ كما يعتادُ المُدمِنُ وخزَ الأفيونْ وأنا أسالُ نَفسي بِضعةَ أسئلةٍ قبلَ النَومْ أحيانًا، وأنا بينَ اليقظةِ والإغماء إذ أشعرُ أني أهوى في قاعِ البئر المُعتِمْ
ألقي عني بضعةَ أسئلةٍ مِلحاحة حتى أهوي، لا يُثقِلُ صَدري شىء لكني، أيضًا مُنذُ زَمانْ يتعلّقُ في خيطِ أنفاسي، لا يُفلتُني حتى يلتفَ على صَدغي و عَيني هذا الاستفهامُ المُحكَمْ : "ماذا قد يحدث ؟" "ماذا قد يحدث ؟" لكني … إحقاقًا للحقِ لا أسألُ أبدًا ، لا أسألُ "ماذا قد تفعلُ ؟"
مخنوقًا في كُلِّ مساءٍ بسؤالي أهوى في قاعِ البِئر وقدِ اعتدتُ النومَ كما يعتادُ المُدمِنُ وخزَ الأفيون..
ها أنا أستدير بوجهي إليك، فأبكي لأن انتظاري طال، لأن انتظاري يطول، لأنك قد لا تجيء، لأن النجوم تكذب ظني، لأن كتاب الطوالع يُزعم أنك تأتي إذا اقترن النسر و الأفعوان، لأن الشواهد لم تتكشّف، لأن الليالي الحبالي يلدن ضُحيً مجهضًا، ولأن الإشارات حين تجيء... تجيء إلينا الإشارات من مرصدِ الغيب يكشفُ عن سرها العلماء الثقات، تقول: ٰ انتظار عقيم! انتظار عقيم!
أين أعلق تذكاراتي والحائط منهار ؟! أين أسمر حزني ... شغفي أفراحي ولهي ... لهفي والحائط منهار ؟!
هذا الديوان حيث الكلمة السلسة والشاعرية المفرطة .. أنصح به من لم يفتتح شعر صلاح عبد الصبور بعد أن يستهل به .. ديوان مفرط في الروعة .. مغرق في تجاوزه حد اللمس إلى حد الاندماج ..