لقد حاولت جهدي في مشروع البحث هذا، انتشال انتفاضة الفلاحين بالوسط الغربي التونسي عام 1906 من العتمات المطبقة التي ظلت تلفها و هي عتمات كما هو معروف حبك الاستعمار الفرنسي خيوطها و أحكم نسجها. أو ليست هذه الانتفاضة معارضة للنظام الاستعماري بتونس و تفنيدا لأطروحاته و خروجا على قواعده؟ لقد حاولت تشريح حيثيات انتفاضة 1906 و تحليل أطوارها و اختراق خباياها و تقييم أبعادها بدون زيادة أو نقصان أو تركيز على نقاطها المضيئة دون نقاطها المظلمة. و إذا كان من حقي أن أقف إلى جانب الفلاحين فليس من حقي أن أزور الحقيقة انحيازا لهم. و لا أزعم أنني استوفيت كل ما يمكن أن يقال عن هذه الانتفاضة ، فلا بد أن تعقب أية دراسة تاريخية إن آجلا أو عاجلا دراسات أخرى. و هذه الدراسات الأخرى بدورها لا تنجو من سريان هذه القاعدة عليها. هذه الدراسة ليست في نهاية المطاف سوى محاولة لتعبيد الطريق و دعوة الآخرين إلى أتباعها.
كلما رأيتُ وجه الغلاف بلونيه الأحمر و الأبيض، لونا الوطن و رمزا النضال في تونس، ارتسمت صورة مناضلين عظيمين يجلهما التونسيون يمختلف أطيافهم و ايديولوجياتهم و افكارهم. و لعلّ بورقيبة و بن يوسف و حتى فرحات حشاد، لا يملكون ذلك الإجماع الصامت الخاشع الذي يملكه مؤسس الحزب الحرّ الدستوري (لا الحزب الدستوري الجديد الذي اسسه بورقيبة سنة 33) و أعني هنا عبد العزيز الثعالبي صاحب كتاب تونس الشهيدة. أذكر عبد العزيز الثعالبي هذا المناضل الفذّ كلما تذكرتُ خطرة الفراشيش التي يتناولها الكتاب بالبحث. يقول المؤرّخ إن الرجل كان ساخطا على الانتفاضة و مُدينا لها، مثله مثل بقية جماعة نضال الفكر و القلم الذين ظهروا قبيل عشرينات القرن الماضي.. أتساءل في حيرة، إن رأى هؤلاء المناضلون الافذاذ جياعا، هل عرفوا مرة معنى أن يموت الإنسان من الجوع؟ في النهاية، هل عرفوا حقا معنى الاحتلال في أعمق صوره و أبلغها؟ كان عبد العزيز الثعالبي رجلا وطنيا فذّا لكنّه غير قادر على استيعاب أن هؤلاء العرايا الكادحين في أرض لا زرع فيها و لا ضرع، هم أيضا بشر. لا غريب في النهاية، أن ورثة الحزب الدستوري، أعني جماعة الحزب الدستوري الجديد حينما استلموا الحكم، نسوا أن هناك أرضا لهم و شعبا قرب الجزائر.. لا غريب أن جهات البلاد الداخلية لم يتذكرها أحد فيما بعد، و لا غريب أيضا أن هؤلاء الناس، هم من أشعلوا ثورة البلاد أيضا. زاد في قتامة الصورة، انتصار صحفية فرنسية لهم، و دفاعها المستميت عنهم، في وقت تنكر فيه لهم أبناء بلدهم. إنّ صورة عمر بن عثمان، الدرويش المجنون الذي لا يعي ما يفعل، تحمل رمزية مرعبة فعلا. رمزية لا يراها التاريخ و لا خدمه، لأنهم يحتاجون إلى أمراء من طينة عليّ بن غذاهم، حتى عندما يحاولون الانتصار إلى الفقراء، فليس كل الفقراء سواسية.
الهادي التيمومي يقدم بحثا جيدا، و مستفيضا للحادثة، مرفوقة بكل المعطيات الممكنة و المتوفرة. و لا أعرف هل إنّ كل المؤرخين التونسيين بهذه الجودة أم لا، لكن المؤكد أن الرعاية الاعلاميّة بهم و بأعمالهم لا تقل كثيرا في انحرافها عن اهتمام مناضلي الأمس، بالجهات الداخلية للبلاد.