كان لصدور هذا الكتاب عام 1955 عن دار الفكر الجديد أصداء وردود فعل لم تتوقف حتى اليوم. كان الكتاب بحق الإبن الشرعى لمرحلة حية من مراحل الغليان فى الإبداع الأدبى والفكرى خلال سنوات الأربعينات وبداية الخمسينات .. قال د. طه حسين عن مقال من مقالاته إنه "يونانى لا يقرأ" وقال العقاد عن كاتبيه عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم "إننى لا أناقشهما وإنما أضبطهما .. إنهما شيوعيان " .. وفى الحقيقة لم تكن القضية قضية وضوح أو غموض كما قال طه حسين أو شيوعية أو غير شيوعية كما قال العقاد, فالكاتبان لم يخفيا إنتمائهما للماركسية وإنما كانت القضية هى تحديد وتجديد مفاهيم النقد الأدبى العربى.
كتاب رائع قرأته بعد عدم اقتناعي بجزء كبير من نقد جلال أمين له في كتابه "ماذا حدث للثقافة في مصر؟"، وقدم حمسني لقراءة كثير من الأعمال الأدبية. أنيس والعالم عملاقان قلما يجود الزمان بمثلهما!
لو كان هذا نقدًا أدبيًا فما أسهل النقد! ولكنه منشور أيديولوجي سياسي، وكانت توقعاتي عالية لهذا الكتاب، ولكنها مع ذلك لم تتمخض عن شيء، وأحسبني في البداية ينبغي بي أن أقول إنني أعي أن الأيديولوجية الثقافية للكاتبيْن اليسارييْن، هي سبب دعوتهما المكشوفة في هذا الكتاب لمذهب الواقعية الاشتراكية في الأدب، فهذه بعض مخلّفات الفكر الماركسي .. الميّت منذ زمان، ولكن إن نحّيت هذا جانبًا ونظرت في الكتاب نفسه بين يدي، وبعد تلك الصفحات النظرية عن معنى الواقعية الاشتراكية، فلا أجد سوى أن أقول إنّ التطبيق العملي كان .. صبيانيًّا! ولا أجد كلمة أفضل من هذه لوصف هذا الكتاب.
ثم أن كمّية تعالى المؤلفين تزكم النفس فعلا، وخاصة في ردّهم على العقاد، واستكبارهم عن الاعتراف ببساطة أنهم وقعوا في خطأ فاضح في الاستشهاد بكلامه، خطأ جدير أن يقلب المائدة كلها عليهم، ثم عندما حاولوا تطوير الهجوم عليه بعد ردّه عليهم، وقعوا في فهاهة عقلية نتيجة رفضهم الاعتراف بخطئهم، حتى عندما ردّ العقاد عليهما مرة ثانية، أبوا أن يستشهدوا بكلمة واحدة من ردّه الثاني، واكتفوا بالقول لجمهور قرائهم، وحدهم، إنه – أي العقاد – لم يأت في الردّ الثاني بجديد وإنما جلس يلفّ ويدور حول نفسه ويشتمهم، وفقط، ولكن ماذا قال؟ لا شيء من ذلك، ويا لأمانة القلم صراحة!
ولنعد إلى قصة هذا الصراع، فقد كتب المؤلفان مقالة أتوا فيها بذكر العقاد، وعند نعيهم على القدامى أنهم يهتمون بالبيت المفرد في القصيدة، بغضّ النظر عن "الظاهرة الأدبية في الوحدة العضوية المتكاملة للعمل الأدبي، وإنما في البيت، في المعنى، في العبارة المنفردة"، كما قالوا، قالوا إنّ العقاد يترنّم بهذا البيت: وَتَلَفَّتَتْ عَيني فَمُذ خَفِيَتْ عَنّي الطُلولُ تَلَفَّتَ القَلبُ
ليقرّر عنده أنه يساوي عنده ألف قصيدة، بدلاً من اهتمامه بالوحدة العضوية للعمل الأدبي .. إلخ
فيقولا: هذا هو جوهر أزمتنا التعبيرية في أدبنا المصري الحديث، وهذا هو مصدر ما يعانيه نقدنا الأدبي من جمود وتقصير وعجز
وهذا ما فهماه وما توهّما أنه قرآه في كلام العقاد، ولكن العقاد لم يقل ذلك قطّ! فقد قال إنّ هذا البيت يساوي لديه ألف قصّة (وليس قصيدة، والفارق ضخم وسيتضح بعد قليل) وعنى بذلك عمق الأسلوب الشعري فيه وقوّة التصوير الذي يمتدّ أثره في الخيال ليجعل القارئ أو السامع له يتخيّل هذا المشهد بصورة ثريّة التفاصيل جاءت في كلمات موجزة حسب طبيعة الشعر، والشاهد هنا أن المسألة بهذا الشكل قد خرجت عن نقد القصائد، ووحدة البيت الشعري، والوحدة العضوية أو الفنية في الشعر كله، لأن العقاد كان يريد في حديث إعجابه بهذا البيت مقارنة ثم تفضيل الخيال الشعري عن الخيال القصصي، وأن الأول يخلق بكلماته القليلة ظلالاً كثيفة من الخيال حول المشهد، بشكل لا يقوم به النثر إلا بإسهاب مطوّل، ولذلك فالمعنى الوارد في البيت الشعري الجميل المكثّف نتيجة طبيعة الشعر، قد يعدل لديه ألف سطر نثري مليئة بالحشو غالبًا، كما هي حال طبيعة الفن القصصي، ولم يكن يقصد هذا البيت وحده من القطعة الشعرية بطبيعة الحال، ولا كان يقصد قطّ وحدة البيت من عدمه، ولكنه ضرْب المثل الواضح بين الأسلوبين الشعري والنثري، وهذا ما غاب تمامًا عن ذهن المؤلفيْن رغم ردّ العقاد عليهما اللذان لم يريا فيه سوى أن العملاق والإله الكبير – بتعبيرهما! - قد تنازل للردّ عليهما، فجعلا سخرّيتهما القزمة منه هي عماد ردّهما هما عليه، وكأنهما – حقًا – قزم فرح بوقوع عملاق في شباكه فراح يرقص طربًا حوله.
هذا وأنّ العقّاد لفت نظرهما في مقاله الأول في الردّ عليهما، إلى أنّه، من ناحية أخرى، قد نادى منذ أربعين سنة بضرورة وحدة القصيدة الفنية، وإنّه أكثر هذا القول كثيرًا من قبل في نقده لشوقي وغيره، فكيف ينعون عليه شيئًا طالما حاربه إن لم يكن في الأمر سوء فهم منهما! – وهذا شيء لم يشر إليه المؤلفان قط من مقالهما الأول، ولم يذكرا أن مذهب العقاد في نقد شوقي والمدرسة الكلاسيكية كان متحوّرًا حول معنى الوحدة الفنية في القصيدة لا البيت المفرد، لم يذكرا هذا قطّ وجعلا العقاد فحسب من دعاة البيت الواحد وجماليّاته! مع أن شعره ونقده ينقضان هذه التهمة من جذورها لو عادات إليها.
ولكنهما لم يعودا، وتصرّفا بشكل صبيانيّ تمامًا لا يصدر إلا عن صغار النفس، فقد نشر العقاد، من قبل، قصيدة في العهد الملكي في مدح النقراشي، رئيس الوزراء حينذاك في زمن القصيدة، من مجلس الأمن، عام 1947، بعد أن طالب باستقلال مصر هنالك، بدون قيد أو شرط، وصاح صيحته الشهيرة في مجلس الأمن ضد إنجلترا، وهي: "أيها القراصنة أخرجوا من بلادنا"، هذا وقد أتى العقاد في قصيدته تلك، ويا للكارثة، بأبيات في مدح الملك فاروق، فأتى المؤلفان الصبيّان بأبيات مديح الملك فاروق، بعد أن زال العهد الملكي، وقالا لعموم قرّاء صحيفتهما: انظروا إلى هذا " النفاق الرخيص لملك سابق كان عدوًّا للحركة الوطنية وحقوق الأمّة"، كما كتبا، هذا مع أن النقراشي يعني كان رئيس وزرائه يعني! وأن الحكومة المصرية كانت تقوم بهذه المفاوضات الأخيرة بالتنسيق التامّ مع الملك، خاصة أنها لم تكن حكومة أغلبية وفدية يعني! – أي ضد الشعب بما أن الوفد كان يقوم بدوره حينذاك من مقاعد المعارضة! – فهو أسلوب رخيص منهما.
ما يهم، إنهما بعد أن أوردا أبيات المديح للملك فاروق، وأثارا عليه بشكل صبياني مشاعر القرّاء واتهموه بالنفاق والمديح الرخيص، وخاصة أن الثورة كانت ما زالت أحداثها ساخنة، في تلك السنوات الأولى من الخمسينيات التي كتبا فيها مقالتهما هذه، ما يهمّ، أرادا بعد كل هذا أن يثبتا أن أبيات المديح هذه بالذات متفككة، وتناقض وتخلّ بمعنى: "الوحدة الفنّية بها"، الذي نادى العقاد بها طوال حياته، وهذا طبًعا للسخرية منه.
فماذا فعلا؟!
أخذا أربعة أبيات منها وهي: مليكٌ يلوذُ به عرشه ** وكمْ ملكٍ بالعروشِ اعتصمْ وذو عَلَمٍ، تستظلُّ الملوكُ ** بأعلامها، ويظلّ العَلَمْ وراعٍ رعيّتهُ عزّهُ ** إذا عزَّ بالصخرِ باني الهرمْ أبَى المُلْكَ إلا كما شاءَهُ ** منيعَ الجوارِ، رفيعَ الدعمْ
وللتدليل على افتقادها للوحدة، قاما بإعادة ترتيب ثلاثة أبيات منها، فصارت النتيجة على يدهما: مليكٌ يلوذُ به عرشه ** وكمْ ملكٍ بالعروشِ اعتصمْ أبَى المُلْكَ إلا كما شاءَهُ ** منيعَ الجوارِ، رفيعَ الدعمْ وراعٍ رعيّتهُ عزّهُ ** إذا عزَّ بالصخرِ باني الهرمْ وذو عَلَمٍ، تستظلُّ الملوكُ ** بأعلامها، ويظلّ العَلَمْ
ثم قالا– فرحين – "وليس بعد هذا دليلاً على تفسّخ العمل الفني وانهياره، وقد ضربنا مثلاً واحدًا لضيق المقام، والذي يتابع قصائد العقاد يجد أكثرها على هذا المنوال، فلا وحدة عضوية بالمعنى السليم، ولا حتى وحدة المعنى والموضوع في بعض الأحيان".
أما أنا فقد ضحكت، لما فعلاه أولاً، ولما زعماه ثانيًا أن أكثر شعر العقاد هكذا، وهذا مخالف للحقيقة، ويكفي للتدليل مطالعة أي من دواوينه العشرة ورؤية كيف أن القصيدة وحدة متصلة لديه، ولكنهما اكتفيا بهذا المثال الواحد، لضيق المقام، فلأكتفي بالمثل بنقد نقدهما لهذا المثال الواحد، والذي فيه، كما لاحظتم، قد حافظا على البيت الأول منه، والذي هو بدأ وصف الملك (المليك)، ولم يكن بوسعهما تأخيره أو تقديمه على أي حال، لأنه مبتدأ القطعة، وأي عبث بمكانه ستختلّ الأبيات ولا يعود لها رابط، ولذلك فقد تركاه وأمسكا في ما بعده من الأبيات الثلاثة ليعيدا الترتيب كما رأيتم قبل قليل، ولكي يتضحّ سخف ما فعلوه و"صبيانيّته"، دعونا ننثر التركيب الأصلي لهذه القطعة التي عبثوا بها.
فقد قال العقاد ما معناه نثرًا: "إنّ هذا المليك: الأكبر من عرشه، والأشهر مكانة بين الملوك، والذي يستعزّ بشعبه، هذا المليك قد أبى لملكه سوى أن يكون قويًا جديرًا بالمطالبة باستقلاله".
فجاء هذان الصبيّان وعبثا بهذه القطعة ليثبتا اختلالها، فلم يجدا سوى أن يجعلاها هكذا في نهاية المطاف: "إنّ هذا المليك: الأكبر من عرشه، قد أبى لملكه سوى أن يكون قويًا جديرًا بالمطالبة باستقلاله، وهذا المليك يستعزّ بشعبه، وهو الأشهر مكانة بين الملوك".
وظاهر لكل ذي عينين (إلا المؤدلج) أن المعنى لم يختلف من قبل ومن بعد، فكلّ ما لجأ إليه المؤلفان هو التقديم والتأخير، استعانة بحروف العطف، وهذا يشبه تمامًا أن لو أحدهم قال: "هذا الرجل كريم وأمين، وقد تعاملتُ معه"، فأتى صبيٌّ متعالم ليقول له ما هذا الاختلاط في كلامك أيها العجوز ويا لهذا التفكيك التي تقوله، ولو أذنت لنا فسنكشف للناس من حولنا كيف أن كلامك منهار ومتفسّخ، فيقول الرجل بهدوء: وكيف هذا؟ فيجيب الصبي بفخر: لأنها متفككة في الأصل فلو بعثرناها وقلنا: "هذا الرجل، الذي تعاملتُ معه، أمين وكريم" لظهر وبان للجميع أنه لم تكن ثمة روابط تربط الكلمات في الأصل، ثم يصيح متفاخرًا في الناس من حوله: انظروا كيف قلبتُ لكم كلمات جملته تمًامًا وأثبتُّ لكم أنه معتوه خفيف العقل!
وسؤالي لكم: مَن المعتوه هنا؟!
وأهذا هو معنى الوحدة العضوية في زعم المؤلفين!
وما كلّ هذا الدسّ والكلام الرخيص عن العقاد، حتى أنهما صوّراه بالربّ الكبير بين أتباعه الساجدين من حوله (وقالا هذا نصًّا!) والذين نبّهوه – وهو وسط مشاعل حكم الأرض والسماء (!) – إلى ورورد اسمه في مقالتهما المنشورة في الجريدة الفلانية، ليهبّ الإله العملاق غاضبًا، بعد طول رقدته، ويكتب ردّه عليهما! - ما هذا العبط حقًا وسوء الأدب وثقل الدم وخفّة الشباب ونزقهم أمام اسم مشهور وهم، بعدُ، لا يزالون شبابًا لا يعرفهم أحد!
بئس الأدب النقدي هذا!
ثم إذا تجاوزنا هذه الناحية مع العقاد بأكملها، فالمؤلفان سيئا الظنّ مع تاريخ الشعر العربي، فهما يكرهان القافية لدرجة لا حدود لها، فأي شاعر "عصري" لديهم يستخدم القافية في شعره، وعلى النمط المعروف القديم، فأنّ هذا يعد نقصًا فيه، فرؤيتها للقافية تتلخّص في أنها تقطع النفس الشعري وتجعل البيت كأنه وحدة مستقلة، وهذا سوء ظن وسوء استقراء وسوء قراءة للشعر أيضًا، ولعلّ عدم فهمهما للوحدة العضوية والفنية في أبيات العقاد التي حاولا اللعب فيها لإظهار شيء لا تتضمنّه أصلا، كما أوضحت، لعلّ هذا الفهم يعود إلى هذا العداء للقافية الذي يجعلهما ينظران إلى أيّ قصيدة مقفّاه على أنها تقوم بنظام البيت الواحد المستقل! ومن هذا السبيل أيضًا نقدهما لمحمود حسن إسماعيل، في شعره المقفّى بالذات، مع أنه يكتب الحرّ والمقفّى بنفس الجودة، لأنهما صادرنا عن طبيعة واحدة لشاعر مطبوع، فقالا من وراء أيديولوجيتهما اليسارية: وازدحام الصور عند محمود حسن إسماعيل وانعدام ترابطها الحيّ، وتركيز الصور في أغلب الأحيان في الحدود البيتية المقفلة، يبدّد مغامراته الخيالية، ويزيّف من تجاربه الوجدانية، ولو قامت أخيلته في قوام شعري مرسل، لنجح في بناء فنّي أفضل من هذه التراكيب المجهدة بالأخيلة. أوّاه يا ربّي لو لم أكن عبدًا لهذا الخيالْ
والكلمات الأخيرة من قصيدة متبادلة القوافي والأوزان لمحمود حسن إسماعيل، منها هذا المقطع الذي أخذا منه الاقتباس الأخير: رمانيَ الرقّ بدنيا زوالْ مغلولِة الجنبِ وقال: حَوِّمْ في سفوح الجبالْ واهبطْ على العشبِ واضربْ جناحيكَ بأفّقِ المحالْ واسألْ عن الغيبِ وها أنا.. لاشيء إلا ضلالْ سارٍ مع الركبِ أواه ياربي لو لم أكن عبدًا لهذا الخيالْ
ولكن بدا للمؤلفين أنّ المعنى الأخير يناسب، أكثر، حالة الرقّ والغلّ التي تُلبسهما القافية و"الحدود البيتية المقفلة" (!) – كما قالوا – للشعر، فاستشهدا بها والسلام، لذلك أيضًا قالوا إنّ خلاص شعره من التراكيب المجهدة بالأخيلة يكمن في تخلّصه من القافية وحدود البيت القديم، وكأنّ فعلاً الفكر الماركسي يقول ببساطة بدّل أثوابك فتبدّل طبيعتك!
كذا وقد ظهر ملمس آخر لهذه الأيديولوجية أيضًا، في حديثهما عن أدب نجيب محفوظ، وهي قولهما: ولولا إصرار نجيب محفوظ على إدارة الحوار باللغة العربية الفصيحة لكان هذه من النجاح الفني أوفر وأكمل، فالحقيقة أن نجيب محفوظ يستفزّ القارئ بحواره الفصيح الذي يجري على لسان شخصيات من صميم قلب الشعب المصري وأحيائه الشعبية.
هذا مع أن المؤلفين يعترفان حقًا بموهبة محفوظ الضخمة، ولكنهما ينعيان عليه اختلافه عن مذهبهما كما يريانه بشكل مثالي جدًا، كما ينعيان عليه نقطة الحوارات هذه، والحقيقة أن هذه نظرة ضيقة لمعنى كلمة الواقعية في الفن، والحقيقة كذلك أن عامل اللغة الفصيحة هي ما جعل نجيب محفوظ يتوجّه بكل أدواته الفنية إلى دواخل الشخصيات الشعبية الصميمة ليحسن التعبير عنهم، فلربما إن كان قد استكان إلى إيراد الحوارات بالعامية وانخدع بطلائها و"واقعيتها"، لصرفه ذلك عن الإجادة في رسم الشخصية نفسها بحيث يجعل الكلام الفصيح يليق بروحها الشعبية، وهذا ما وُفّق فيه، ولم يقل أحد حسب علمي أن عالم نجيب محفوظ غير حقيقي وغير واقعي بسبب استخدامه للحوارات العربية على لسان شخصيات الحارة المصرية، فهذا توهّم وعبارات نقدّية تكذّبها قراءة القرّاء لأيّ من تلك الروايات المنقودة، ولا شك أن رسم الشخصية أفضل ألف مرة من رسم حواراتها بلغتها المحلّية.
ولا أنسى هنا أن مجمل رأيهما في بعض روايات نجيب محفوظ وغيره هو الدعاية لنوع واحد أحد من الأدب، والتمنّي له أن يسود الجو الأدبي، وهو نوع يتوافق مع أيديولوجيتهما بالتأكيد، وهو ذلك النوع الذي تظهر فيه شخصية البطل الإنسان "الذي يغيّره العالم ويغّير العالم، الإنسان الذي يجاهد ليخلق نفسه من جديد، الإنسان التاريخي"، ولكن يستحيل على نجيب محفوظ وأضرابه، مما يسمّونهم بالكتّاب البرجوازيين، في رأي المؤلفين، أن يقدّموا مثل هذا البطل، ولماذا؟ - لأن قبول مثل هذا البطل في روايتهم: " يعني بالتبعية إدانة العالم البرجوازي، والاعتراف بالمصير التاريخي للرأسمالية والاستعمار، وبالقوى التي تعمل في المجتمع من أجل هذا المصير" – كما كتبا – وأضافا: "والكاتب البرجوازي الحديث يفزع من اتخاذ موقف في أي شيء، إنه يخشى القوى الهائلة التي ستنطلق من عقالها في رواياته إذا حاول أن يخلق هذه الشخصية الإنسانية، الحبيبة أو الكريهة، ولذا فهو يفضّل أن يتعرّض لعالم هادئ من الحدائق وغرف الاستقبال والأحاديث الطويلة والتحليل المرهف للمشاعر، ومن المسلّم به أن هذه الأمور ليست إلا إنعكاسات للعالم الخارجي الذي يخشاه الكاتب".
أحسست أن هذا الكتاب حقًا يُدسّ السمّ في العسل، وأنّ خلف هذه الكلمات الثورية البرّاقة واللامعة والضخمة تطلّ ابتسامة خبيثة لشخص يعرف جيدًا كيف يخفي غرضه الأساسي غير المكتوب، مثل دعاة التبشير في أدغال أفريقيا.
نص أيديولوجي خطير ضد الأدب المصري والثقافة المصرية في العصر الملكي، لكن قيمته كعمل في النقد الأدبي لا تتجاوز موقعه التاريخي كإسهام هام في تطوير النقد الثقافي في مصر، وإلا فالعالم وأنيس بدون قصد يهدران البعد الفني والإنساني في العمل الأدبي ويحاولان أن يفرضا على الأديب ما يجب أن يقوله - يجب أن ينتمي النص إلى الواقعية الاشتراكية ليقبله الناقدان وكأننا أمام عضوين في الحزب الشيوعي السوفيتي في روسيا ستالين.
بكلمة، يمكن أن نقول أن هذا العمل ممتاز كنص في النقد الثقافي ربما يمثل اجتهادا عربيا يستحق الاحترام في ساحة النقد الثقافي التي لم كانت آنذاك في مهدها الأوروبي كذلك قبل نضجها مع أعمال إدوارد سعيد، لكنه يبقى ضعيفا كنص في النقد الأدبي.
نقد جيد، لكنه أشبه بمانفيستو أيدلوجي غير مريح تجاه بعض الأدباء. أستطيع أن أفهم ما يقصده محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس بضرورة عدم انفضال الشكل عن المضمون خلافًا للمدرسة (القديمة) التى خاضوا فى نقدها كثيرًا. لكننى أرى فى الحقيقة، انهم لم ينقدوا مدرسة أدبية، وهى المدرسة الأدبية المصرية بقيادة طه حسين وغيرهم، لكنهم فى الحقيقة قدموا نقدًا لبعض الأعمال دون غيرها.
نقطة أخري تتصل بأنهم حين سموا منهجهم النقدي بالمنهج الواقعى، نسوا أن يسموه يقولوا أنه منهجًا واقعيا اشتراكيًا. وللأسف هو فى بعض الأحيان، يذهب الى تبنى نموذج أدبي يتم فرضه على الأدباء كما حدث فى روسيا الاستالينية. فى بعض الأحيان كنت بيتبنوا وجهة نظر معينه للأحداث السياسسة فى فترة مره، ويرغموا الأديب على تبنى وجه النظر ده، ومن ثم يجب عليه أن يطور شخصياته وفقًا لوجهة النظر المفترضه دى. وده فعلا شيء عنيف للغاية رغم ما يزين كلامهم من الإحترام وإحترام الموضوعية. كأنهم بيقولوا للأديب: إيه ده إنت ازاى مش شايف اللى احنا شايفينه! لازم تشوفه! وإلا يبقي متشوفش!
أعتقد النص ينفع فى بناء أدب مؤدلج، لكنى لا أعتقد أنه يصلح أنه يكون مثال للنقد الأدبي فى عصرنا الحالى، على رغم من كونه نص مهم واشتباك جميل ومتحمس للتغير، وهذا عظيم فى حد ذاته.