نقد معمق البحث يجمعه الباحث والكاتب اللبناني " علي حرب " في كتاب ( أصنام النظرية و أطياف الحرية / نقد بورديو وتشومسكي ) حيث يتصدى لـ نقد عالمين كبيرين مثقفيين .. يتصدران أعلى الساحة العالمية واجهة الدفاع عن حقوق الانسان .. وقضايا الشعوب .. هما " نعومي تشومسكي " في حقل الدرس اللغوي .. و " بيار ديو " في حقل الدرس المجتمعي .
الكتاب غني وممتع في تسلح الناقد بـ منهجية واضحة .. وبـ أدوات استقصاء وكشف ملائمة في تناوله لـ " بارديو و تشومسكي ". " بيار بورديو " عالم اجتماع فرنسي .. ومفكر بارز .. يقود حركة سياسية جديدة .. أطلق عليها مسمى ( يسار اليسار ) وينتقد الليبرالية الجديدة .. ويناهض النظام العالمي.. وله حملات متكررة ومتصاعدة ومتناقضة على وسائل الاعلام ( المرئي والمكتوب ) خاصة التلفزيون ويرى " علي حرب " أن " بورديو " يتعامل مع مهنته على نحو نضالي تحرري .. سواء تم ذلك بـ صورة مضمرة كما في بداية عمله الأكاديمي أو بـ صورة معلنة وصريحة كما يفعل الآن .. حيث يتحول معه علم الاجتماع إلى سلاح سياسي .. هذا المنحى النضالي قد تجسد في سعيه الدؤوب والمتواصل لـ تفكيك الآليات والمؤسسات الرمزية أو المادية للأطر والهيئات المجتمعية المختلفة كـ العائلة والمدرسة والكنيسة والجامعة .
ويناقش المؤلف نقد " بورديو " لليبرالية الجديدة وحملته على وسائل الاعلام التلفزيونية خاصة .. متهماً الشاشات بـ أنها تفبرك كتاباً وعلماء وفلاسفة لا يستحقون المواقع التي يحتلونها في مهنهم المعرفية .
ثم ينتقل المؤلف لـ نقد " تشومسكي " من خلال كتابه ( اللغة ومشكلات المعرفة ) حيث يناقش نظرية " تشومسكي " التوليدية والتي ترى أن اللغة البشرية ملكة فطرية ذات جوانب ابداعية تتجلى في القدرة على فهم وانتاج ما لا يتناهى من الجُمل الصحيحة من خلال نسق صوري متماسك يدخل في التركيب العضوي للدماغ بقدر ما يشكل جزءً من النظام الإدراكي هذا النسق اللغوي الوراثي قوامه جملة محددة من المبادىء يُسميها " تشومسكي " ( الكليات النحوية ) ويرى أنها تتحكم في جميع اللغات البشرية .. في حين يرى الناقد " علي حرب " أن الأحرى أن تفهم اللغة كسيرورة ابداعية تتيح عبر الفاعلية التخليية والمفهومية.. التعامل مع المعطيات الطبيعية .. بـ صورة آلية .. أي بـ صورة مفتوحة ومرنة .
وينتقل " علي حرب " في نقده لـ " تشومسكي " بين عدة عناوين هي ( تشومسكي بين النجومية والامبرالية ، الحتميات ومآزقها في تفسير الظاهرات ، العدالة والمساواة بين النظرية اليابسة والتجربة المعاشة ).
ثم يخلص المؤلف في ( خلاصة ) في آخر الكتاب على أن ( الأزمة مجالاً للمعرفة ) مقدماً سياسة معرفية يتغير معها عمل الفكر على عدة مستويات ( على مستوى الرؤية ، وعلى مستوى المنهج ، وعلى مستوى المعاملة )
الكتاب صدر عن المركز الثقافي العربي .. في طبعته الأولى .. ولا تتجاوز صفحاته المائة صفحة .. وله ثلاث أقسام .. تتصدره مقدمة بـ عنوان الحرية والمصادرة ، وفي رؤى معرفية مختلفة حول عالم وعلم الاجتماع وسلطة الثقافة وحقولها المتعددة .. وتوليد الأفكار في اطار نقد " بورديو " و " تشومسكي " .
ويؤكد الكتاب الشيق الآلية النقدية التي يستخدمها على أن النقد النقد هو ممارسة حرية التفكير بعيداً عن المصادرة تحت أي شعار .. ولو كان يتعلق بـ الدفاع عن الحقوق .. والحريات العامة .
كاتب ومفكر علماني لبناني, له العديد من المؤلفات منها كتاب نقد النص و هكذا أقرأ: ما بعد التفكيك ويعرف عنه أسلوبه الكتابي الرشيق وحلاوة العبارة. كما أنه شديد التأثر بجاك دريدا وخاصة في مذهبة في التفكيك.
وهو يقف موقفاً معادياً من المنطق الصوري القائم على الكليات العقلية التي يعتبرها علي حرب موجودات في الخارج وليست أدوات وآليات فكرية مجردة للنظر والفكر. فهو يتبع منهج كانط في نقد العقل وآلياته وبنيته الفكرية.
يتخذ النقد عند علي حرب، شكلا ومضمونا ثابتين، لا يختلف في نقده أن يكون موجها لعالم اجتماع كبورديو أو ناقد أدبي كنصر حامد أبو زيد أو مهتم بالفلسفة كالجابري أو عالم لغويات كتشومسكي ، فالنقد دائما قالب ذابت يتم تغيير الأسماء فقط ، هذا القالب يمكن تشبيهه بنوع من التطفل ب"أصنام النظرية" ، يكتفي حرب دائما بتكرار مجموعة عبارات وجمل وعظية عن المنقود، وينضح نصائح ثابتة، دون عمق أو خصوصية للمنقود . كمثال على ذلك القالب مثلا : ينطلق هذا الخطاب من لاهوت التنوير، وأصنام العقل النظري، ولا يختلف في شئ عن اللاهوت الديني، قوالب نظرية يتم تكرارها وعبادتها، دون مراجعة، وتنظر للحقيقة كماهية ثابتة أو أصل مفقود يتم الرجوع إليه باستمرار، دون أن تنظر للحقيقة مإمكانات مفتوحة وللمعرفة كحقل لتوسيع الدلالات ، إن الكاتب يصدر كلامه عن نظرة قديمة للمثقف النخبوي العضوي، الذي لم يعرف بعد أن دور المثقف النخبوي قدانتهى للأبد، ولم ينتج إلا ترسيخ ما حاول أؤلئك المثقفون محاربته .. في النقطة الأخيرة التي يكررها علي حرب دائما، والخاصة بدور المثقف ، يكون حكمه على دور المثقف نابعا من رؤيته أن المثقفين فشلوا فيما حاربوا من أجله، ويكفي ذلك دليلا على فشل نظرياتهم ، وحاجتها للمراجعة، وإن كان هذا النقد له فائدته، إلا أنه من الصعب بالنسبة لي،أن أعرف معيارية هذا النقد، فمن الواضح أن حرب رغم أنه يدعو لنبذ فكرة المثقف النخبوي، إلا أنه يبني نقده للمثقفين بفشل مشاريعهم، فهل المطلوب مثلا، هو وضعية تناصر الواقع أي واقع، لكي تكون النظرية حينها قوية وصلبة ؟
الحقيقة ليست موجودة في الواقع، بل تُخلق عن طريق العمل. بدلًا من أن نقول "الحياة قاسية"، يمكننا استبداله بقول "ما صُنِع هو القاسي"، ليكون نقدنا مركزًا على المشكلة المطلوب حلها بدلًا من الهروب والانتكاس للخلف وتأنيب الضمير. الواقع يحتاج إلى عملٍ مُبدع، فخالق الحياة ليس من يعيش في عوالم التجريد والهرطقة الميتافيزيقية، سواء في صورها الدينية أو الفكرية.
الواقع متخيلٌ يفتح إشكالات، وهو أمرٌ قد يرفضه شخص ما طالما يشبع رغباته النفسية. فهل استبدال الواقع الحسي بالمتخيل والعيش فيه يكون أفضل للبشرية وجميع المخلوقات الحية؟ تذكرت أنمي ناروتو وفكرة مادارا في خلق عالم متخيل تعيش فيه البشرية. أعتقد أن هذا العالم قد يكون أفضل للبشر، لكن يجب أن نلاحظ أنه ليس هو نفسه العالم الديني المتخيل، فالعالم الديني يمتزج بالواقع وبغرائز الإنسان التي يحتاج إلى إشباعها. بالتالي، فإن فقر البيئة ينتج عنه فقر المعيشة، ولا يستطيع الفكر الديني أن يكون أكثر من مجرد مخدر للحظات معينة.
الإشكال الحقيقي هو: كيف يخرج الإنسان من المخيال الديني إلى الواقع، في حين أن الواقع قاسٍ؟ هل يوجد شخص قادر على العمل الفعلي والتأثير على حياته، أو تحويل الفكرة إلى واقع بدلًا من حبسها في المخيلة والعيش معها؟ نحتاج إلى بديل نفسي يصبّر الناس على الواقع، ومن ثم العمل.
لا أعتقد أن التفكير داخل المتخيل أصبح مجديًا، فقد استُهلكت إمكانياته، وأصبح محصورًا في قراءات فقهية صلبة يستحيل أن يتولد منها منهج منافس للمنهج الفقهي للنصوص الشرعية، وذلك لسببين: الأول هو قوة أثره التاريخي، والثاني حججه المقنعة وسهولة فهمه، فضلًا عن قدرته على تسيير الواقع، إذ يضمر منطقه مقولة "الفعل بشرع الله".
أما قراءة النصوص الشرعية من منظور المنطق النقدي، أو قراءتها ككتاب عادي، فمن وجهة نظري، تُظهر فشلها في كل مرة، حيث يرتكس العقل من جديد إلى الفقه، لأنه يفتح آفاق الهروب من الواقع الذي أصبح لا يُطاق لدى الفئات المقهورة والمكتئبة، أو لمن يعانون عللًا جسدية ومادية، وكذلك لمن يطلب التدخل الإلهي لحل أزماته وإشكالياته وتحقيق قفزة سحرية نحو تلبية متطلبات