هذا الكتاب هو شهادة على عصر من عصور الظلام ، فهو يضم شهادات لثلاثة من أعضاء مجلس قيادة ثورة ٢٣ يوليو وهم " كمال الدين حسين" و حسن إبراهيم " و " عبد اللطيف البغدادي " ، شهادات على عصر " الحاكم المستبد " و "زوار الفجر "و طبقة السوبرباشوات على حد تعبير المؤرخ الدكتور حسين مؤنس ، عصر ابتدأ بضرب السنهوري باشا في مجلس الدولة على يد بلطجية عبد الناصر ، وتنظيمه -كما قال عبد اللطيف بغدادي- لإضرابات عمال النقل لرفض قرارات محمد نجيب بحل مجلس قيادة الثورة وإجراء الانتخابات ، وانتصر عبد الناصر في هذا ، والثمن -كما يقول البغدادي -أربع آلاف جنيه دفعها عبد الناصر إلى صاوي أحمد صاوي رئيس اتحاد عمال النقل .
إذا كنا نعتد كثيرًا بشهادات من صنعوا الأحداث أو كانوا قريبين منها ؛ فذلك لأننا بلد بلا وثائق أو أُريد لها أن تكون بلا وثائق سواء بالتخلص منها أو بالحيلولة دون الوصول إليها ، هناك واقعة ذات دلالة يذكرها كمال الدين حسين هنا فيقول : " كنت مكلفًا بكتابة محاضر مجلس الثورة ، كتت في باديء الأمر أسجل المناقشات كاملة ثم بدأت اكتفي بتحرير ملخص للمناقشات ..وقد ظلت هذه المحاضر في خزائن مجلس الثورة حتى حل مجلس الثورة ولا أعرف مصيرها الآن " ، ضياع أو إخفاء هذه الوثائق جريمة أخرى في حق تاريخ هذا البلد ، الذي يُراد لتاريخه الحديث أن يظل عبارة عن مجموعة من الألغاز لا تفسرها سوى الرؤية الموجّهة من الدولة .
إن أكثر ما يبعث على الأسى عندما تقرأ في هذه الشهادات كيف كانت تدُار الدولة وتُتَخذ فيها قررات الحروب ، هذا إذا تجاوزنا كل مفاهيم " الدولة " في العلوم السياسية واعتبرنا ما نقرأه في هذه الشهادات كان يحدث داخل دولة بالفعل وليس عزبة ! ، فتجد " حسن إبراهيم " يقول بأن وراء حرب اليمن معلومات خاطئة وصلت لمصر كموت الملك البدر ! وكأن ليس في البلد مخابرات تهتم بالتحري عن صدق المعلومة أكثر من تصوير سعاد حسني وتجنيدها ! ورغم كارثة اليمن وموت الألوف من جنودنا ، ظل ناصر رافض لكل نصيحة بالانسحاب ، كل ما قاله ناصر لحسن إبراهيم " احنا انزلقنا ولا يمكن أغامر بعد كده بالجيش إطلاقًا " .
هكذا بكل بساطة لا يُحاكم ولا يُحاسب أحد على أخطاءه في شبه دولة بمعنى الكلمة، بل العجيب أن كمال الدين حسين -كما جاء في هذا الكتاب- عندما سأل كلًا من " عبد الحكيم " و " عبد الناصر " عن ضمانات الحرية ، فقال له عبد الحكيم " احنا ضمانات الحرية " ، لتتأكد فعلًا أننا نتكلم عن العزبة العربية المتحدة !.
وفي هذه العزبة كان طبيعي جدًا أن يحدث الاعتقال لأقل لسبب ، ولو كان خطاب فيه جملة " اتق الله " كالذي أرسله كمال الدين حسين إلى عبد الناصر فتم اعتقاله ، ومن معتقله أرسل رسالة مُوجِعة لعبد الحكيم عامر ، وكان مما جاء فيها " أنا آسف أن تتحول ثورة الحرية إلى ثورة إرهاب لا يعلم فيها كل إنسان مصيره لو قال كلمة حرة يرضى بها ضميره ووطنه " والعجيب أن عبد الحكيم عامر يرد عليه بخطاب طويل ديماجوجي يختمه بقوله " وأقول وأنا مرتاح الضمير أنني أديت الأمانة " ، حكمت فسجنت فاعتقلت فأديت الأمانة يا عامر ! .
من أفجع فصول الكتاب ذلك الفصل الذي يتحدث عن النكسة ، ففي شهادة حسن إبراهيم أن البغدادي سأله - وكان ذلك بعد إغلاق المضايق - عن موعد شن إسرائيل للحرب في اعتقاده ، فقال له ناصر " مش قبل ٦ أو ٧ شهور " ولما استنكر ذلك كمال الدين حسين ، قال له ناصر " احنا على كل حال مستعدين تمام " ، وبعد ٤ أيام من هذا الحوار - وليس ٦ او ٧ شهور كما قال ناصر - ضربت إسرائيل المطارات .
أهم ما في هذه الشهادات تفصيل ما كان يدور في غرفة العمليات ، وبين ما كان يُلقى على الشعب من أكاذيب ، فبينما تحكي صوت العرب عن انتصارنا الوهمي ، كان حقيقة الوضع أنه " زفت" كما قال عامر للبغدادي في غرفة العمليات عندما سأله الأخير عن طبيعة الوضع ، بل نرجع إلى كارثية الإدارة عندما يسأل ناصر عبد الحكيم عامر عن طبيعة الوضع بالضبط ، وعامر يتجاهله أكثر من مرة ، حتى صرخ فيه ناصر " فضي لي نفسك شوية يا عبد الحكيم " ومع ذلك يتجاهله مرة أخرى ، وكأنه ليس هناك قائد أعلى ولا شيء ، مجرد مجموعة أصحاب بيلعبوا فيديو جيم .
ثم تزداد المأساة في حق هذا الشعب المستأنس المُغيب عندما يقول ناصر لعامر " طلع حاجة للجرايد " ، فيقول له عامر " نقول أسقطنا مائتي طائرة " فيرد ناصر " بلاش ..نقول نص العدد " ، وهناك فرق بين الكذب لرفع الروح المعنوية لجنود منتصرين فعلًا بتضخيم انتصارهم على العدو ، وبين الكذب للتضليل والتعتيم على كارثة عسكرية .
نرى عبثية أو أكذوبة جيش العرب عندما يستنكر بغدادي على عامر الانسحاب بدون معركة يشتبك فيها مع مدرعات العدو مذكرًا إيّاه بأن روميل انسحب ١٥٠٠ ميل من العلمين حتى إيطاليا بدون غطاء جوي ، فكان يدخل في معارك حامية بالنهار وينسحب في الليل ، فيرد عليه عبد الحكيم عامر قائلًا " ما انت عارف ضباطنا وعساكرنا مش متعودين على القتال " ، وتزداد السخرية عندما يقول له " أمال دخلتم الحرب ليه !!" فيتركه ويقوم .
كثيرة هي الوقائع المبكية والمُحزنة في هذا الكتاب، لتدل على أن نظام ٢٣ يوليو لم يقم ببناء دولة فعلية ، فكل تعريفات كلمة " الدولة " في العلوم السياسية لا تنطبق على هذا النظام ، وأن متى الشعوب رضيت بالذل فإنها ستُذل حتمًا ، وأن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع.
وانت تعلم ياعبدالحكيم انكم لاتملكون اى حق شرعى فيما قمتم به نحوى الا حق الدكتاتوريه والطغيان .. اذا جاز ان يكون لها حق .. مهما كانت التفاسير والشعارات ف الحريه هى الحريه التى عبر عنها عمربن الخطاب حين قال "متى استعبتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرار " .. طريق الحريه اقدس ما منح الله الأنسان وأشعر بذنب واحد ان ثقتى الغير محدوده فيكم مكنت الطغيان ان يسلب هذا الشعب حريته وكرامته وانسانيته ...
الكتاب ده إن صحت كل أحداثه، فهو شاهد على عصر بشع، للأسف ممتد سنين أكتر بكتير من اللي يقصدها الكتاب، واللي كان بيتكلم عن دكتاتورية جمال عبد الناصر وقمعه للجميع، سواء أفراد الشعب أو حتى أفراد مجلس قيادة الثورة اللي افكارهم تعارضت مع أفكاره وشافوا إنهم ثاروا لإرساء ديمقراطية حقيقية.. مش ديمقراطية قشرة بتغطي ظلم وطغيان ودكاتورية
للأسف حاولت كتير أدور على معلومات عن سامي جوهر، مؤلف الكتاب، لكن كل النتايج كانت بتروح لسامي جوهر الممثل اللي عمل كاتب المحكمة في شاهد ما شافش حاجة! وأحيانا لكتاب من كتبه، مش للكاتب نفسه حسيت إن معرفتي بالكاتب وخلفيته هتساعدني في تقييم محتوى الكتاب، خصوصا وهو بيتكلم عن علاقة عبد الناصر والإخوان، بل وقسم عبد الناصر وبعض رفاقه على المسدس والمصحف عند انضمامهم للإخوان، ثم محاولة محوهم تماما باغتيالات باسم القانون تحت مسمى حكم إعدام
فإن صح الكلام ده، فالموضوع فعلا هيحتاج تقييم حيادي جدا ليهم عشان تبان أخطاؤهم الفعلية، ويبان برضه إيه اللي مش من أفعالهم!
الكتاب كمان اتكلم عن النكسة، وإزاي تدهورت الأمور لحد ما وصلنا لهزيمة شديدة زي دي تقريبا بلا مقاومة، وإزاي إن المقدمات كانت واضحة جدا، لكن إما تم تغطيتها بسبب القبضة الأمنية الإجرامية اللي ما كانتش بتدي فرصة لحد ينطق، حتى لو كان من أصدقاء عبد الناصر نفسه وشركاؤه في حركة الضباط الأحرار، أو تم تجاهلها نتيجة الحب الجارف اللي اكتسبه عبد الناصر نتيجة الكاريزما العالية اللي كانت عنده وإزاي لحد آخر لحظة كان بيتم تصدير الفرحة بالنصر المبين في أيام ٥-٨ يونيو ٦٧، لحد ما الناس صحيت على الكارثة
آخر فصل كان عن شخصية يمكن مجهولة لناس كتير (وليا أنا نفسي).. الدكتور رشوان فهمي، واللي كان على استعداد للتضحية بكل شئ في سبيل كلمة الحق والوقوف أمام الظلم، لدرجة انه رفض الجواز لأنه "مبخلة ومجبنة" فقط عشان يحافظ على نفسه حر في إنه يقول اللي في ضميره بدون خوف على زوجة وأولاد! وللأسف قلما نسمع عن شخص بالعظمة دي والشجاعة دي.. رحمه الله
عكس ما يروج للكتاب، أنه يتحدث عن مذابح الإخوان، إلخ، فالكتاب يتحدث في معظمه عن علاقة ثلاثة أشخاص برفيق سلاحهم جمال عبد الناصر، بدءا من القسم على المصحف و المسدس، مرورا بالانقلاب فالعلاقة المتوترة مع نجيب، فبداية عصر الاستبداد و الخداع و الدكتاتورية، ثم الإقصاء بل والاعتقال وفرض الحراسة ثم الهزيمة المشينة بكافة تفاصيلها من داخل غرفة العمليات وإلقاء اللوم الأكبر على رأس القيادة السياسية، بما فيها قرار الانسحاب عكس غيره من المذكرات، ثم الوفاة. الكتاب يتكلم بلسان الثلاثة عاكساً شخصياتهم.: حسن إبراهيم: رجل حالم غير ذو قرار وأبعد ما يكون عن شخصية تحليلية عميقة عبد اللطيف البغدادي: رجل ذو هيبة واحترام لدى الجميع، صادق لا يتلون وبهذا حاز احترام الجميع واخيراً كمال الدين حسين: الأرجح عقلاً والأكثر تديناً والأخلص بين كل رفقاء الانقلاب، بل و أكثر من عانى بين كل المبعدين
لا أحد ينكر مثالب نظام عبد الناصر، ومن يفعل فهو أحمق! لكن يجب قراءة ما يسكت الكتاب عنه؛ أنه مكتوب سنة 1975 ويصر على أن عصر السادات "عصر الحريات" و"عصر سيادة القانون"... كأن السادات هو من كتبه .. دا طبعا ناهيك عن الروح البروبوجاندية التي يدافع بها الكتاب عن الإخوان.
لو قويت على تصنيف الكتب التى قراءتها فى حياتى ،ووضعت لهم ترتيب سيكون هذا الكتاب فى الصفوف الاولى لكتبى واحد من اهم الكتب الى بيوثق زاوية من حياة التخبط والعنجهة والدكتاتورية الناصرية وتحولات الظباط الاحرار والحياة المصرية حكي شبة مفصل على لسان ظباط سابقين للحقبة من 52 لــــ 75 #رائع