الكتاب في سطور ومثلما حفلت هذه المغامرة بألوان شتى من الخطوب , حفلت أيضاً بألوان مختلفة من الخطاب , صباغها العالم ديني روحي وأصباغها الخاصة فكرية وأدبية وفنية , وقد اقتضى كل صبغ من هذه الأصباغ شكلاً من الخطاب , توسلته فاتسع فضاء التعبير مع اتساع معاناة المعبر عنه . ولعل أحد التصورات العلمية للكون الذي يرى فيه جسماً غازياً آخذابالامدد إلى مالا نهاية أن يكون - فيما أرى - مشابهاً لتجربة الحلاج الكونية , فإذا صدق ذلك التصور وصحت المشابهة , فلا أرى مصيراً إلا التلاشي الذي استبقه الحلاج بتقريب ( من القربان ) جسده فقطع , ثم أحرق ثم ذر رماده ليتلاشى في الكون . وعلى النحو ذاته سارت طواسينه في خطاباتها المختلفة , من تقطيع أوصال الفكر وإضرام الحرائق في النفس حتى صارت بوحاً ومناجاة وهذياناً ثم بعثرة كل ذلك في أصغر وحداته التعبيرية من حروف وأرقام في متشابكات تشكيلاتها تتأبى على المشاكلة لأي مألوف وإذا وجد محاول قرائتها مدققاً أو مؤولاً أو محتملاً معقولية ما , فهذا مما بقي من جذاذات ذلك الحطام الذي لم يأت عليه التلاشي ... التلاشي الذي حققه الحلاج بجسده أكثر مما حققه بنصوصه المطلسمة .
من الصعب جدًا أن يُقيم كتابًا كهذا هو في الأصل تجميعًا لمجموعة من المخطوطات التراثية القديمة قبل أن تكون للغة العربية شكلها الذي نعرفه الان! لذا امتنع عن تحديد التقييم بعدد من النجوم..
الطواسين جمع ( طس) وهي مقدمة آيات ثلاثًا من سور القرآن الكريم، سورة الشعراء وسورة القصص وسورة النمل.. تلك الحروف التي عجز المفسرون عن إيجاد تفسيرًا لمعناها وطرحوا من الافتراضات الكثير لتفسيرها أو أسباب وجودها في بدايات السور كغيرها من الحروف الأخرى.. مثل ( الٓم- كهيعص) وكان استخدام الحلاج لتلك الحروف ماهو إلا دلالةً علي مفهوم ( الاسرار) واختياره لحروف (طس) من بين الحروف الاخرى ربما لما له علاقة ب( طه، يس) من حيث معناها المرتبط بالمصطفى عليه الصلاة والسلام والله اعلم.... وربما لمعانٍ واردة في الطواسين الثلاث المتمثلة في الثلاث سور .. وربما لأسباب أخرى ! وأظن أن استخدامه لها بصيغة الجمع ( طواسين) كعنوان لكتابه ماهو إلا اختصارًا لمضمون الكتاب ألا وهو ( الطواسين= كشف مجموعة الأسرار الخاصة بمفاهيم مجمعة في هذا الكتاب)! وما يقصده هنا بالتفسير، مجموعة من المفاهيم التي قام الحلاج بربطها برمزٍ ذا دلالة الا وهو ( طس).. فقد قسم الحلاج الكتاب إلي عشرة فصول يتناول كل فصلٍ تفسير وتوضيح معنى المفهوم وفلسفته وما يستتر وراءه من (أسرار) وعليه فقد اقترن المفهوم الممثل لعنوان كل فصل بحروف الدلالة ( طس) .. لنجد؛ طاسين السراج- طاسين الفهم- طاسين الصفاء- طاسين الدائرة- طاسين النقطة- طاسين الأزل والالتباس- طاسين المشيئة- طس التوحيد- طس الأسرار في التوحيد- طاسين التنزيه.. وكأن الحلاج يريد أن يعنون الفصل قائلًا ( أسرار التنزيه) او ربما اراد ان يقول(السر خلف مفهوم التنزيه) او ما الي ذلك..
بعض تلك المفاهيم وردت مرمزة- كما هو واضح- كمفهوم (الدائرة) الذي يمثل الوجود! ومفهوم (النقطة ) الذي يمثل خالق الوجود... ويتضح ذلك من خلال قراءة الفصول وقراءة تحليلها المبسط في الهوامش..
لغة الحلاج في كل الفصول لغة رمزية بالغة التجريد دقيقة بالغة الاختصار بالغة الكثافة عميقة المعاني وكأنه جمع بحور المعاني في كلمة! ان فهم تلك الفصول من قبل غير المتخصص في علوم التراث او علوم المخطوطات أمر صعب .. ولكنه غير مستحيل إذا ما قرئ بتأني ومرارًا قبل الانتقال الي فصل جديد..
وأجد أن السر وراء غموض كتابة الحلاج .. لا علاقة له بأسلوبه وإنما هو غموض متعمد وأظن السبب وراء ذلك يكمن في أنه يصف الذات الالهية كما تصورها ويرسم الحقائق كما يراها ويفسر ملابسات المفاهيم شديدة التجرد بلغة شديدة المادية والواقعية.. لذا فإنه ليس من العجيب أن تعجز اللغة في وصف ما لا يوصف! فما يستدل عليه بالروح لا يمكن قولبته في حدود مفردات لغوية لها أبعادها الدلالية..ذلك علي مستوى الخلق فما بالك والأمر يتعلق بالخالق سبحانه! وقد كانت تلك هي احدى معجزات كتاب الله والذي يمثل حرفيًا توصيف كل ماهو نسبي بماهو مطلق!! بشكل اعجازي يتناسب والبينية والحينية الوجودية بشكل مذهل! ورغم ذلك فآياته شديدة الوضوح رغم كل ماتحمله من معانٍ خفية غير مباشرة تحتاج التفكر والتدبر والترتيل..
يتحدث الحلاج -وفقًا لما استطعت ادراكه-، عن الحق جل جلاله وعن أنواع الباحثين عنه ودرجاتهم وامكانياتهم ثم نزه نفسه عنهم جميعًا بأنه أعلى مرتبةً في الوصول اليه! يتحدث عن المصطفى ( صلعم = صل الله عليه وسلم) وعن آدم وعن إبليس ( عزازيل) .. وقصة تحديه لأمر الله ونظرة إبليس لكافة الموقف - من وجهة نظر الحلاج واستقراءه- . وقد استوقفني في هذا الجزء حقًا رؤية الحلاج لإبليس، والحديث بلسان حاله وكأن إبليس برفضه السجود ..قد أطاع الله في القيام بدور الجحود.. ليصبح الملعون المطرود.. من جنان الخلود إلي الوجود ..حبًا بالله بالتجريد ثم بالإفراد وفقًا لحديثه المعهود!! تلك هي وجهة نظر الحلاج في أمر إبليس وأجدني قد تأثرت بأسلوب الحلاج في تكرار قوافي الكلمات بكثافة عالية جدا بنصوص قصيرة جدًا والتي أظن أن لها دلالةً في ذاتها..!
يتناول الحلاج كذلك تجليات الله - بشكل رمزي- وعن موقف موسى من إبليس من وجهة نظر الحلاج كذلك. ثم يختتم كتابه بالحديث عن مفهوم التوحيد والموحِّد والموحَّد.. والعلاقة المنصهرة بينهم ..
كتاب الحلاج لا يتعدى ٤٦ صفحة ولكنه يتطلب اسابيعًا فقط لمجرد الإطلاع والالمام بفكرة محتواه.. وأعتقد أنه يحتاج إلي شهور لفك طلاسمه !
هذا والله وعبده الحلاج أعلم بما أراد التعبير عنه في ذلك البيان المنمق التشفير ، المنير المستنير.. المتأرجح بين جياشة الحب الالهي ..وألغاز التفاسير..!
لا أعتقد أنه يمكن تصنيف (الطواسين) ككتاب ، أولا لأنه مجتزأ من كتاب أكبر لم يسعفني الوقت لأعرف ما هو أو عما كان يتحدث ، و ثانيا لعرضه الشروحات كحاشية سفلي (footage ) يفوق حجمها أحيانا النص نفسه بعدة مرات بينما كان من الممكن أن تأتي في متن الكتاب بعد كل نص مباشرة. و ثالثا لضآلة حجمه الذي كان يحتاج الموضوع الي ثلاثة أضعافه. لا أعتقد انه توجد ثمة علاقة بين ( طس ، طسم) اللواتي ذكرن في فواتح سور النمل و الشعراء و القصص و بين كل ما تناوله الحلاج في تلك النصوص العشرة التي يمكن أن نجمل موضوعاتها في الحديث عن علو شأن رسولنا الكريم عليه الصلاة و السلام و عن موقف إبليس من رفضه السجود و تبريره له و عن إدراك العبد لوجود ربه و كيف أن روحه تمتزج بروح خالقه. و تلك النقطة الأخيرة هي التي تسببت في صلب الحلاج و قطع أيديه و أرجله قبل أن تقطع رأسه عقابا له علي ما اعتقده رجال الدين في ذلك العصر العباسي (عام ٣٠٩ هجرية ) من أنه إلحاد أو إدعاء للنبوة تارة و إدعاء للربوبية تارة أخري. لقد صنفوا ما كان يقوله الحلاج هنا و في مواضع أخري بخصوص تداخل (دوائر الإله و نقطه) أو الذات الإلهية مع الذات البشرية بما أسموه _ أو هو أسماه _( الحلول و الإتحاد ) أو حلول الإله في جسد البشر و إتحاده معه مما جعلهم يكفروه و يقتلونه بتلك الطريقة البشعة. الربط بين ( طس) و كل ما تناولته العشرة نصوص لم أجد له أي مبرر حتي و لو كان الغرض منها الترميز لحل ألغاز من وجهة نظره ، و خصوصا أن ما تناوله لم يكن لشرح آيات قرآنية أو وضع إجتهاده فيها ، و خصوصا أيضا أنه حتي الآيات القليلة جدا التي ذكرها لم تأت من أي من الثلاثة سور التي تبدأ ب ( طس) اللهم إلا في مرة واحدة و بالصدفة و بقية الآيات جاءت أغلبيتها من سور النجم و الإسراء و طه. اللغة التعبيرية تتراوح بين منتهي العمق و الروحانية و التحليق و بين الألفاظ و التركيبات السجعية التي تشطح بالمعاني إلا أمد لا يفضي إلي أي شئ سوي أنه يشبه تمتمات و أناشيد و طلاسم دراويش الصوفية بزيهم المهلهل الملون بالأبيض و الأخضر و عصيهم و عماماتهم و كثرة المسابح حول اعناقهم و أيديهم. أمتعني الكثير من تعبيراته و تشبيهاته و توصيفاته ، و أغثاني الكثير الآخر منها بسبب شطحاته. و هذا لا ينفي أن كتابات الحلاج تعتبر إرثا تاريخيا عظيما يؤرخ لحركة الصوفية و تطورها عبر العصور و موقف الأنظمة الحاكمة منها و كذلك الشعوب. و أن له أشعار و خواطر تغني إلي الآن و بعضها يتغزل به الرومانسيون في محبوباتهن. (الكتاب ) إضافة لكل من يعتبر كل جديد إضافة .. و أنا منهم .