"بعد اثني عشر عاماً على كتابة هذا الكتاب وتسعة أعوام على صدور الطبعة الأولى منه، ما زال موضوعه راهناً ومضمونه النقدي مشروعاً في ما نزعُم. ربما بدت نبرة النقد في حينها فيه عاليةً وحادةً نسبياً. لكنها – في ما نقدّر اليوم – كانت ضرورية ومشروعة: ضرورية لإحداث الصدمة الإيجابية في وعي المثقفين من أجل إعادة التفكير في يقينيات بالية ما عادت مقنعة. ومشروعة لأن كمية الادعاءات التي انطوى عليها خطاب المثقف، وكمية الأوهام والأساطير التي كونها عن نفسه، كانت تستدعي –حكماً – درجة عالية من النقد تُوازنها وتنقضها. على أن هذه الحدّة، وإن تسلّل الكثير من مفرداتها إلى لغة الكتاب، لم تُجانب تقاليد النقد الموضوعي ولا أمعنت في مساجلة أيديولوجية مصروفة لتصفية حساباتٍ أو لتهشيم صورة المثقف كما قد يُظن".
لقد كتب المؤلف ما كتبه وهو ينتمي إلى هذه الفئة، وهو وإن قسى على المثقفين، فإن ما يشفع له، هو أنه قسى على نفسه بالتبعة، وبهذا يكون نقده للمثقفين هو نقد ذاتي في الوقت نفسه.
"ليس هذا الكتاب هجوماً على المثقف كما قد يُظن. بل هو دفاع صادق عنه ضد الداعية، أو بقايا الداعية فيه".
عبدالإله بلقزيز باحث مغربي في الفلسفة وفي شؤون الفكر العربي والفكر السياسي. حاصل على دكتوراه الدولة في الفلسفة من جامعة محمد الخامس في الرباط، المغرب. أستاذ الفلسفة والفكر العربي الإسلامي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء. هو الأمين العام لـ"المنتدى المغربي العربي"، الرباط
Abdelilah Belkeziz
Morocco Writer, Holder of the State’s Doctorate Degree in Philosophy from Mohammad V University in Rabat, Belkeziz is the Secretary General of the Moroccan Arab Forum in Rabat. He has previously worked as head of the Studies Department at the Beirut-based Arab Unity Studies Centre. Belkeziz has published hundreds of articles in Arabic newspapers such as Al-Khaleej, Al-Hayat, Al-Safeer and Al-Nahar. In addition to articles, he has published around 43 monographs.
كتاب مرهق فكرياً، صارم في جلد الذات، متحدي للفهم السائد لدور المثقف. شعرت بالخجل من النفس في صفحات الكتاب، عندما ميز الكاتب بين المثقف الشعبوي والنخبوي وبين المثقف النقدي والعقائدي.
يقول الكاتب في مجمل حديثه "على المثقف أن ينحاز للضعيف وليس للقوة في السلطة... والمثقف لا يكون مثقف إلا إذا غادر فرديته وعبر عن المجتمع... والمثقف هو الذي يمتلك رأسمال معرفي" ذلك بعض مماقال وكثير منه مفقود عند بعض المثقفين ومشاهد في واقعنا، كتاب جدير بالقراءة والإقتناء.
كما هو العنوان ينتقد بلقزيز بقلمه الرشيق، ولغته الآخاذة، المثقفين العرب في عالم اليوم، والذي يرى أنهم يمارسون دوراً تبشيرياً للأفكار، وذلك بسبب أوهامهم حول دور المثقف، واعتقادهم بالدور الرسالي للثقافة، في واقع استغنى عن الأنبياء. وحسب قوله فتغير وتضاؤل دور المثقف اليوم ومكانته كذلك، لأسباب كُثر منها زوال حاجة السلطة للتسويغ، وإضفاء الشرعية عليها بواسطة مثقفيها، و أصبحت شرعية الدولة من المشروع السياسي للنخب الحاكمة، وأصبح يبحث عن اعتراف الدولة به، بعد أن كانت تطلب اعترافه. تحدث وأجاد عن أمراض المثقفين، من مديح النفس، إلى السادية الثقافية، و النقد الذاتي والمازوخية، والمؤامرة، ودعاهم للتخلص منها للتفكير بنسبية وموضوعية، والتحلي بروح المناظرة العلمية، والجدل الموضوعي في النقد، وحسّ المراجعة والنقد الذاتي، ومن الواضح أنه يطالب بعالم مثالي، لا أظن مثقفي مكان ما من العالم، يتحلون بهذه السمات مجتمعة، لكنه أجاد التشخيص، و وضع الحلول للأفراد الراغبين بإنتاج خطاب سويّ. أما عن الفقر المعرفي فهو يقول بأن المثقفين العرب يعيدون انتاج المقولات الغربية، دون أي إضافة أو ابداع، أي مجرد مستهلكين للفكر الغربي، ومعرفته، بالإضافة لندرة الكتابة النظرية بينهم، ويقصد بها الكتابة التي تجنح نحو التجريد والتنظير، والبناء المفهومي للمعرفة، والصياغة النسقية للأفكار، وحدد بعض الأسماء التي تشذ عن ذلك، مثل عبدالله العروي، وإلياس مرقص، ومهدي عامل و وضاح شرارة، والجابري بالطبع، وبرهان غليون، وعزيز العظمة، وهشام جعيط وآخرون .. و أن هذا الفقر المعرفي عائق كبير أمام تقدم الانتاج والإبداع في الفكر والثقافة، ويرجع سبب الفقر المعرفي إلى النزعة الإيمانية الوثوقية، والنزعة النصية المغلقة، و أول ضحاياهم الواقع، ومستجدات العصر. فيما بعد انتقل للحديث عن علاقة المثقف بالسلطة، وكيف استفاد المثقف منها لاستعداء مخالفيه فكرياً، وصار انتصار المثقف على المثقف بالسياسة، لا بالثقافة، وانتصار السياسي عليهم جميعاً. المثقف الداعية بالنسبة له، كان بسبب توهم المثقف لدور اجتماعي، وثقافي ضخم، وذلك بسبب الرأسمال المعرفي، والقوة الرمزية التي يمتلكونها، والتي أعمتهم عن رؤية الفارق بين ما أعلنوه، وما أمكنهم أن ينجزوه، فالثقافة الدعوية التبشيرية التي يحملونها، لا تقدم ادراكاً للعالم إنما تقدم مواقف منه، الأزمة العربية الثقافية بالنسبة لبقزيز، كانت دلائلها بكون الثقافة العربية ساحة مفتوحة لحرب أهلية فكرية بين التيارات المختلفة، وسبب حالة القلق بين المثقفين، لأن تطور المجتمع والثقافة، سبب لهم عجزاً، لعدم قدرة خلفياتهم الفكرية على الإجابة، والتكيف معها، ودفاعهم عنها مجرد مكابرة فكرية وأخلاقية. على المثقف بعد أن يعي حقيقة دوره وحدوده ثلاث مهمات، مهمة علمية معرفية هي التنوير، ومهمة اجتماعية هي الحرية، ومهمة وطنية هي حماية السيادة، وبالنسبة له يكمن التنوير في إنتاج منظومات معرفية وفكرية، قابلة للتجنيد في مشاريع تاريخية فعلية، لأن الثورة الثقافية الموسوعية التي أنجزها الأنواريون في أوروبا، هي التي مهدت للتحولات التي قادت أوروبا لقلب التاريخ، وأتسائل هنا، هل مسار التنوير الأوروبي حتمي؟ هل الظروف السياسية العربية والثقافية والاجتماعية وغيرها تجعل من هذا الحل المقترح ممكناً، و كذلك مساهماً في التغيير والتنوير؟ ماركس يقول بأن دور المثقفين تغيير العالم لا تفسيره، وبلقزيز يرى أنه بعد الثورة المعلوماتية أصبح دور المثقف هو تفسير العالم والثورة التي ينذر نفسه لأجلها ثورة ثقافية، لا اجتماعية ولا سياسية! هل يرى الانفصال بينها؟ و هو يقول الثورة الثقافية التي تقاوم الجهل والأمية والأوهام التي تصنع الحواجز أمام التقدم الإنساني!
قد يلزمك الكثير من الوقت عزيزي القارئ كي تهضم حروف هذا الكتاب النخبوي والموجه بشكل كبير للفئة المثقفة من العالم العربي وما يعتريه فكر هذه الفئة من شوائب أخرت الركب بدلا من أن تنهض به ... كتاب للنخبة أرهقتني صفحاته
كتاب جيد ، يحاكم فيه المؤلف الفكرة التي يصنعها المثقف عن نفسه وعن فعاليته في المجتمع ، ينسف فيها المؤلف تماماً فكرة الدور الخلاصي-الرسولي للمثقف وإدعاء المثقفين لهذا الدور الدعوي للحقيقة وإدعاء إمتلاكها . يطرح المؤلف فكرته عن معنى "الإلتزام" لدى المثقفين وأثر هذا الإلتزام على إنتاجهم المعرفي الذي وجدو لأجله ، وعن أثر هذا الإلتزام السياسي على إنتاجهم المعرفي وتراكمه ، حيث يصبح مثقفاً تبريراً للدولة أو نقيضها (الحزب/الثورة) ، والمفارقة هنا أن إلتزامه هذا بقدر ماهو ضروري للحزب هو ما ينحط به إلى درك الداعية ، يقول المؤلف عن علاقة المثقف بالسياسة ، ان المثقف -الان- لا يوظِّف في السياسة بضاعته المعرفية بمقدار ما يوظف صوته -في وعي الناس- كمثقف ، وهذه علاقة غير صحية بل يصفها بعلاقة العبد (المثقف) بالسيد (السياسية) . ويطرح معناه للإلتزام في نهايه الكتاب ، الإلتزام الذي يجعل من الثقافة صعيد مستقل وليست وسيلة من وسائل السياسة يمكن إخضاعها وتطويعها من أجل متطلبات هذا الأخير .
في ظنِّي أن مثل هذا النقد للأوهام والأساطير الذي ينصرف إلى تفكيك البديهيات والمُطلَقات، وإلى تحليل مواطن العطب في الممارسة الفكرية والإجتماعية هو المدخل الأَوْلى بالولوج منه إلى محاولات الفَهْم والإصلاح.
التعرُّض لمثل هذه الأفكار والأُطروحات بمثابة مواجهة مُخجلة صادمة بلا سلاح، في مجتمع الميركنتيلية الثقافية الجديد! فعلًا.. هذا الكتاب ضربة معلِّم.
هذا الكتاب من الكتب الجيدة في عرض مفصل وصريح لمشكلات الثقافة العربية المعاصرة وقضاياها . يفتتح بلقزيز الكتابَ بمقدمة أولى ، يؤسس فيها الى ان الثقافة العربية المعاصرة لا تقوم الا بوجود منزِعٍ دَعَوي اضافةً الى عناصرها الجوهرية الاخرى . حيث اصبح الداعيةُ اميراً للكلام ، وقدّمتْ الثقافة العربيةُ المعاصرة اهليتَها لان تكون ثقافة منتِجة قرباناً لهذا الهوس الدعوي . ويمكن للقارئ ان يستنتج وبسلاسة ان المنزِع الدعوي - هذا الذي هو ثالثةُ الأَثافي - ماهو الا صوتٌ عالٍ يدعو الى إجلال فكرةٍ ما او قضيةٍ ما ، وطاعتها ، ورفع لوائها ، مبتعدا كل البعد عن استخدام اي اداة حضارية من اداوت الفكر والثقافة . في المقدمة الثانية ، يستعرض بلقزيز ابرز السياقات الثقافية والفكرية والسياسية ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر وانتهاءاً بالقرن العشرين . ومن اهم ما يشدد في توضحيه هو فكرة الإلتزام التي اثرت بشكل كبير على وظيفة الثقافة . وعززت الماركسية فكرة الإلتزام - في مطالع القرن العشرين - بإلحاحها على جدلية النظرية والممارسة ، ووجوب صرف الفكر الى خدمة قضايا المجتمع والطبقة الكادحة . ثم يستعرض بلقزيز بعد ذلك اندفاعات هذه الفكرة في ابرز مراحل القرن العشرين ، وهي عصر الاستقطاب الكبير بين المعسكر الأمريكي و المعسكر السوفييتي ، ثم في عصر الاندفاع الكبير للايديولوجيات الراديكالية من تروتسكية وغيفارية ومَجالسية وعالَمْثالثية . بعد ذلك يستعرض بلقزيز الاساس النظري لفكرة الإلتزام ، عند كل من لينين وغرامشي و المنظومة الماركسية عموما ، ثم سارتر وما بعد انتفاضة مايو 1968 الطلابية في فرنسا ، وغير ذلك . وفكرة الإلتزام باختصار هي تقرير لوظيفة اجتماعية للمثقف تفترض انها حيّز من احياز الثقافة وشكل من اشكال حراكها المفترض ، لا ان يكتفي المثقف بانتاج المعرفة .ويبحث بلقزيز بعد ذلك مفصلا في ما يمتلكه المثقف : الرأسمال المعرفي الرمزي . في مدخل مضاف ، يستعرض بلقزيز علاقة المثقف بمثلث السُلَط ( السلطة المعرفية ، السلطة السياسية ، السلطة الاجتماعية ) ويخوض مفصلا في المثقف النخبوي والمثقف الشعبوي وفضحهم ومفارقاتهم . وينتقل الى المثقف العربي الاسلامي في العصر الوسط واستعراض مفصل لمفاصل ادواره الثقافية واستعراض تاريخي لفكرة الحقيقة المطلقة وتفكيكها . في الفصل الاول يخوض بلقزيز في مفارقات المثقفين العرب المعاصرين ؛ انها مفارقات اللاتوازن ومحاور هذا الفصل اثنان : الاول في مفارقات علاقة المثقف بالسلطة واستضعافه ، وعلاقته ��الشعب . والثاني في امراض المثقفين ( النرجسية الثقافية ، السادية الثقافية ، المازوشية ، الفوبيا الثقافية ) . الفصل الثاني يضم خمسة محاورة : المحور الاول يخوض في ضرورة اعادة كتابة تاريخ المثقفين العرب كتابة نقدية ، ويشدد على ضرورة معالجة الفقر المعرفي للنثقفين العرب مع ذكر اسبابه . المحور الثاني يتعلق بخلق الحرب الاهلية الفكرية في الوسط العربي . المحور الثالث ، في نهاية الادوار الأسطورية للمثقفين ، و الاستنزال المر لمكانتهم في سلّم التراتبية الاجتماعية . المحور الرابع ، في خطاب التوبة وخلخلة قيم مثقفين ، وتحولهم الى اداة لخدمة السلطة السياسية الرسمية لو نقيضها (الحزب) . المحور الخامس ، في النقد الذاتي ، ومحاولة جيدة لبلقزيز لاعادة النقد الذاتي الى واجهة الدور الثقافي . اما في الفصل الثالث ، فيتطرق بلقزيز الى سؤال " هل انتهى دور المثقفين ؟" المترتب على في الفصلين السابقَين . واخيرا في الفصل الرابع ، يفصّل بلقزيز وبشكل مثير في السلطان المعرفي واهمية المثقف الباقية ، وكذلك يؤسس نظرياً لفكرة التزام جديدة تتلائم ومتطلبات العصر الجديد . لم يذكر بلقزيز تعريف المثقف بشكل واضح وصريح ، انما ترك فعلَ استنتاج ذلك للقارئ ، وقد أصابَ فيما فعل . من مميزات الكتاب ، انه يُعد مدخلاً جيدا للثقافة العربية المعاصرة وقضاياها ومشكلاتها ، كما أنه ينمّي مهارة التفكير النقدي ؛ هذا بالنسبة للقراء بشكل عام ، ولكنه يحوي على نقاط جوهرية من مشروع بلقزيز الفكري ، او قُل انه يوضح كيف يفكر بلقزيز . هذا عرض ببليوغرافي للكتاب ليس الا ، وسيأتي نقده في وقت آخر .
إن المُثقف المُنتقد هو المثقّف الّذي مارس دور غير دوره؛ فدور المثقّف -المُفترض- إنتاج المعرفة وهي رأسماله، أمّا المُنتقد فهو الّذي حسِب ويحسْب نفسه مناضلًا ومدافعا عن الأمّة، والشعب، وهو قائد التّغيير؛ أي الّذي كان منخرطًا في لُعبةٍ سياسيةٍ استثمر فيها عدّته وعتاده المعرفيّ فكان المآل أن خسِر الاثنتين، وكانت الأكلاف باهضة على أدوارهم الفكريّة والمعرفية "فلقد هَبَطَت بالمثقف من معناهُ كمالكٍ لرأسمال رمزيّ -هو المعرفة- إلى مجرّد ناشطٍ حركيّ... ، إلى داعية!".
تمتاز كُتب وكتابة بلّقزيز بالجديّة والصرامة -دون مُوَارَبَة- علاوة على التحوّط من إصدار الأحكام جزافا؛ فالأهداف مُعلنة والغاية من التأليف واضحة وهي "فتح نقاشٍ في (مقدسات) المثقف وتمثُّلاته الأسطوريّة لدوره (الرّساليّ)."، وأن يعود المثقف إلى دوره المفترض و-بجملةٍ واحدةٍ- ليست مهمّة المثقف تغيير العالم بل تفسيره.
على الرغم من كتابة الكتاب سنة 1999 إلا أن هناك بعض المفاهيم التي طرحها الكاتب ولم توجد إلا في فترة متأخرة، مثل حق اللجوء الأدبي، هذه النقطة وإن كانت هامشية في الكتاب إلا أنها انتباهة والتفاتة كية من بلقزيز حيث أصبحنا نرى اليوم توجه أدبي كبير يعبرعن ردة الفعل الثقافية تجاه المشهد السياسي واللجوء إلى الأدب والعيش في عوالمه المتخيلة.
هناك توصيف جيد للمشهد الثقافي العربي، ربما أصبح بعضه قديما بفعل الزمن، خصوصا بعد مضي أكثر من 20 سنة ومرور المنطقة العربية بتغيرات سياسية واجتماعية وتقنية كبيرة جدا.
أعتقد هذا الكتاب ينبغي كتابته من جديد في في السنوات القادمة.
من يقرأ الكتاب وينظر إلى حال الكاتب حاليا يعلم أن نهاية الداعية لم تحن بعد، فمازال للداعية حاجة وضرورة، فقد يتصدر الداعية اليساري الماركسي فضائيات الليبرالية مبشرا بنقائها وطهوريتها، وقد يكتب في صحفها قاصاً كم كان لليبرالية من فضل على بني الإنسانية، فطالما أن الذهب والفضة موجدان فلن تنضب أفكار الداعية ولن يحن أوان نهايته، إسألوا الداعية بلقزيز!
تتزايد حاجة المثقف العربي إلى التحرّر من جملة القيود والعوائق الذاتية التي تقوم بينه وبين أداء دوره المعرفي الموضوعي، والإجتماعي الإيجابي الفعال، بهدف إنتاج خطاب عربي سوي، وبناء توازن نفسي للثقافة العربية.
يُنظّم الدكتور عبد الإله بلقزيز ويفحص مفارقات ولاتوازن وأمراض المثقفين العرب. فالمثقف العربي وحسب بلقزيز ، مازال يردد مقالته التقليدية الموروثة، الذاهبة إلى تقليده تكليفاً رسالياً متعالياً، ولا يكف عن تكرار لازمة رتيبة باتت فارغة من فرط الترداد: إنطواء فعله الثقافي أو الفكري على "دور عظيم" في المجتمع والتاريخ! يذهب بعضٌ بذلك الدور حدوداً يتقدّس فيها أو يكاد، فيما يكتفي أكثرهم تواضعاً بشرف تقلّد مهمة "التنوير". وهذا ما أشار إليه الكاتب في فصله الأول بمفارقة السلطة والإستضعاف. ومن مفارقات المثقف العربي أيضا ، أنه ينتدب نفسه لأداء أدوار إجتماعية يعجز عن النهوض بها بسبب علة العجز في طبيعة عمل المثقف، أو في بضاعته التي يعرض على الجمهور، أو في التجافي الماهوي بين منطق العرض وحاجة الطلب! فمشكلة المثقف في النهاية ليست في الأهداف التي يرسمها لفاعليته، بل في الأدوات. التي يتوسّل بها لإنجاز تلك الأهداف، وفي خضم هذا يحدث ثقب استراتيجي في العلاقة بين المثقف والشعب يُنتج حالة من انعدام التواصل والتفاعل. بعد الحديث عن المفارقات، يعرج بنا الدكتور بلقزيز في كتابه نهاية الداعية إلى التفصيل في الأمراض المزمنة التي يعاني منها الوسط الثقافي العربي، فيحددها في أربعة أمراض: ١ النرجسية الثقافية التي يُعرِّفُها بالحالة التي تفيض فيها الثقة في النفس عن حدودها الطبيعية أو المحمودة إلى حيث تتحول إلى إيمانية مطلقة بالذات، وإلى تشرنق على عقائدها. ٢ السادية الثقافية التي تكون في صورة سلوك عدواني من مثقف أو مثقفين تجاه أفكار وآراء آخرين على نحو لا يتوازن فيه المثقف السادي إلا متى التذّ بالتجريح الذي أصاب به ضحاياه من المثقفين. ٣ من النقد الذاتي إلى المازوشية، ولتقريب القارئ من الصورة، يبيّن الدكتور عبد الإله بلقزيز الفارق بين من مارسوا "النقد الذاتي" وبين من مارسوا التعذيب الذاتي، حقيقة معرفية: هي أن الأولين، إذ راجعوا أفكارهم الماضية، حفظوا لها احتراماً موضوعياً على الرغم من كل ما قاموا به في حقها من دحض وتعرية، أما الأخيرين، فلم يحتفظوا لها إلا بمشاعر الإستهجان والندم . وهنا تقبع الحقيقة المعرفية: فوعي الأولين وعي تاريخي، يأخذ سياق الأفكار وظروفها في الاعتبار عند كل نقد، أما وعي الأخيرين، فوعي لا تاريخي بل وعي بائس في أغلب الأحوال. ٤ الفوبيا الثقافية أو المؤامرة والتي تكاد تكون من ثوابت الوعي في سائر تجلياته الإيديولوجية: الغرب يتآمر على الإسلام، الإمبريالية والصهيونية تتآمران على الأمة، والوطن، والعروبة، الحداثة المستوردة تتآمر على الهوية والأصالة، الأصولية والرجعية تتآمران على التقدم...هي في النهاية فوبياء مرتعبة من كل ما ليس ينتمي إلى "الأنا" ويتحول "الآخر" في امتدادها إلى شماعة تعلق عليها تلك الأنا الاجتماعية الثقافية مشاكلها الذاتية، فتستقيل من المسؤولية وتركن إلى الحلول السهلة والسريعة . وعلى كل هذا يقول الدكتور بلقزيز في كتابه نهاية الداعية الممكن والممتنع في أدوار المثقفين، أن التحرر الذاتي يبدأ من إخضاع الأفكار إلى محكمة المعرفة والواقع وتأسيس الحوار، والمخاطبة، والنقد، على معطيات التحكيمين: المعرفي والواقعي، ومحاسبة النفس على قدر طاقة الفعل الذاتي، ثم تمثل العالم الخارجي بعيدا عن فرضية العدوان.
ينبغي إعادة تدوين وكتابة تاريخ المثقف العربي مع وجوب أن تكون هذه الكتابة نقدية أو لا تكون. ليس معنى ذلك أنها ستكون مصادرة على النتائج، وقراءة موجهة وإسقاطية، بل هي تحتاج -إبتداءً - إلى أن تكون قراءة تاريخية: قراءة تدون بموضوعية عمل المثقفين وأدوارهم في حقلي الثقافة والإجتماع . غير أن مثل هذه القراءة التاريخية لا تكتسب مضمونا معرفيا صحيحا إلا متى أردفت التدوين بالمساءلة. إذ لا يجوز أن تترك المراجعة النقدية الصارمة للكثير من الأخطاء الكبرى التي ارتكبها المثقف العربي خلال تعاطيه مع قضايا المعرفة والإجتماع، والتي دفع الوعي العربي والمجتمع العربي غالياً ثمنها. ويقع ضمن تلك المراجعة نقد الأوهام والأساطير التي صنعها المثقف عن نفسه وعن قيمة بضاعته. بعد أن فصّل الدكتور عبد الإله بلقزيز في عِلل المثقفين، يعود ليجني مرارة ما زرعه المثقف العربي ويتجلى هذا الحصاد في: أ- الفقر المعرفي المزمن في الثقافة النظرية للمثقفين الذي بات يشمل اليوم عائقا معرفيا حقيقيا أمام تقدم عملية الإنتاج و الإبداع في المجالات الفكرية والرمزية. ب- نمط المعرفة الذي جعل المثقف العربي متشرنقا على حقائق نصوص السلف (الديني، القومي، الماركسي...) والتفكير من داخل معطياتها وحدودها الجغرافية-المعرفية مما ينتج مثقف بنزعة إيمانية وثوقية وخطاب وثوقي مطلق. الأفكار فيه منزهة عن الشّك والنقد، متشبعة بوهم الامتلاك المعرفي للحقيقة ج- في إنتاج ثقافة التبرير التي وحسب المؤلف شغلت مكان التنوير الذي هجره المثقف إلى ممارسة التسويغ والشرعنة وتبرير آراءه في المؤسسة السياسية وفي جوف هذا نتج صراع إيديولوحي أدى إلى حرب أهلية فكرية حصادها نزيف وعي عربي استنزف امكانياته! إنه وعي الفتنة حسب المؤلف وأول علاماته المخيفة الإرهاب الفكري الذي لم ينتج إلا العطب.
في النهاية يطرح الدكتور عبد الإله بلقزيز سؤال عن نهاية دور المثقف، بصيغة "هل انتهى دور المثقف؟" ثم يجيب أن لا بحيث مازال دور المثقف مطلوباً، شريطة أن يتخلّى عن أوهامه الرّسولية السّابقة وتأسيس معنى جديد للإلتزام، ثم الكفّ عن تضخيم دوره التّاريخي، وأن يقلع عن عادة انتداب النفس لأداء مهمات أعظم من حقل الثقافة ذاته! وبدلاً من ذلك، أن يعتاد على ممارسة الأدوار التي تناسب موقعه وحجمه في السُلّم الإجتماع�� للقوة، بل وأن يعتاد على إقامة الفاصل بين مايستطيع إنتاجه من معارف وأفكار، وما يملك هو بالذات أن يقوم به على سبيل تحويل تلك الأفكار إلى حقائق مادية.
نهاية الداعية الممكن والممتنع في أدوار المثقفين، كتاب نقدي بلغة مباشرة، قاسية حدّ القسوة، وإن شئنا قلنا المرآة الصقيلة ، التي بات من الضروري أن يتسمّر أمامها المثقف العربي اليوم ليهشّ عليه أدران الدّاعية.
"التأريخ لعلاقة المثقف العربي بمثلثه الإشكالي: المعرفة، الجمهور والسلطة؛ هو تأريخ لعلاقات من التوتر الإشكالي بين حدود متعارضة متنابذة: بين حد الأصالة والمعاصرة في الفكر والمعرفة، وحد الشعبوية والنخبوية في الوعي الاجتماعي والسياسي، وبين حد المعارضة والموالاة في علاقته بالسلطة." ... "ومع ذلك كله، مع هذا التحول الكبير في مكانة المثقف العربي الحديث ووظيفته، ما زال يتقمص دور الداعية، ويسند لنفسه أدوارا تتخطى قدرته الفعلية على الأداء والإنجاز، ما زال أسير صورته عن نفسه التي رسمتها له ظروف لم تعد موجودة: إنه الوهم، يملك عليه الوعي، ويدفعه إلى تقمص هو شكل من أشكال التعويض النفسي. مكابرة لفظية ضد الاعتراف بالهزيمة: هزيمة صورة ودور!"