فلسفة مرجعية القرآن المعرفية في إنتاج المعرفة الدينية" هي دراسة للباحث نجف علي ميرزائي، وهو مفكر إيراني ورئيس مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، وأستاذ في الحوزات العلمية والدينية، وله عدة كتب وأبحاث في الفلسفة والفكر الإسلامي. الدراسة التي تقع في 165 صفحة من القطع المتوسط منشورة ضمن سلسلة الدراسات القرآنية لمركز الحضارة لعام 2008م, وتعالج ثلاثة محاور رئيسية:
الأول: يتناول اعتبارية القرآن الكريم كمصدر أساسي لعملية إنتاج المعرفة الدينية.
والثاني: يبرز دور المرجعية القرآنية في صياغة الإستراتيجيات المعرفية والتنظير الحضاري.
والمحور الثالث: هو دعوة من الكاتب لـ"العودة إلى القرآن الكريم بوصفه مرجعية لإنقاذ الأمة".
الدراسة تهدف إلى توضيح حقيقة أن جذور هذه الانهيارات والانحرافات المعرفية والموضوعية التي تعيشها الأمة المسلمة، أو على الأقل بعض هذه الجذور، مردها إلى "هجر القرآن الكريم" في ساحة إنتاج العلم الديني، وجعله حكما على هذا الكم الهائل من العلوم الدينية المتراكمة.
وترى الدراسة أن عدم الاعتراف رسميا بالدور "المرجعي" للقرآن، ووظيفته متعددة الأبعاد في هندسة "بناء المعرفة" أدى إلى انفصال مثير للحيرة والتعجب، بين البنى التحتية للمعرفة الدينية، هذه البنى التي كانت في الحقيقة أطرافا لمركز واحد، وتجليات لمعرفة كبرى، تبدلت إلى جزر متباعدة، وأحيانا إلى جبهات متناحرة.
تنطلق هذه الدراسة الجادة من مقولة أساسية هي أن أساس الإشكالات الحضارية والثقافية جميعها كامن في الابتعاد عن القرآن الكريم في المسار المعرفي وفي مسار الإنتاج العلمي، وليس في السلوك الفردي، الذي ليس هو أساسا موضوع هذه الدراسة، وتدعو إلى العودة للقرآن الكريم على أنه الحلقة الرئيسية في سلسلة المصادر المعرفية، وأنه معيار وميزان "صواب" الآراء والأفكار وعدم صوابها، والمصدر الرئيسي للقواعد الثابتة والشاملة لجميع العلوم الدينية، وجميع تحركات الإنسان وتوجهاته نحو السعادة والهداية، والحبل الذي لولاه لانفرطت حبات العقد، وتبعثرت الفروع العلمية والمعارف حائرة دون هدف كل باتجاه قبلته الخاصة.
القانون الأساسي
إن استخدام مصطلح "القانون الأساسي" مقابل القوانين الأخرى المبنية عليه مصطلح ملائم لتوضيح العلاقة بين دور القرآن الكريم في العلم، فضلا عن علم المعرفة الديني، ودور المصادر الأخرى التي تسهم في إنتاج تلك المعرفة الدينية.
ويوضح الكاتب أهم سمات "القانون الأساسي" مقابلة بالقوانين العادية والتي يمكن إجمالها فيما يلي: "الكلية"، "التقعيد"، "التنظير"، "الرؤية الخلاقة"، "الشمولية الجامعية"، "السيادة والهيمنة على قوانين الدرجة الثانية"، كما أنه في الوقت نفسه مصدر ومنبع وضع تلك القوانين وتشريعها، وهي المعاني نفسها التي وردت في القرآن الكريم عنه: "القول الفصل"، و"الإمامة"، و"القيادة، و"المرجعية".
إن الفرضية العظيمة والخطيرة التي يجب أن تبذل جهودا بحثية عظيمة لإثباتها وتحقيقها، هي أن القرآن الكريم هو الميزان وهو المعيار في تقويم جميع المعارف، وفوق "حجيته" هو مقياس تقويم الحجج والمعارف المكتوبة أو الذهنية أو الشخصية.
إن إثبات حجية "الظواهر القرآنية" إلى جانب حجية خبر الواحد، بمعنى واحد "للحجية"، لا يحل المشكلة ولا يزيل العوائق، فما يؤدي إلى التوازن ورفع الخلل في منهجية إنتاج المعارف الدينية، واستنباط العلوم الشرعية، هو إعادة القرآن إلى رتبة الهيمنة والمرجعية، قياسا بمصادر إنتاج المعرفة الدينية الأخرى.
ويقصد الكاتب بالمعارف القرآنية جميع المعارف في القرآن ككل (دون تمييز أو تبعيض بين آيات الأحكام وغير الأحكام) كمنظومة علمية وتربوية واحدة، عظيمة وشاملة، لا تتجزأ ولا تتفكك، هي القانون الأساسي للهداية وللبناء وللسعادة، وهي الضامن الأول والأساسي لمقاصد الأحكام الإلهية، ولأهدافها ولمناهج تطبيقها، وهي العنصر الرابط لجميع السنن والأقوال الشرعية الأخرى، والجامع لها، وحلقة الاتصال فيما بينها، إن جميع الحقائق والمعارف تعود إلى القرآن.
القرآن وتأصيل المعارف الدينية
يجب الإشارة هنا إلى موضوع بالغ الأهمية، وهو أن لدور القرآن الكريم المهيمن والمرجعي في إنتاج العلوم الدينية وبلورتها وجهين: أحدهما تأصيل قضايا إنتاج العلوم الدينية وتصحيحها، والآخر يقع في الحيز الأساسي لإنتاج الفكر الديني.
بناء على ذلك فإن حركة إنتاج العلوم الدينية ما لم تكن مؤسسة على أفكار وقواعد كلية قرآنية المضمون والأسلوب تظل ركيكة وضعيفة وعاجزة عن تلبية حاجات العصور المتغيرة، كما أن تحقيقات الباحثين من علماء الدين الفقهية والعلمائية لن توصل إلى طريق "العلم الصحيح" والمعرفة الواقعية بسبب بعدها عن منابع القرآن الكريم الأصيلة غير البشرية وغير الوضعية، وعدم تسويغ ثمار هذه الاجتهادات في ظل الضوابط الكلية والنظريات والمبادئ الشاملة لآياته.
يؤكد ميرزائي أن إحدى المقولات الجديرة بالاهتمام في هذا المجال، والتي يجب أن تؤخذ في الحسبان حقيقة، أنه من دون أن تعود مرجعية المعارف الدينية ومنبعها إلى أصول القرآن الكريم الشاملة، ومن دون الاعتراف رسميا بدور القرآن التأسيسي في تقعيد مختلف اتجاهات المعارف الإنسانية والاجتماعية الموصوفة بالإسلامية، وحتى غير المنعوتة بها، فإن كل ما توصل إليه إسلاميو الحركات الإسلامية ليس أكثر من تطبيق جزئي للأحوال الشخصية.
وفي اعتقاد المؤلف أن الفكر الديني المتشكل في فضاء يخلو من فهم مقاصد الدين والشريعة، ولن يتمتع بأي وجه من الوجوه بقابلية التحرك في الساحات الاجتماعية، ويتبين عنده أن المقصود من جعل الفكر "مقاصدي المحور" هو إعداد الأطر الكبرى لعلم المعرفة الاجتماعي والمعاملاتي والمرتبط بالحركة الشاملة للإنسان وللغيب وللطبيعة.
لقد أدت الهوة العميقة التي ظهرت تدريجيا بين مجمل مسار إنتاج الفكر والمعارف الدينية وبين القرآن كمنبع أساسي إلى ظهور أو تقوية واستحكام بعض أزمات معرفية وانحرافات عن الموضوعية، يذكر الكاتب من بينها بضعة نماذج تحتاج إلى دراسة ماثولوجية، وهي: