Goodreads helps you follow your favorite authors. Be the first to learn about new releases!
Start by following حسن أوزال.
Showing 1-2 of 2
“عندما أسائل نفسي عن جدوى انشغالي بالفكر عموما والفلسفة خصوصا، أكاد لا أجد عذرا يشفي غليلي عدا كوني مهووسا بعشق الحياة. فبفضل هذا العشق وحده، أسترسل في قطف أزهار العمر، دونما كلل وأتحمّس للعيش كلّ يوم بيومه كما لو كان أو سيكون الأخير. على هذا النّحو، أختبر الحياة لا كفكرة بل كواقعة، واقعة تجبرني على الفعل أكثر منه على التّنظير. وتدفعني إلى البناء بدلا من الاكتفاء بالتّأمّل. من ثمّة حاجتنا للإيطيقا لا الأخلاق. الأولى تفضي بنا إلى النّظر إلى الحياة كظاهرة جماليّة، بيد أنّ الثّانية تُكْرِهُنا على الأخذ بالقبليّات وافتراض المسلّمات، وهو الخطير اعتقادٍ راسخٍ في الماورائيّات. نورد هذا التّوضيح لا لشيء إلاّ لأنّ نهج أسلوب إيطيقي في الحياة، لا يُبنى على فرضيّات وركام من المسلّمات، بل على وقائع معاشة ليس إلاّ. بعدئذ فقط، تغدو الحياة ممكنة، ولن نكون في حاجة للعثور لها على مبرّر خارج عنها، أيّا كان هذا المبرّر، تيولوجيا أو فنومنولوجيا. الحياة إذن أخلاق تُبنى وتًصنع، على قوام قاعدة فنيّة و أسلوب متعوي. وكلّ إنسان منذور للعيش، ملزم بالعمل على بناء ذاته، وتكوين نفسه حتّى يرقى إلى مستوى يليق به باعتباره كذلك. من ثمّة الحاجة الماسّة للفكر، بحيث يُمَكِّننا من بناء منظور، دقيق يكون بمثابة بوصلتنا للتّوجّه في جغرافيّة الحياة.
وبفضله فحسب، نضحي حكماء أنفسنا، ونستطيع أن ندرك وبوضوح كلّ أمورنا في الوقت الذي يتخبّط فيه عامّة النّاس في الظّلام وسوء التّقدير لشؤونهم. فأن يغدو المرء حكيما يعني من بين ما يعنيه، أن يتوفّر على ما يكفيه من قوّة وسلاسة سواء عند الاشتغال الذّهني أو البدني. أن يُبَيِّنَ على مقدرته على تحقيق كلّ ما يستعصي عموما على الآخرين. أن يكون آهلا لاكتشاف العلاقات الأكثر حميميّة التي تربطه بالعالم من حوله. أن يحرز، دونما ارتباك، الكايروس، تلك اللّحظة المناسبة للتّصرف. أن يعرف أن يميّز بين العام والخاص، أن يكون في مستوى الأحداث كما يؤكّد الرّواقيّون، أن ينمّي قدراته المعرفيّة قدر ما ينمّي مهاراته الجسديّة. سيرا وراء ذات النّهج، ورميا إلى بناء إنسان راق، صرّح الفرنسي فيليب صولرز مرّة بأنّ القراءة هي الحياة موضحا أنّنا لن نكتب على نحو جيّد إلاّ إذا كنّا نقرأ على نحو جيّد، لكنّنا لن نقرأ على نحو جيّد إلاّ إذا كنّا نحيا على نحو جيّد. وإذا كانت الكتابة والقراءة والحياة، قضايا متّصلة ببعضها البعض على نحو لا يقبل الانفصال، فذلك يرجع أوّلا إلى كون الكتابة وسيلة لا غاية في حد ذاتها. فالكتابة قبل أن تكون شكلا من أشكال الإبداع، فهي تقوية للحياة وخلق لإمكانات عيش جديدة، يزداد معها وفيها، قدرنا في الوجود، لننعم بسعادة لا توصف.
سعادة لا يتمتّع بها إلاّ من يحصل على فكرة جديدة أو يبتكر تصوّرا فعّالا و لهذا أثر في مساره اليومي. ذلك أنّ الأفكار على حدّ توصيف أبيقور، خيرات لا تفنى، تجعلنا نعيش كآلهة بين النّاس، أقوياء وعلى أحسن حال. على هذا الأساس، يغدو التّفلسف مثلا إحدى الطّرق التي نسعى من خلالها إلى التّخفيف من إكراهات المعيش، نشدانا للخير الأعظم من حيث هو السّعادة والفرح، المتعة والأتراكسيا والتّواجد على نحو أفضل ما أمكن.
جرّاء ذلك، ألفيتني أتعثّر سنينا، بين نصوص هذا الفيلسوف أو ذاك، وأقضي أعواما بصحبة هذا المفكّر أو غيره، ساعيا بكلّ ما أوتيت من جهد إلى تنمية سلطتي في الوجود، والرّفع ما أمكن من قدراتي حتّى لا تنطفئ فِيَّ الرغبةُ في العيش. إنّي بكلّ صراحة أعيش هؤلاء الفلاسفة وأنا أقرأهم. أجل فنيتشه مثلا ينبغي أن تحياه لا أن تقرأه فحسب. عليك أن توقع بصحبته خطوات في الفكر والحياة. أن ترافقه وتقترب من نثره المفعم بصوت خطواته، أن تختبر شذراته على نحو ما كان يكتبها ماشيا (كذلك الشّأن بالنّسبة إلى زارادوشت، إذ لن يفهمه من لم يعرف حياة الجبال و يتنفّس هواء القمم). عندها فقط سوف يَتَيَسَّرُ لك فهمه، لتجد نفسك، بعدئذ على غير ما كنتَ عليه، أو الأصحّ على ما ينبغي لكَ أن تكونه. لقد غَيَّر التقائي به أشياء عديدة. كذلك ديوجين الكلبي وأنتيستين، أبيقور وأريستبوس، ديمقريطس ولوكيبوس، وقراتوس وهيراقليطس، روجي لابورت وسبينوزا، مونتيني ولابويسي، بودلير ومالارمي، برودون وباكونين، فوكو ودولوز، كانديرا ودوستويفسكي، كافكا وميشال أنفراي، كريشنا مورتي و كامي... كلّ هؤلاء، وغيرهم كثر، ساهموا بشكل أو بآخر في صياغة حياتي، وتغييرها كلّيّا. لقد أنقذوني من الضّياع، ومنحوني فرصة إدراك معنى الحياة. عبر كتبهم لا أقول، أنّي تمكّنت فحسب، من اكتشاف عوالم غير معهودة، بل يسّروا لي السّفر إلى أقطار بعيدة، وذلك دون حاجة لجواز سفر ولا مصاريف تكلفة التّنقّل والإقامة.”
―
وبفضله فحسب، نضحي حكماء أنفسنا، ونستطيع أن ندرك وبوضوح كلّ أمورنا في الوقت الذي يتخبّط فيه عامّة النّاس في الظّلام وسوء التّقدير لشؤونهم. فأن يغدو المرء حكيما يعني من بين ما يعنيه، أن يتوفّر على ما يكفيه من قوّة وسلاسة سواء عند الاشتغال الذّهني أو البدني. أن يُبَيِّنَ على مقدرته على تحقيق كلّ ما يستعصي عموما على الآخرين. أن يكون آهلا لاكتشاف العلاقات الأكثر حميميّة التي تربطه بالعالم من حوله. أن يحرز، دونما ارتباك، الكايروس، تلك اللّحظة المناسبة للتّصرف. أن يعرف أن يميّز بين العام والخاص، أن يكون في مستوى الأحداث كما يؤكّد الرّواقيّون، أن ينمّي قدراته المعرفيّة قدر ما ينمّي مهاراته الجسديّة. سيرا وراء ذات النّهج، ورميا إلى بناء إنسان راق، صرّح الفرنسي فيليب صولرز مرّة بأنّ القراءة هي الحياة موضحا أنّنا لن نكتب على نحو جيّد إلاّ إذا كنّا نقرأ على نحو جيّد، لكنّنا لن نقرأ على نحو جيّد إلاّ إذا كنّا نحيا على نحو جيّد. وإذا كانت الكتابة والقراءة والحياة، قضايا متّصلة ببعضها البعض على نحو لا يقبل الانفصال، فذلك يرجع أوّلا إلى كون الكتابة وسيلة لا غاية في حد ذاتها. فالكتابة قبل أن تكون شكلا من أشكال الإبداع، فهي تقوية للحياة وخلق لإمكانات عيش جديدة، يزداد معها وفيها، قدرنا في الوجود، لننعم بسعادة لا توصف.
سعادة لا يتمتّع بها إلاّ من يحصل على فكرة جديدة أو يبتكر تصوّرا فعّالا و لهذا أثر في مساره اليومي. ذلك أنّ الأفكار على حدّ توصيف أبيقور، خيرات لا تفنى، تجعلنا نعيش كآلهة بين النّاس، أقوياء وعلى أحسن حال. على هذا الأساس، يغدو التّفلسف مثلا إحدى الطّرق التي نسعى من خلالها إلى التّخفيف من إكراهات المعيش، نشدانا للخير الأعظم من حيث هو السّعادة والفرح، المتعة والأتراكسيا والتّواجد على نحو أفضل ما أمكن.
جرّاء ذلك، ألفيتني أتعثّر سنينا، بين نصوص هذا الفيلسوف أو ذاك، وأقضي أعواما بصحبة هذا المفكّر أو غيره، ساعيا بكلّ ما أوتيت من جهد إلى تنمية سلطتي في الوجود، والرّفع ما أمكن من قدراتي حتّى لا تنطفئ فِيَّ الرغبةُ في العيش. إنّي بكلّ صراحة أعيش هؤلاء الفلاسفة وأنا أقرأهم. أجل فنيتشه مثلا ينبغي أن تحياه لا أن تقرأه فحسب. عليك أن توقع بصحبته خطوات في الفكر والحياة. أن ترافقه وتقترب من نثره المفعم بصوت خطواته، أن تختبر شذراته على نحو ما كان يكتبها ماشيا (كذلك الشّأن بالنّسبة إلى زارادوشت، إذ لن يفهمه من لم يعرف حياة الجبال و يتنفّس هواء القمم). عندها فقط سوف يَتَيَسَّرُ لك فهمه، لتجد نفسك، بعدئذ على غير ما كنتَ عليه، أو الأصحّ على ما ينبغي لكَ أن تكونه. لقد غَيَّر التقائي به أشياء عديدة. كذلك ديوجين الكلبي وأنتيستين، أبيقور وأريستبوس، ديمقريطس ولوكيبوس، وقراتوس وهيراقليطس، روجي لابورت وسبينوزا، مونتيني ولابويسي، بودلير ومالارمي، برودون وباكونين، فوكو ودولوز، كانديرا ودوستويفسكي، كافكا وميشال أنفراي، كريشنا مورتي و كامي... كلّ هؤلاء، وغيرهم كثر، ساهموا بشكل أو بآخر في صياغة حياتي، وتغييرها كلّيّا. لقد أنقذوني من الضّياع، ومنحوني فرصة إدراك معنى الحياة. عبر كتبهم لا أقول، أنّي تمكّنت فحسب، من اكتشاف عوالم غير معهودة، بل يسّروا لي السّفر إلى أقطار بعيدة، وذلك دون حاجة لجواز سفر ولا مصاريف تكلفة التّنقّل والإقامة.”
―
“فضلا عن ذلك، أجد أن ما ميّز إبداعاتهم أيضا، هو كونها لم تساعدني على حبّ الوحدة، واختبار متعها لأزيد من عقدين من الزّمن فحسب، بل مكّنتني أيضا، من الانفلات من قبضة التّرسيمات القطيعيّة، والتّخلّص من الاعتقادات الآسرة. لكنّ الوحدة، كفن صيانة الذّات، لا تفيد والحالة هاته، العزلة بل التّلاقي. أعني التّلاقي بنفسك، دونما إزعاج والنّظر إلى ذاتك وكلّ ما يحيط بك، بكلّ ما أوتيت من حرّيّة وإلى ما لانهاية. عندئذ فحسب، تستطيع أن تحتفي بجسدك في أوج عربدته الطّبيعيّة، وهو يمشي ويرقص، يفكّر ويكتب، يغنّي وينساق مع شطحات موسيقيّة... كيف لا، والجسد هو رأسمالنا الوحيد، في خضمّ روح هذا العصر الضّارب في العدميّة من رأسه حتّى أخمص قدميه؟ هذا كما أنّه، من خلالهم صِرْتُ أيضا، أدرك العالم كتحفة جماليّة، وهو أمر ليس سهل المنال، ويستدعي إيقاظ الحواسّ، واستثارتها عقليّا بواسطة الوعي. ذلك أنّ الوعي تفعيل لإرادة، بها نسموا ككائنات بشريّة عن الحيوان. لكن هذا الوعي، لا يفيد أن الاختلاف بين الإنسان والحيوان، اختلاف من حيث الطّبيعة أكثر ممّا يفيد أنّه اختلاف من حيث الدّرجة لا غير. وهو اختلاف، يترجم عمليّا في كون الإنسان وحده يدرك أنّه يستمتع، مثلما يعي أنّه كائن منذور للموت. بديهيّ إذن أن تكفل له هذه الإرادة الواعية، نوعا من التميّز، هو ما به يرقى بذاته فوق كلّ ما هو عامّي، ليتحوّل بالتّالي، من وضع بهيميّ، موسوم بالغباء والشّعبويّة إلى وضع استيطيقي، موشوم بالعبقريّة والأناقة. نقول هذا، لأنّ الاستمتاع دونما وعي، مجرّد خراب للنّفس ودمار للجسد. الاستمتاع إذن أسلوب في العيش، يستدعي الاشتغال على الذّات، على نحو مسترسل، حتىّ نرقى بها إلى مستوى نغدو فيه أسياد أنفسنا. لكنّك لن تكون سيّد نفسك، ما لم تكتسب، فضائل النّبل و العظمة، وتتشرّب شيم الأخلاق الأرستقراطيّة لا أخلاق العبيد.
الفرق بين الاثنين شاسع وكبير، بحيث أنّ الأرستقراطيّ هو من يعيش حياته، بغندرة، وفق مبدإ شامفور: "يستمتع و يمتّع دون أن يؤذي نفسه ولا غيره". أمّا نقيضه العبد، فهو من يرفض المتعة جملة وتفصيلا، وحالما يُقْبِلُ عليها، تجده يغوص في سلسلة من الأحزان اللاّمتناهية، جرّاء عدم تحلّيه أوّلا، بفنّ نحث الزّمان وعجزه ثانيا، عن الاشتغال على لحظات عمره، وجهله ثالثا، لتقنيّات بناء حيزه لأنطولوجي. تبعا لذلك فالعبد هو من لا يمكنه أن يستلذّ، دون أن يؤلم نفسه أو غيره. وهذا حال المرضى السّاديّين أو المازوشيّين، ولِمَ لا السّادو- مازوخ. درءا لمثل هذا النّزوع المرضي، أبدعت الحضارة البشريّة، في هذا الباب، جملة من الفنون، هي ما سمح لنا بأن نغدو أوّلا وكما قال ديكارت: "أسياد الطّبيعة ومالكيها". وأن نتحوّل ثانيا من منطق الحاجة إلى منطق الرّغبة. يتّضح ذلك، في التّقدّم الحاصل مع اكتشاف النّار، واختراع فنّ الطّبخ، الذي جعل من التّغذية قضيّة استطيقيّة مشمولة بالحرّيّة بعد أن كانت قدرا و قضيّة ضرورة.
وإذا كانت الإنسانيّة، كما يرى صاحب كتاب الطّبّ القديم، "قد انفصلت عن الحياة الحيوانيّة بفضل نوع من القطيعة الحميية"(1)، فذلك لأنّ الأكل صار فنّا، والحميّة طريقة لـ "أسلبة الحريّة" بتعبير فوكو، واختبار جماليّة الوجود. ممّا سمح لكلّ إنسان باختيار غذائه الملائم لصحّته، والمناسب لعمره، والبحث عن المناخ الجغرافيّ الموافق لجسمه. تبعا لذلك، ومع الوقت تدرّج الأمر، حتّى صحّ القول بأنّنا حصيلة ما نأكله، ونتاج ما نتغذّاه، بل يكفي أن نعرف ما يأكله المرء لنكشف توّا عن هويّته ومن يكون. أمّا فنّ صناعة العطور، فقد مكَّن من جهته، حاسّة الشمّ، باعتبارها باب العشق والحبّ، من التّأسيس لأواصر الوجدان وخلق أفق غير مسبوق في العلاقات البشريّة. ذلك أنّ للعطر علاقة وطيدة بالذّاكرة، وبه نستطيع أن نرسم معالم المرأة المحبوبة، ونسجّل حضورنا في مخيال النّساء المرغوب في معاشرتهنّ. كذلك الشّأن أيضا، بالنّسبة إلى العين والأذن واللّمس، فهي ما يمتدّ عبر أكثر من فنّ - كالسّينما والصّورة والهندسة والموسيقى والمسرح والنّحت والرّسم والرقص...
لتمكيننا من الانتشاء بسعادة يصنعها الوعي الذي يعتمل في فضاءات وأمكنة جغرافيّة متخيّلة أو محلوم بها، وفي صلة بتاريخ خاصّ، يتميّز بثرائه وفقره وعظمته وكبواته. ذلك أنّ السّعادة، مسألة خاصّة تقوم على جهد نبدّله ورغبة نبديها، كما تتطلّب العزم والإرادة والمبادرة والمجاسرة. فما من سعادة دونما إرادة استلذاذ، وما من متعة دونما اشتغال للوعي على نحو نستطيع بفضله الانتقال من مستوى المتعة البسيط والموجز الغير المصقول والفظ إلى مستوى أكثر حبكة وصنعا. فالمتعة باعتبارها أساس السّعادة، لا تنطبق بالضّرورة مع العواطف الفجّة والأحاسيس المباشرة، مثلما هي أبعد ما تكون عن الغريزة المشبعة والوجدان العفوي.”
―
الفرق بين الاثنين شاسع وكبير، بحيث أنّ الأرستقراطيّ هو من يعيش حياته، بغندرة، وفق مبدإ شامفور: "يستمتع و يمتّع دون أن يؤذي نفسه ولا غيره". أمّا نقيضه العبد، فهو من يرفض المتعة جملة وتفصيلا، وحالما يُقْبِلُ عليها، تجده يغوص في سلسلة من الأحزان اللاّمتناهية، جرّاء عدم تحلّيه أوّلا، بفنّ نحث الزّمان وعجزه ثانيا، عن الاشتغال على لحظات عمره، وجهله ثالثا، لتقنيّات بناء حيزه لأنطولوجي. تبعا لذلك فالعبد هو من لا يمكنه أن يستلذّ، دون أن يؤلم نفسه أو غيره. وهذا حال المرضى السّاديّين أو المازوشيّين، ولِمَ لا السّادو- مازوخ. درءا لمثل هذا النّزوع المرضي، أبدعت الحضارة البشريّة، في هذا الباب، جملة من الفنون، هي ما سمح لنا بأن نغدو أوّلا وكما قال ديكارت: "أسياد الطّبيعة ومالكيها". وأن نتحوّل ثانيا من منطق الحاجة إلى منطق الرّغبة. يتّضح ذلك، في التّقدّم الحاصل مع اكتشاف النّار، واختراع فنّ الطّبخ، الذي جعل من التّغذية قضيّة استطيقيّة مشمولة بالحرّيّة بعد أن كانت قدرا و قضيّة ضرورة.
وإذا كانت الإنسانيّة، كما يرى صاحب كتاب الطّبّ القديم، "قد انفصلت عن الحياة الحيوانيّة بفضل نوع من القطيعة الحميية"(1)، فذلك لأنّ الأكل صار فنّا، والحميّة طريقة لـ "أسلبة الحريّة" بتعبير فوكو، واختبار جماليّة الوجود. ممّا سمح لكلّ إنسان باختيار غذائه الملائم لصحّته، والمناسب لعمره، والبحث عن المناخ الجغرافيّ الموافق لجسمه. تبعا لذلك، ومع الوقت تدرّج الأمر، حتّى صحّ القول بأنّنا حصيلة ما نأكله، ونتاج ما نتغذّاه، بل يكفي أن نعرف ما يأكله المرء لنكشف توّا عن هويّته ومن يكون. أمّا فنّ صناعة العطور، فقد مكَّن من جهته، حاسّة الشمّ، باعتبارها باب العشق والحبّ، من التّأسيس لأواصر الوجدان وخلق أفق غير مسبوق في العلاقات البشريّة. ذلك أنّ للعطر علاقة وطيدة بالذّاكرة، وبه نستطيع أن نرسم معالم المرأة المحبوبة، ونسجّل حضورنا في مخيال النّساء المرغوب في معاشرتهنّ. كذلك الشّأن أيضا، بالنّسبة إلى العين والأذن واللّمس، فهي ما يمتدّ عبر أكثر من فنّ - كالسّينما والصّورة والهندسة والموسيقى والمسرح والنّحت والرّسم والرقص...
لتمكيننا من الانتشاء بسعادة يصنعها الوعي الذي يعتمل في فضاءات وأمكنة جغرافيّة متخيّلة أو محلوم بها، وفي صلة بتاريخ خاصّ، يتميّز بثرائه وفقره وعظمته وكبواته. ذلك أنّ السّعادة، مسألة خاصّة تقوم على جهد نبدّله ورغبة نبديها، كما تتطلّب العزم والإرادة والمبادرة والمجاسرة. فما من سعادة دونما إرادة استلذاذ، وما من متعة دونما اشتغال للوعي على نحو نستطيع بفضله الانتقال من مستوى المتعة البسيط والموجز الغير المصقول والفظ إلى مستوى أكثر حبكة وصنعا. فالمتعة باعتبارها أساس السّعادة، لا تنطبق بالضّرورة مع العواطف الفجّة والأحاسيس المباشرة، مثلما هي أبعد ما تكون عن الغريزة المشبعة والوجدان العفوي.”
―


