القـــاهرة ... موروث متتابــــــع

إن ذروة ما يقدمه الانسان من ذاته تشكيل بيئة من إبداعه تحاور الطبيعية ، وإدراك شفرة تلك البيئة يعبر عنه بالشخصية أو الهوية .. وهي أكبر من مجرد المحصلة الرياضية لخصائص وتنويعات وأحداث ، بل تتعدى كل هذا المجموع أو محصلته لتتسع لتراكم ابداعات الانسان المستوطن لمكان بعينه تتابعاُ أو تعاقباُ ، استمراراُ أو تقاطعاُ ، اتصالاُ أو انفصالاُ . وهو ما يمكن أن نتعارف عليه بالموروث المتتابع للعمران ، وإذا كنا نريد إدراك تلك الهوية فإننا نعتصر روح الجغرافيا والتاريخ معاً بكل تنويعاتهما وتشعباتهما حتى نستقطرهما في أدق مقولة مقبولة ومعقولة لتكون منقولة ومتوارثة

والحديث هنا عن القاهرة وعمرانها ، فكثيرا ما نتعرض لها بالدراسة أو التحليل ، بالنقد أو التعظيم ..
نتحدث عن القاهرة .. نعيشها ..
نتحرك فيها ومعها ..
ولكن هل ندركها أو نعرفها ..
هل يمكن أن نحدد ماهيتها وحدودها ..
هل نعرف لها معالم ترسم في ذاكرتنا جميعا صورة واحدة متفق عليها ..

أية قـــاهرة نقصد ... ؟؟؟

قاهــرة الزمان والتاريخ .. أم قاهـرة المكان والجغرافيا .. أم قاهـرة الإنسان وثقافته المتغيرة ..
من .. المعاصرة أو الحداثة أو مابعدها ..
إلى .. القديم في التاريخ الوسيط ومتغيراته المتتالية ..
إلى .. الأقدم في التاريخ بحلفاته المتعاقبة ..

القاهــرة المخططة ضمن سلطة دولة مركزية ..
أم القاهــرة العشوائية الفوضوية أو التلقائية في غياب الدولة ..
أم هي المتوازنة الجامعة في تعادلية بين المؤسسات المجتمعية ومؤسسات الدولة نفسها ..

قاهــرة الخاصة من قلة مسيطرة أم قاهــرة العامة من أكثرية مغلوب على أمرها ..
أم قاهــرة الحراك الاجتماعي وبالتالي العمراني لطبقات المجتمع في لحظة محددة أو على متوالية زمانية متتابعة ..

قاهــرة السياسة والدولة المركزية .. أم قاهــرة التجارة والاقتصاد وانفتاحه أو انفلاته ..

قاهــرة الفرد سواء كان مينا مؤسس أول دولة موحدة
عمرو بن العاص والفتح العربي
أو صلاح الدين الأيوبي وعودة الروح ومواجهة الآخر
أو الظاهر بيبرس وصد الهمجية وحماية الخلافة العربية
أو السلطان التركي سليم الأول الخليفة العثماني
أو علي بك الكبير وتطلعه إلى الاستقلال بولاية مصر
أو نابليون بونابرت الغازي الفرنسي الطامع
أو محمد علي باشا الوالي والنزعة التوسعية
أو اسماعيل باشا وحلم التغريب الأوروبي
أو جمال عبد الناصر والحلم القومي العربي
قاهرة هؤلاء الأفراد .. أم قاهــرة المجموع أوالمجتمع الحاضر الغائب في حياة المدينة وذاكرتها ..
قاهــرة النخبة .. أم قاهــرة العامة وأستسلامهم لارادة الفاعل وتحولهم إلى المفعول به ..

قاهــرة مصـرالمنغلقة على نفسها في خناق عمراني وحضاري ..
أم قاهــرة الأقليم ومسئوليتها عن أرتقاء وصحوة الشرق وصد هجمات الطامعين أوالطامحين أوالمحتلين من الشرق البعيد أو الغرب القريب ، أو من الداخل المسيطر والمستبد ..
أم قاهــرة العالم وقدرتها على المشاركة الفاعلة في حضارة الانسان أو غيابها الكامل عن الزمان والعالم والحضارة ..

قاهــرة التنوير والحرية أم قاهرة السكون والإستكانة ..

أية قاهـــرة نرصدها أو نقصدها أو نعيشها أو نحلم لها وبها ...

إن عمران القاهرة من قبيل المصادفة أو بحكم الوجود كما نفهمه ونقصده هو كل ذلك ، وهو موروث المجتمع المصري وليس مجرد المنقول فيه أو معه .. لذا نسأل هل القاهرة التي نبحث عنها هي مدينة أو مجموعة مدائن ..
إنها كما نراها في قراءتنا الذاتية بطبيعتها وعبقريتها وشخصيتها هي مدينة واحدة .. بحلقـات .. متقاطعة أو معزولة عن بعضها ..
متداخلة أو متجاورة مع بعضها ..
متوازنة أو متصارعة ضد بعضها ..

ولكنها دون شك كانت دوما .. ومازالت حلقات موجودة في الزمان وذات المكان .. ولا يمكن فهم تلك المدينة وعمرانها بدون فك طلاسم تلك الحلقات وهو مفتاح شخصية القاهـرة .. ومن البديهي أن دراسة عمران المكان لا يقتصر على مرحلة تاريخية معينة وإنما يترامى بعمق التجربة الحضارية نفسها .. لأنه بالدور التاريخي يمكن التعرف على الفاعلية الإيجابية للانسان وبيئته .. فإذا كان التاريخ ظل الانسان على الارض فإن العمران ظل الانسان على المكان في الزمان ، بل أن معظم التاريخ إن لم يكن حركة عمران ، فإن بعضه على الأقل عمراناً : ظاهره حدث .. وجوهره حادث .. فاعل أو مفعول .

إن هذا المنهج يعني ببساطة الانتقال من مرحلة المعرفة إلى حالة الفكر .. ومن الروايات المنقولة إلى الأفكار المعقولة ، في رحلة من إحصاء الحقائق إلى ذات الحقيقة نفسها ، من مشاهدة الحدث وتقريره إلى الكشف عن الحادث وتأصيله .. من الادراك إلى الابداع .. ويمكننا ذلك بالقراءة المتأنية لتلك الوقفات بموضوعية ومنهجية علمية وتحليلية ، من خلال ..
كتابات الرحالة والمؤرخين ..
خرائط الجغرفيين ..
رؤى المستشرقين الفنانين والمصورين ..
كتابات الأدباء أوالدراسات لأصحاب الفكر والفن والعلم الوطنيين ..

ونتتبع هنا بعض ملامح هذه المنهجية ـ ولو بشكل محدود ـ لتبيان إمكانية رسم صورة حقيقية للقاهرة عند إكتمال كافة جوانبها والمتوافقة مع العقل الجمعي للمجتمع بكل روافده ، تلك المنهجية ببعديها الجغرافي والتاريخي للقاهرة وموروثها المتتابع ..
البعد الجغرافي .. وقاهــرة المــــــكان

أما البعد الجغرافي للقاهرة نتعرف عليه ضمن عوامل كثيرة فهي قاهـرة التوازن بين النهر والوادي في مواجهة الجبل والصحراء شرق وغرب النهر ..
القاهـرة كيان عمراني موجود ومتنامي في حوار بين الجبل والنهر ..
الجبل .. المقطم ثابت في الشرق
والنهر .. النيل متغير في الغرب
والقـاهرة عمراناً متتابع بين الثابت والمتغير .. الراسخ والموسمي ..

حراك عمراني بقدر ما كان في إتجاه موازي للإثنين الجبل والنهر .. من الجنوب إلى الشمال ، كان أيضاَ في توجه متتابع من الثابت إلى والمتغير .. من الشرق إلى الغرب ..

وتبقى القاهرة عاصمة الدولة المركزية .. سواء بدورها القطري المحدود ، أو القومي العربي المتسع ، أو الإنساني الممتد ، تبقى القاهرة موجودة عند تلك النقطة المفصلية في نهاية الوادي الضيق المحدود القادم من الجنوب ، وبداية الدلتا المتسعة في إنفتاح نحو الشرق والشمال ..
قاهــرة البداية أو النهاية أو بداية النهاية أو نهاية البداية .. نهاية وادي المنبع وبداية دلتا المصب في انفتاح من الجنوب الى الشمال ..

قاهــرة التوحد بين التطلعات إلى الشمال المتوسطي ..
والتواصل والامتداد من الجنوب الافريقي ..
والتكامل مع الشرق الأسيوي ..


البعد التاريخي .. وقاهــرة الزمــــــان

أما البعد التاريخي يعتمد على قراءة الحلقات البنائية لمورفولوجية البنية الحضارية ..
قاهـرة الحضارة المصرية الأقدم ـ في منف وعين شمس وتأسيس أول دولة وعاصمة موحدة ..
قاهـرة ما قبل الاسلام ـ في حصن بابليون وتجمعات قبط مصر داخله وحوله ..
قاهـرة الفتح الاسلامي ـ في الفسطاط ثم العسكر والقطائع في مصر الطولونية ( العباسية ) ..
قاهـرة الفاطميين ـ في حصن المعزلدين الله وقصوره الملكية ..
قاهـرة المماليك ـ وأمتدادتها ما بين القلعة دار الحكم وبين حارات طبقات المجتمع العامة ..
قاهـرة الأمس القريب ما بعد الحملة الفرنسية وقيام دولة محمد على المركزية وتطلعاته التوسعية في الشرق ..
قاهـرة الفجر اللاحق مع الحركة الليبرالية في القرن العشرين نهاية بثورة يوليو وتحديث الدولة ونهضة لم تكتمل ..
قاهـرة الغد المنتظر مع صحوة قد لاندركها نحن في عمرنا القصير .. ولكنها آتية مع جيل آخر في القرن الواحد والعشرين ..

رحلة ممتدة ومتتابعة ، وخلال هذه الرحلة هناك محطات أو وقفات أو أحداث بعينها فاصلة في دور المدينة ووجودها وحالتها سواء كانت تلك الأحداث محلية أو إقليمية أو عالمية ؛ وعلى سبيل التوضيح وليس الحصر نحدد هنا أربع محطات أو حلقات في سيناريو تتابع رحلة المدينة ، أحداث لها دورها في تشكيل مورفولوجية القاهرة وهي أحداث محورية في تاريخ مصر والمنطقة والأقليم عامة ، وبالتالي المدينة والمجتمع :

• سنة 1258 كان سقوط بغداد على يد التتار وقيام دولة المماليك مع تحول سياسي في حكم مصر وإنتهاء دور الخلافة العباسية العربية ولم يبق منها إلا الصورة الرمزية التي أحتضنتها القاهرة لصبغ حكم المماليك بشرعية مفقودة ، وتنامي دور القاهرة السياسي منفردة في المشرق العربي لتصبح عاصمة الشرق وجنوب المتوسط مع إنقسام الأمة إلى قوميات وأقاليم كان المشرق العربي إحداها وعاصمته القاهرة تحت حكم زمرة المماليك .. إنفتاح اقليمي على المشرق العربي ..
• سنة 1517 كان سقوط دولة المماليك ونهاية الخلافة العربية رسمياً ، وأنتقال الخلافة إلى الاستانة وقيام الخلافة العثمانية التركية لتحل مكان الخلافة العربية ، وتتحول مصر إلى ولاية تابعة للخلافة الجديدة وأمست القاهرة عاصمة الولاية ، حقيقة أستمرت القاهرة في حراكها العمراني ولكن تغير دورها السياسي والاقليمي .. إنحسار إلى دور محلي ضمن الخلافة التركية ..
• سنة 1798 بعد قيام الثورة الفرنسية وصعود رياح التغيير والنهضة في أوروبا ، وتنامي الصراع بين الشمال والجنوب وتنازع القوى الأوروبية على السيطرة على الولايات العثمانية ومصر في مقدمتها ، مع ضعف الخلافة ـ فكانت الأطماع الأوروبية وتنامي دور المستشرقين في الشرق بداية من القرن الثامن عشر وكانت المواجهات التصادمية مع علي بك الكبير ، ثم كانت الحملة الفرنسية ونزعاتها العسكرية والاستشراقية ، وتوالدت عندئذ النزعات الأستقلالية مع محمد علي باشا اوكانت الريادة مع النخب المصرية في القاهرة .. وحينها كان للقاهرة دوراً مغايراً تتنازعها جذورها الاقليمية وانتمائاتها العربية ، وتطلعات حكامها الأوروبية في الغالب ، وكانت الذروة مع مرحلة ولاية اسماعيل باشا ومن بعده توفيق باشا والإنتهاء بالاحتلال العسكرى الإنجليزي سنة 1882 .. تبعية حضارية للغرب الأوروبي ..
• سنة 1923 بعد تنامي الحركة الوطنية المصرية نهاية القرن التاسع عشر مع العرابيين من جهة والتنويرين أمثال الشيخ محمد عبده وآخرين ، ومع مطلع القرن العشرين كان ميلاد الحركة الوطنية المصرية وتصاعد الروح الليرالية في القاهرة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية التركية نهائياً تولدت الدول القطرية في الشرق العربي فيما يشبه الأستقلال الوطني ، وتحولت مصر من ولاية عثمانية إلى دولة قطرية لها وجودها المستقل أسمياً وإن كانت تحت نير السيطرة الأوروبية ، وكان من المفترض أن تلعب دوراً قيادياً في محيطها العربي سياسياً وفكرياً وحضارياً ، وعادت القاهرة عاصمة الدولة المصرية القطرية ، ومع تنامي التيارات القومية أصبحت القاهرة مركز ونقطة جذب متفردة بموروثها التاريخي والحضاري وقدراتها في قلب الأقليم العربي باختلاف تياراتها .. تنامي دور وطني والعودة لريادة عربية ..

هذه أربع وقفات أو حلقات سبقتها حلقات في التاريخ الوسيط والقديم وتبعتها أخرى في التاريخ المعاصر بل هناك الكثير من الأحداث البينية التي تمثل محطات محورية في تشكيل القاهرة ، ولكن كان القصد هنا هو التمثيل للمنهجبة التى نراها للتعرف على القاهــرة في إطار موروثها المتتابع الذي ينتقل بنا وبالعمران كما أشرنا بداية من مرحلة المعرفة وحالة المشاهد الصامت الى مرحلة الفكر وحالة المشارك الفاعل .. ومن الحقائق المنقولة إلى الأفكار المعقولة .. من إحصاء الحقائق الى ذات الحقيقة نفسها ، من مشاهدة الحدث وتقريره إلى الكشف عن الحادث وتأصيله وتجذيره ... من الادراك إلى الابداع ..

إذن هي منظومة المناطق التراثية .. فمن جهة أخرى وعلى مستوى تفصيلي أو محلي يمكن الكشف أو قراءة هذا الموروث المتتابع للقاهرة بذات المنهجية ، فكما يمكن تطبيقه على المدينة في إطار شمولية عمرانها ودورها ، يمكن تحقيقه على مفرداتها واجزائها التي تشكل هذا النسيج العمراني . مع مراعاة أن المنهجية في شموليتها قد ترتبط بأحداث وأبعاد تاريخية وجغرافية لها ذات الشمولية ، بينما هذه المنهجية عند تطبيقها على الجزء قد تعتمد على انساق لها محليتها القطرية أو المدينية .

ولتقريب الرؤية ـ على سبيل المثال ـ نعرج الى منطقة الأزبكية أو حارة الأزبكية أو بركة الأزبكية أو بركة بطن البقرة كما كانت تسمى في العصر الوسيط من مراحل نمو القاهرة ، أرتبطت تلك المنطقة بذات الانساق للقاهرة في شموليتها ، وتلك المنهجية ببعديها الجغرافي والتاريخي للقاهرة وموروثها المتتابع ... الجغرافي في علاقة البناء العمراني للمنطقة بالنهر ..
والتاريخي بأحداثه السياسية والاقتصادية والمجتمعية ..
وبعمق الفعل الانساني في تشكيل المجتمع وتحولاته ..

ونحاول هنا قراءة تلك المنطقة التراثية داخل ذات المنظومة ..

منطقة الأزبكيـــــة .. بركة من البرك التي تشكلت نتيجة لعلاقة موسمية سنوية بين حركة فيضان النيل وأراضي الوادي المنخفضة شرق النهر ..

• مرت البركة بتغييرات في تشكيلها وحدودها ، ولكنها ظلت حتى القرن السادس عشر جزء من النسيج الأخضر للمناطق المزروعة في الوادي الفاصل بين المدينة ومناطقها الحضرية وبين النيل بوادية وأراضيه المنخفضة .
• سنة 1517 تحديداً مع سقوط الخلافة العربية وتحول في تشكيل الدولة ودخول مصر مرحلة الولاية التابعة ، وأمست القاهرة عاصمة الولاية المنوط بها فتح مجالات للتجارة الخارجية لحساب دولة الخلافة وولايتها الأخرى ، فكانت التحولات الاقتصادية ورواج الأنساق التجارية التي دفعت بتنمية بولاق الميناء النهري شمال القاهرة وربط هذا الميناء النهري مع القلب التجاري وقصبة القاهرة مروراً بمنطقة الأزبكية بشرايين حيوية .. وتحولت الأزبكية إلى متنزه عام للمجتمع للاحتفاليات العامة والخاصة ، ومحيطها منطقة نمو طبيعي لعمران القاهرة ونقطة جذب تنامت على مدي ثلاثة القرون لسكن النخب المجتمعية والزمر السياسية من جهة بالإضافة إلى استيطان الاجانب سواء من الشرقيين أو من المستشرقين الأوربيين في نهاية القرن الثامن عشر مثل حارات الروم والفرنح وغيرها ...
• سنة 1811 وهو التاريخ الفعلي لتمكن محمد علي باشا من السيطرة على مقاليد الولاية في القاهرة ، وكان عندها بداية احتكار الدولة للمقومات الاقتصادية وخاصة الأراضي الزراعية ، والتوجه المركزي للسيطرة والتحكم في شبكات الري من خلال المشروعات التي تبنتها الدولة ، وكانت بداية التحكم نسبياً في حركة النهر وفيضانه .. وتحولت بركة الأزبكية بحدودها كاملة بعد ردمها إلى متنزه حدائقي ، وأتخذ محمد علي باشا الوالي من المنطقة الغربية للأزبكية أحد مقرات السلطة الحاكمة على التوازي مع قصور القلعة وشبرا في القاهرة .. وكان هذا بداية تحولات سياسية ومجتمعية بالمنطقة أدت إلى بداية تغيير الصورة العمرانية للمنطقة ..
• سنة 1869 خلال ولاية اسماعيل باشا وبالتزامن مع مشروعات اسماعيل العمرانية في القاهرة وحلمه الأوروبي للقاهرة وأحتفالات أفتتاح قناة السويس ، تحولت الأزبكية نفسها من متنزه مجتمعي لجميع الطبقات إلى متنزه للصفوة من النخب المجتمعية وتقلصت مساحتها وأمست مركز لثقافة تلك النخب وضمت مؤسسات جديدة مثل الأوبرا ومسرح الأزبكية ... وغيرها . وبالتدريج تقلص دور الأزبكية في حياة المدينة وأنفصلت عن عوام المجتمع وأحتفاليتهم التي عاشوها معها لثلاثة قرون سابقة ؛ ومن جهة أخرى وعلى التوازي مع تنامي وتنافس القوى الأوروبية للسيطرة على موارد مصر وأستحداث أنظمة مالية ومصرفية حديثة .. تحولت الأزبكية مع تدخل رأس المال الأحنبي فى الأقتصاد المصري إلى مركز للمؤسسات المصرفية الأجنبية وتنامت معها الأحياء السكنية للجاليات الأجنبية وأستمرت حركة التغيير مع ظهور حي الاسماعيلية والتوفيقية والناصرية .. وتزاتر أنماط العمارة الأوروبية كنسق عام للمنطقة وأنشطتها ..

وختاماً .. إن تغيير الأنساق السياسية والأقتصادية وما يرتبط بها من أحداث تاريخية وتأثيرات مجتمعية سواء على المستوى الشمولي خارجياً أو داخلياً ، أو على المستوى المحلي التفصيلي هو جزء من الموروث المتتابع للمدينة .. كما أن الوضعية الجغرافية للمدينة وكياناتها وما تحمله من ثوابت ومتغيرات هي كذلك محورا من محاور هذا الموروث . وهكذا نحن نغوص في عمق المكان ونعبر الزمان بحثا عن الدر المكنون .. صورة نرسم ملامحها من تتبع الموروث العمراني والمجتمعي للقاهرة لتكون صياغة لفهم عمران القاهرة حاضرة مصر ... بعيداً عن أي تقييم عمراني أو معماري أو حتى أخلاقي وتاريخي ، ولكنها العلاقة الجدلية التي نقصدها من منهجية هذه القراءة لعمران القاهرة في بعديها المكاني والزماني ، ولتكن محاولة عودة الروح والذاكرة .. نرجو منها عند إكتمالها وبقدر جديتها وصدقها ، أن تكون فاعلة ولها مصدقياتها ، وأن تكون جادة وجديدة ، اضافة تصبو لحالة المضاف والمضاف إليه ..

ويبقى الجوهر المكين في ذات المكان والانسان واحد متوحد ..

فالعمـــــــــران هو دائماً ....
ظل الانســـــــان
على المكـــــــان
في الزمــــــــان

والموروث المتتابع لعمران القاهرة هو محصلة هذه الجدلية ...


طـــارق والي
ديسمبر 2010
 •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on August 23, 2015 01:32
Comments Showing 1-1 of 1 (1 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

message 1: by طارق (new)

طارق والي سبق نشر هذا المقال على الجريدة الاليكترونية لمركز طارق والي العمارة والتراث https://walycenterjournal.wordpress.com/


back to top