زاهي رستم زاهي’s Comments (group member since May 13, 2012)



Showing 1-20 of 22
« previous 1

Jan 19, 2014 11:00PM

69796 دراسة من مكتبة الشبكة الريفية
بعنوان
ميخائيل نعيمة فيلسوفاً ومفكراً وأديباً

لمن يهمه الأمر
رابط تحميل الملف
http://www.reefnet.gov.sy/booksprojec...
Apr 01, 2013 06:23AM

69796 Suzan wrote: "هل سنبصر يوماً ما ميلاد الحضارة رقم واحد؟
شكراً عالمشاركة"


خلينا نسميها الحضارة الأقدم.. وبعتقد أن هذا شيء بعيد المنال.. بس إيه في أمل
Jan 06, 2013 11:46PM

69796 ليست العصبية القومية بالشيء الجديد، فالشعور بها يرقى إلى أقدم العصور يوم لم يكن بد للقبيلة من أن تتكاتف للنضال ضد الطبيعة وضد قبائل أخرى كانت تشن عليها الغارات لتسلبها ما لديها من مقومات العيش. ويوم كانت القبيلة وحدة منكمشة على ذاتها تأبى التخالط مع غيرها من القبائل.

ولكن التطور دأب الحياة. وأكره ما تكرهه الجمود.


فهي ما فرقت البشر قبائل لأسباب إلا عادت تجمعهم لأسباب أخرى سالكة إلى جمعهم مسالك شتى أهمها الحرب والتجارة والصناعة وما يهتدي إليه الفكر البشري من اختراعات واكتشافات لا تلبث أن تعم الأرض.

وعلامات هذا الاتجاه أكثر من أن تحصى. وهي مرسومة بخطوط من نار على الأفق البعيد. وليس ينكرها إلا الأعمى أو المتعامي.

فالناس سائرون نحو الوحدة الإنسانية بخطى قد تكون وئيدة إلا أنها ثابتة.

أما ترون إلى أفكارهم كيف يلقح بعضها بعضاً حتى إنكم لا تجدون أقل غرابة في فرنسي يحدثكم عن الحلاج، وعربي عن برغسون؟ أو في روسي معجب بالفردوسي، وفارسي معجب بدوستويفسكي؟

أم ما ترون إلى أبدان الناس في كل مكان كيف تكتسي بما ينسجه الناس في كل مكان، وكيف تغتذي بما تنتجه كل بقعة من بقاع الأرض؟

حتى أنكم تبصرون اليوم وتسمعون وتعلمون وتسعون لا بأعينكم وآذانكم وأيديكم وأرجلكم لا غير بل بأعين كل الناس وآذانهم وأيديهم وأرجلهم.

ذلك كلام ليس من المجاز في شيء، بل هو الحقيقة العارية من كل مزخرف ومجاز.

أم ما ترون إلى مساكن الناس بماذا تفرش وبماذا تنار؟ وإلى مراسمهم الاجتماعية والسياسية وإلى ملاهيهم ومواصلاتهم كيف تكاد تكون واحدة؟

ثم أما ترون إلى دمائهم كيف مزجتها وتمزجها الحروب والهجرة من بلاد إلى بلاد؟

إذن ماذا تبقى لكم من القومية؟ هيكل أجوف لا غير. لكنه هيكل صلب عنيد يأبى التفكك إلا عظمة عظمة. والذي ساعد على بقائه حتى اليوم هو حليفه الأكبر.

أو تدرون ما هو حليف القومية الأكبر؟ هو الاستعمار.

أجل، لقد كان الاستعمار الأعمى – وما يزال – حليف القومية العمياء لا عدوها. وأنا ما أعرف أسخف تفكيراً وأقصر بصراً من شعب يحاول أن يزدرد بالقوة شعباً آخر. فالشعوب ليست باللقمة السائغة التي يسهل ازدرادها. واتحادها لا يتم بابتلاع واحدها الآخر. بل يتم كاتحاد الأوكسجين بالهيدروجين في الماء. فلا ذاك يفنى في هذا، ولا هذا في ذاك. بل يكون اتحاد الاثنين عنصراً جديداً قوياً ونافعاً وجميلاً هو الماء.

ما من قوة إلا تخلق معانديها. وقوة الاستعمار الغاشمة خلقت عناد القومية الجاهلة. إذ دفعتها إلى التفتيش عن سلاح تدافع به عن كيانها وتبرر وجودها. فما استنكفت في تفتيشها عن نبش القبور.

وفي القبور اهتدت إلى السلاح الأمضى في يدها والأحب إلى قلبها. ألا وهو التبجج بأمجاد السلف: “العالم مدين لأسلافنا بكيت وكيت”. كأن العالم اقترض يوماً ولم يوف. أو كأن شأن العالم مع نفسه أن يدينها أو يستدين منها.

أي فخر للحبشة في أن يكون النيل حبشي المولد؟ إن يكن هنالك من فخر فهو فخر البحر الذي فجر النيل من جبال الحبشة وأرسله رياً وحياة لأرض موات.

أي عز لآثينا في أن تكون مهد سقراط وقد أكرهته على ابتلاع السم لتتخلص من عزه؟ إن يكن هنالك من عز فهو عز الإنسانية التي تمخضت عن سقراط في آثينا.

أي مجد لليهود في أن يولد المسيح من فتاة يهودية، وقد علقوه على خشبة بين لصين ليهربوا من مجده؟ إن يكن هنالك من مجد فهو مجد القدرة التي اختارت للمسيح أماً يهودية لتجعله هادياً لكل من تاقت نفوسهم إلى الهدى من أبناء الأرض.

وثمة سلاح ثان اهتدت إليه القومية، عليه بريق من سناء العلم وجلاله. وهو المبدأ القائل بتنازع البقاء وبقاء الأنسب. أما الأنسب فليس من يعرف حتى اليوم ما هو أو من هو. وأما تنازع البقاء، أي نضال الواحد ضد الكل، فمذهب شاخ وهرم.

وها هي الطبيعة رغم ما فيها من نزاع، تقوم حياتها على التعاون أكثر منها على النزاع بكثير.

اعتبروا النحل والنمل والجراد وأجناساً لا تحصى من الطير والحيوان. فأكثرها يتعاون لا على البقاء وحسب بل على الاستمتاع بلذة الوجود وجذل الحياة.

ثم اعتبروا الإنسان. فهو حتى في حروبه يلجأ إلى التعاون. وما السلاح الذي يستخدمه إلا نتيجة تعاون أفكار الناس وعضلاتهم في كل مكان. وما الجنود يسوقها أفواجاً إلى حومة الوغى إلا مظهر رائع من مظاهر التعاون.

لقد آن للقومية الهوجاء العمياء إما أن تنتحي جانباً من الطريق، أو أن تسير مبصرة مؤمنة مع قافلة الإنسانية المؤمنة المبصرة إلى هدفها البعيد. ألا وهو توحيد قوى الإنسان وتحريره من قيود الحدود لراحة كل قوم ولمجد الناس أينما كانوا ومن أي جنس كانوا.

| ميخائيل نعيمة |
Dec 21, 2012 12:04AM

69796 حذارِ من وثن السلطان، وحذارِ من حليف له ألهوه باسم الرأي العام. فالسلطان يدعي أنه لا يعمل شيئاً من عنده. بل يعمل كل أعماله امتثالاً لمشيئة الرأي العام. إلا أنه لا يغفل لحظة عن تغذية ذلك الرأي وتنميته وتدريبه على هواه. حتى إذا لان له قسا عليه، أو قسا عليه لان له. فكأن معاهدة التحالف بينهما تقضي بأمر واحد لا غير. وهو أن يحك الواحد ظهر الآخر.

إن تعبيرنا الرأي العام تعبير خطأ. فالمقصود بالرأي العام، متوسط رأي الأكثرية لا رأي العموم.


ولو كان لنا أن نعرف حقيقة ما في أفكار الناس وقلوبهم، ثم لو كان لنا أن نعرف متوسط أفكارهم ومشاعرهم؛ ثم لو كانت لنا تلك الشعرة السحرية التي بها نفصل ما بين الأكثرية والأقلية لتوصلنا إلى شيءٍ يحق لنا أن ندعوه الرأي العام.

أما وجماهير الناس يشعرون ويتكلمون في الغالب بما يتلقنون، أما ولم نهتد بعد إلى تلك الشعرة السحرية، فما هو الرأي العام الذي نخشاه ونهابه ونمتثل لأمره؟

إنه ما يصوره لنا السلطان والذين لهم غلال يجمعونها من دهاء السلطان وسذاجة الجماهير.

حتى ولو فرضنا أن الرأي العام رأي حر لا يتأثر بعوامل مصطنعة، فماذا يؤهله لطاعتي وطاعتكم، واحترامي واحترامكم؟

ومتى كانت الجماهير أكثر من قطعان تساق إلى المسلخ بمثل السهولة التي تساق إلى المرعى؟

بل متى كانت الجماهير تميز بين راعيها وجزارها؟

وهذا تاريخها حافل بالشواهد على تنكيلها برعاتها واستسلامها لجزاريها. أما ثار بنو إسرائيل في البرية على موسى لأنه أنقذهم من عبودية فرعون؟

أما صلب المسيح أولئك الذين جاءهم المسيح بندى المحبة، وبلسم الغفران، وأجنحة الحرية، والرجاء بالحياة الأبدية؟

أما امتشقت قريش الحسام في وجه من جاء ليعطيها قوة أين منها قوة الحسام؟

ما لي أعدد مآثم الجماهير ورأيها العام وهي تكاد لا تحصى؟ فالواقع لا مندوحة من الاعتراف به هو أن شأن الجماهير الجمود وشأن الأنبياء والعبقريين الوثوب.

والجامد كان، وما برح، عقبة في سبيل الوثوب.

لئن جاز لنا أن نقيد ذوي السلطان وأبناء الشارع بعبادة وثن ندعوه الرأي العام فمن الإثم أن نقيد بها الذين يستقون وحي الحياة من مناهل لا يعرفها الشارع ولا كرسي الحكم.

هنالك أوثان وعبادات أوثان لا يتسع هذا الكتيب للحديث عن كل منها على حدة. كعبادة البطن، وعبادة الملاهي، وعبادة اللياقات الاجتماعية التي أصبحت قشوراً بغير لباب، وعبادة السرعة التي تسابق الزمان ولن تسبقه، وإن سبقته فما تدري ماذا تعمل بالوقت الذي وفرته.

وعبادة العائلة التي تقدس الروابط الدموية بين حفنة من الناس وترذلها بين الناس أجمعين جاهلة أن العائلة الصغيرة ليست سوى الباب الضيق المؤدي إلى العائلة البشرية الكبيرة، وأننا نربي أولادنا للعالم لا لأنفسنا لا غير.

ولعل أغرب تلك العبادات هي عبادة العبادة.

وأعني عبادة الإنسان لربه على وتيرة واحدة حتى لتصبح تأديتها على شكل واحد وفي مكان معلوم وأوقات محدودة فريضة مقدسة إذا أخل العابد بشيء منها فسدت عبادته وأغضب ربه. فكأنه يعبد “برنامج” العبادة قبل أن يعبد ربه.

إلا أن بين الأوثان التي ما ذكرتها بعد ثلاثة لا بد من الكلام عنها بشيء من التبسيط وهي: وثن القومية، ووثن الكلمة السوداء، ووثن العلم. فعبادة هذه قد تفشت بين أبناء هذا الزمان إلى حد بعيد.

| ميخائيل نعيمة | الأوثان |
Oct 18, 2012 01:39AM

69796 يلاصق وثن القوة حتى ليكاد يكون توأماً له وثنٌ يدانيه ضخامة ورهبة، هو وثن السلطان.

والسلطان، كما تعلمون يخول صاحبه حق الأمر والنهي والتصرف بشؤون الناس الخاضعين له. وهو يقوم على دعامات بعضها في الأرض وبعضها في السماء.

أما السماوية فهي “نعمة الله”، وأما الأرضية فأهمها القانون. ونحن ما نزال نسمع ملوكاً إذا خاطبوا شعبهم فباسم السلطة المعطاة لهم من الله.


لقد كان الملوك في البداية زعماء عصابات مسلحة تسطو على الآمنين في مزارعهم ومتاجرهم من الناس فتفرض عليهم حمايتها من عصابات مثلها لقاء جزية يدفعونها؛ فما عتموا أن أصبحوا أسيادهم المطلقين والحاكمين في أرزاقهم وأعناقهم.

ثم كانت صفقة عقدها الدين مع الدنيا وإذا بالملوك يصبحون أبناء السماء المختارين الحاكمين Dei Gratia أي بنعمة الله.

ثم كانت الثورات التي تعهدون. وإذا بمصدر السلطان ينحدر من السماء إلى الأرض. إنه لانقلاب هائل ليس يقوى عليه إلا هذا الكائن العجيب الذي ندعوه الإنسان. فليس من السهل أن تنتزع السلطة من يد الخالق وتضعها في أيدي الجماهير من مخلوقاته. فينبري حكام الأمم يتكلمون لا “بنعمة الله” بل “باسم الشعب” كيت وكيت.

مسكين هو الشعب – ذلك المجموع المبهم، الحائر، الصابر، المتألم المؤمل، المترقب أبداً طلائع الفرج ومواكب السعادة تسوقها إليه زمرة اختارها – أو توهم أنه اختارها لتدبير شؤونه.

فما أكثر ما يرتكب باسمه من الجرائم والموبقات، ويحلل في سبيل إسعاده من المحرمات!

لقد أدخلوا في خلده أنه المصدر الأول والأخير لكل سلطة على الأرض. وأن حكامه خدامه. فهم ليسوا بأكثر من حراس يقيمهم على راحته وسلامة أملاكه وأروحه لقاء أجر يؤديه لهم من ماله.

ولكنهم ما لبثوا أن أحاطوا السلطة المعطاة لهم بهالة من التقديس. فراحوا يقرعون أمامها الطبول، وينفخون في الصور، ويفرشون لأقدامها الطنافس، ويسكبون على أيديها العطور، ويزينون صدرها بأوسمة المجد والشرف.

وذلك دأب السلطة في كل زمان ومكان: تولد حملاً وديعاً فتصبح ليثاً هصوراً. وهكذا انعكست الآية. فغدا الخادم مخدوماً والمخدوم خادماً. وغدا الشعب حارساً لحراسه. وآلة في يد الآلة التي ابتدعها لراحته وسلامته.

هكذاصارت السلطة وثناً يتسابق لاسترضائه الكبير والصغير، ويقدم على مذبحه كل نفيس وعزيز.

ألا ليت السكارى بخمر السلطة يصحون يوماً من سكرهم ليعرفوا أي خمر هي الخمر التي يشربون، وأي وثن هو الوثن الذي يعبدون. إنهم ليشربون ذل الذليل، وفن المأفون، وغباوة الغبي، وضعف الضعيف، وجوع الجائع، وسخافة الذين نُباح الطبل في آذانهم أعذب من همس جبريل. إنهم ليعبدون سراباً في صحراء.

لمن السلطان في العالم الأوسع الذي ليست الأرض فيه سوى برغشة على قرن ثور؟

أللشمس، أم للمجرة، أم للثريا؟

لمن السلطان على الأرض التي ليس الإنسان بين سكانها سوى نقطة في بحر؟ أللريح، أم للتراب؟

ولمن السلطان في الناس؟ أللطفل في مهده، أم للميت في لحده؟ أللعامل في معمله، أم للكاهن في معبده، أم للمعلم في معهده؟ أللقائد والحاكم والقاضي، أم للجندي والمحكوم والمتقاضي؟

إن لكل هؤلاء بعضاً من السلطان وليس لأي منهم السلطان كله. كلنا خادم ومخدوم، وحاكم ومحكوم، وحارس ومحروس.

وكل ما في الكون يتساند ويتعاضد للقيام بمهمة الكون التي إن جهلناها دهوراً فلن نجهلها إلى الأبد.

ومهمة هذا الكون العجيب الشامل إنما تقوم بإرادته العجيبة الشاملة: إرادتكم وإرادتي وإرادة كل إنسان وكل منظور وغير منظور في المسكونة. ولهذه الإرادة وحدها السلطان في الكون. وسلطانها وحدها حريٌ بالعبادة.

أما سلطان الإنسان على الإنسان فوثن قزم، دميم، زنيم، وهو للتحطيم لا للتكريم. وأنا أربأ بما في أعالي الإنسان النيرة من طهر وقوة وجلال أن يتمرغ بما لا يزال راسباً في أغواره من حمأة وضعف وصغارة.

| ميخائيل نعيمة | الأوثان |
Sep 21, 2012 12:29PM

69796 لو تمكنت البشرية يوماً من القضاء على وثن المال لربحت بذلك نصف المعركة مع وثن آخر يدعى القوة. إذ ليس من شك في أن للمال قوة قلما تدانيها أخرى في التعمير والتخريب، والبطش والتهويل، وبسط النفوذ على الآخرين.

وللقوة في شتى مظاهرها هيبة وسلطان على الناس يجعلان لها مقام المعبود في أوهامهم. جميلة هي القوة وقبيح هو نقيضها الضعف.

ولكنها ليست من الجمال في شيء – بل هي أقبح من الضعف – عندما نجعل منها وثناً نريق على قدميه الزكي والبريء من دمائنا.


والقوة واسطة إلى غاية لا غاية في ذاتها.

فإن جملت غايتها وسمت كانت القوة جميلة وسامية. وإن قبحت غايتها وسفلت كانت القوة قبيحة وسافلة.

وأنبل غايات القوة، في اعتقادي، تحرير الانسان من الخوف. لكنما الناس لا يعبدون القوة طمعاً بأن تحررهم من المخاوف. بل ليزرعوا بمعونتها الخوف في قلوب أعدائهم ومنافسيهم، وليبسطوا بذلك سلطانهم عليهم، وليتمجدوا في عيون أنفسهم وفي عيون الآخرين كأقوياء. فالقوة عندهم مجد وعز وسؤدد، سواء أكانت قوة عضل، أو قوة مال، أو قوة سلاح وسلطان.

أما قوة العضل فأبرز أوثانها في أيامنا هم الملاكمون. ومن بعدهم أولئك من رجال الرياضة البدنية بأنواعها الذين نطرح عليهم وشاح “البطولة”. أما تذكرون لكمةً جلبت لصاحبها مليوناً وبعض المليون من الدولارات، ما عدا أكاليل المجد والصيت العريض؟ وذلك من عهد قريب وفي بلاد تُعد في طليعة بلدان العالم حضارةً وازدهاراً.

إن عيني لتقر بمنظر ثور لامع الشعر، محبوك القوائم، متين القرنين. وإني لأفهم حق مثل ذلك الثور أن يعتز بشعره اللامع، وقوائمه المحبوكة، وقرنيه المتينين.

أما أن يعتز إنسان على إنسان بساعد مفتول، وكتف عريضة، ورقبة من حديد فأمر لا أراه لائقاً بالإنسان. وإلا فما فضل الإنسان على الثور، وأين الفرق بين الاثنين؟

أما قوة الدهاء فكفاها تشنيعاً أن تقوم في ما تقوم عليه، على المكر والنفاق والاحتيال. وإذ ذاك فكل ما تبديه من حذق وذكاء وسداد في الرأي ليس أكثر من نفاق تسرول بالصدق، واحتيال تقنع بقناع الفضيلة – فضيلة المنفعة الموهومة. والناس مع ذلك، يعبدون الدهاء ويمجدون الدهاة.

وأما قوة المال فقد سبق الكلام عنها ولا حاجة إلى زيادة.

وأما قوة السلاح فليس من ينكر جليل شأنها في أعين عُباد القوة من أبناء هذا الزمان. فكبار الأمم وصغارها لا تعلق حياتها على شيء بقدر ما تعلقها على قوة سلاحها. والأمة الأقوى سلاحاً هي الأكثر مهابة، والأنفذ كلمة، والأبعد تأثيراً في مجالس الأمم. وأمسنا القريب يشهد كيف كاد العالم بأسره يتحول إلى هيكل واحد تقام فيه عبادة دولة واحدة أوشك سلاحها أن يجتاح الأرض.

أما اليوم فعندنا بدل الهيكل الواحد هياكل عدة تقام في كل منها العبادة لسلاح هذه الدولة أو تلك من دول الأرض العظام. وذوو المآرب يغذون تلك العبادة بالشمع والزيت والبخور وبكل ما أوتوه من قوة الدهاء. وليس من إمام واحد يجرؤ أن يصرخ في العابدين:

“أيها الناس. ما هذا الذي تعبدون؟

أهو القوة؟ إذن أحر بكم أن تعبدوا الريح فهي أقوى من النسيم، والإعصار فهو أقوى من الريح، والزلزال فهو أقوى من غلإعصار. أحر بكم أن تعبدوا الذئب فهو أقوى من الحمل، والثعلب فهو أقوى من الدجاجة، والزنبور فهو أقوى من النحلة. بل أحر بكم أن تعبدوا بعوضة – تدمي مقلة الأسد -، ودودة تودي بسنديانة، وميكروباً يبطش بإنسان. أحر بكم أن تعبدوا الموت. فهو القاهر الذي ما قهرته قوة. وأما الإنسان الذي تتمثلون فيه كلكم والذي ما فتئ منذ أن كان يشنها حرباً شعواء على الكون لينتزع منه أسراره ويبسط عليه سلطانه، ولما ينهزم بعد.

أجل، أما ذلك الإنسان الذي هو بإيمانه أقوى من الموت، فما شأنكم منه!؟ وأي الإيمان هو إيمان الإنسان؟ إنه لأكثر من إيمان. إنه الثقة التي ما زحزحها الجهاد بآلامه وجراحه وكوارثه بل زادها قوة ورسوخاً بأن الإنسان لا بد بالغ يوماً مبتغاه.

ذلكم الإيمان هو قوة الإنسان، لا عضله ولا دهاؤه، ولا صحته ولا سلاحه. كل هذه عجاج لا غير تثيره المعركة. من عبدها فقد عبد العجاج. لئن لم يكن بد من عبادة القوة فاعبدوا إيمان الإنسان. فهو القوة التي ما انهزمت بعد من وجه القوة. أما أن تعبدوا الفرس دون فارسه، والسيف دون ضاربه، والملك دون مالكه فعار عليكم وأي عار. أنتم واحد في الجهاد، لا قبيلة ضد قبيلة، ولا بلاد ضد بلاد. فاعلموا ذلك واعملوا يداً واحدة وقلباً واحداً وإرادة واحدة. وإذ ذاك فالنصر معقود بلوائكم في النهاية من غير شك.”.

| ميخائيل نعيمة | الأوثان |
Aug 11, 2012 11:47AM

69796 المال حيلة استنبطها الإنسان لتيسير شؤون المعيشة، كما استنبط النار والإبرة والدولاب وحروف الهجاء والطباعة وسواها من الحيل التي تشهد له بعبقرية لا نفاذ لخزانها.

فقد كان من المستطاع لرجلٍ في حالة الهمجية أن يقايض جاره شاةً بمئزر من جلد غزال. أما أن يسوق رجل اليوم ثوراً إلى حانوت جواخ أو خوام ليتركه هناك ويعود بثوب أو أثواب من الجوخ أو الخام فأمرٌ إن لم يكن متعذراً بالتمام كان مرهقاً ومستهجناً إلى أقصى حد.

وهنا جاء المال فجعل المتعذر ممكناً، والمرهق سهلاً، والمستهجن مستحباً. وذاك بأن أقام لكل ما يتداوله الناس أثماناً، وأقام للأثمان رموزاً يسهل حملها ونقلها.

وهذه الرموز قد تدرجت على الأيام من قطع من الخشب أو الحديد إلى نقود نحاسية وفضية وذهبية، ثم إلى أوراق تقوم مقام النقود، فإلى سندات وحوالات على مصارف تقوم مقام الأوراق. حتى أصبح من الممكن لرجل في أقاصي المشرق أن يبتاع من رجل في أقاصي المغرب أشياء قد تملأ مركباً أو مراكب فلا يعطي لقاءها غير وريقة تحمل توقيعه واسم مصرف من المصارف ورقم الثمن المطلوب دفعه. هذه أمور أولية قل من يجهلها من أبناء اليوم. فهم يعرفون أن المال رمز إلى الثروة وليس الثروة.

ولكنهم في الغالب يجهلون – وبعضهم يتجاهل عن قصد وتصميم – ذلك السر الذي يجعل من الرموز وثناً لا حد لسلطانه فراح الناس يتهالكون في سبيله. حتى أنهم ليضحون له بأثمن ما في حياتهم من صدق وشرف ووجدان. ناهيكم بالأعمار التي يحرقونها على مذبحه شمعاً وبخوراً. فما هو ذلك السر؟

لا بد لنا قبل الجواب من أن نحدد الثروة التي جعلنا المال رمزاً لها. فما هي الثروة؟

هي جميع مقومات الحياة البشرية التي تقدمها لنا الطبيعة بغير انقطاع فلا نستطيع التمتع بها إلا بإنفاق جهد جليل أو ضئيل، قد يكون من أعصابنا، وقد يكون من أدمغتنا. وهذا الجهد جهد مشترك يستحيل على إنسان واحد، أو جماعة واحدة من الناس، القيام به.

إنه لجهد الانسانية على بكرة أبيها من آدم حتى اليوم، ومن أعلم عالم حتى أجهل جاهل. وهو جهد متماسك تماسك الخيوط في النسيج، ومتساند تساند الحجارة في البنيان. فلا يقوم عمل، مهما يكن نوعه، ودمها المحموم.

هي أعصابها المكدودة، ودماغها الملتهب، وأحلامها المشردة، وأيامها ولياليها الضاحكة – الباكية.

هي نضالها الأبدي المستميت مع الأرض لتجعل منها نقطة الوثوب إلى السماء، بل لتجعلها السماء.

وليس في استطاعة بشر أو ملاك أن يميز في القيمة أو الأهمية بين جهد إنسان وإنسان، أو جيل وجيل، أو شعب وشعب ما دام الكل ينتهي بتقديم حياته في سبيل الكل. ومن منكم يجرؤ أن يثمن الحياة؟

إذن كانت الثروة الحياة.

أما الفلس فقد فعل ما لا تستطيع فعله الأبالسة ولا الملائكة. إذ أقام أثماناً فردية للجهود الفردية، فجعل الواحد بمقام الألف – وأحياناً بمقام المليون. وجعل قيمة البعض صفراً عن اليسار.

ههنا السر. ههنا الفخ والمزلقة. ههنا منبع هائل من منابع البغض والحسد والنزاع بين الناس.

لقد كان من خدعة الفلس الجهنمية أن أصبح في استطاعة إنسان واحد أن تكون له حصة ألف إنسان في ثروة البشرية المشتركة، وأن يكون ألف إنسان بدون حصة واحدة.

لقد نتج عنها استعباد الإنسان للإنسان، وانقياد الجماهير للفرد، واستثمار من حالفهم الفلس لمن عاداهم.

تلك هي المأساة – مأساتنا، وذلك هو الخزي – خزينا، كلما تمادينا في عبادتنا للرمز فجعلناه شكيمة في فم المرموز إليه، وغلاً في عنقه، وأداةً لاستعباده.

يا للحيف أن يجوع من يزرع، ويعرى من ينسج، ويبقى بدون مأوى من يبني القصور!

يا للعار أن يكون فينا من يريد أن يعمل فلا يجد ما يعمله، ومن يحب الأرض فنقيم سدوداً معينة بينه وبين الأرض، ومن يطلب لقمة يتبلغ بها فلا يجد إليها سبيلاً سوى يد ممدوة، وعين كسيرة، ولسان يكيل الدعاء بغير حساب!

ثم يا للفضيحة أن نستر خزينا، وحيفنا، وعارنا بستار واهٍ من فضيلة جرباء ندعوها الإحسان!

إنما الحياة حق من علُ لا صدقة من أسفل. وللبطيء فيها والكسيح والضرير والأبرص مثلما للسريع والقوي والمبصر والسليم.

أما الحسنة فتخدير لضمير المحسن وقتل لوجدان المحسن إليه.

فلتكن حسنة الإنسانية إلى المعوزين من أبنائها أن ترد لهم حقهم في خيرات الحياة المشتركة. وأن تجعل من المال – إن لم يكن منه بد – شهادةً من الإنسان للإنسان بأن عرق الاثنين ودمهما قد امتزجا في النضال. وأن للواحد من الحق في الغنيمة مثلما للآخر.

وبغير ذلك لن تستقيم لنا حياة.

فما دمنا نثمن الحياة التي لا تثمن دامت أثماننا مترجرجة كالزئبق فما كان لشيء في حياتنا استقرار، ودام المال وثناً تغرينا عبادته براحة كلها تعب، وسعادةٍ قلبها شقاء، وقوةٍ عضلاتها من خيوط العنكبوت.
حداد (2 new)
Jul 25, 2012 01:30PM

69796 Sarah wrote: "لابد لي من قراءة هذا الكتاب الرائع إن شاء الله
لأني أرى هنا إبداعاً نعيمياً آخر"


ينبغي لك أن تسيري على الدرب.. لتقطفي من الكرم..
Jul 25, 2012 01:28PM

69796 لكل زمان أوثانه. بعضها قديم تتوارثه الأجيال المتعاقبة. والآخر مستحدث تخلقه الظروف المستحدثة. بعضها يتمتع بعبادة الناس أجمعين، وبعضها تنحصر عبادته في طبقة دون غيرها من طبقات المجموعة البشرية. فمن ظن أن الوثنية تحطمت ومضت دخاناً في الفضاء أيام تحطمت الأوثان ومضت دخاناً في الفضاء كان على ضلال مبين.

ذلك لأن الوثنية فكرة تتجسد لا جسد يفكر، وقد تتجسد في خشبة مثلما تتجسد في كلمة. وفي الحالين ما للفأس ولا للنار منها نصيب. فأنتم بتحطيمكم قنديل الكهرباء لا تحطمون الكهرباء، وأنتم بحرقكم كتاباً ما لا تحرقون الكاتب الذي ألفه.

وما هي الوثنية؟
هي أن يخلق الإنسان خالقه، ثم أن يمضي في عبادته كما لو كان في الواقع يملك القدرة المطلقة على إسعاده وإشقائه. فيسترضيه بكل عزيز وثمين.

والعبادة درجات: منها الحارة، ومنها الفاترة، ومنها الباردة، ومنها ما ليس أكثر من كلمة طائشة تفتش عن معنى فلا تجده. أما العبادة الحارة فهي أن يقدم العابد لمعبوده بسخاء ما بعده سخاء قرابين من فكره وقلبه وجسده كالتي يقدمها العاشق لمعشوقه، أو كالتي تقدمها الوالدة لمولودها.

وأما الفاترة فهي دون الحارة سخاء بكثير. وأما الباردة فهي الشح بعينه. وأما التي ليست سوى كلمة طائشة تفتش عن معنى فلا تجده فهي عبادة الشفاه دون الأفكار والقلوب والأجساد.

وأخشى أن هذه الأخيرة هي العبادة الأكثر انتشاراً ما بين الذين يدعون عبادة الإله الأوحد، الأزلي الأبدي، الكائن في كل مكان، القادر على كل شيء والعالم بكل شيء. أما العبادة الحارة فقد وقفوها على أوثانهم!

أتعجبون لقولي إن عبادة الله وعبادة الأوثان تمشيان، حتى في أيامنا هذه، جنباً إلى جنب، وإن ظل الأولى يكاد يغشى إلى حد أن يجعل منها ظلاً لا غير؟

لقد كان من العجب حقاً لو أن الأمر كان على العكس من ذلك. إذن لحق لنا القول بأن الإنسان يوشك أن يتأله باتحاده مع الله. أما والإنسان ما يزال طفلاً بالنسبة إلى الله فلا تثريب عليه إن هو انصرف إلى عبادة مخاليقه عن عبادة خالقه.

أما ترون إلى الطفل كيف يأخذه الزهو وتعبث به النشوة كلما صور صورة على حائط، أو بنى بيتاً من الطين، أو صنع صفارة من القصب، أو غير ذلك من الأعمال الصبيانية؟ تلك هي “مخلوقاته”. وهي في نظره عجيبة وحرية بأن يقدم لها القرابين من فكره وقلبه وجسده. ففيها قد جسد جانباً من المواهب الكامنة في كيانه، فكانت له مرآة تعكس بعض ما في نفسه. وهو إذ يعبدها إنما يعبد فيها نفسه.

قلت إن عبادة الله وعبادة الأوثان تمشيان جنباً إلى جنب. وهو قول ليس بالمبتكر ولا بالجديد. ولا بدعة فيه ولا تجديف. فمنذ ما يقارب الألفي سنة خاطب الناصري أبناء جلدته – أحفاد إبراهيم وإسحق ويعقوب – بقوله:

“لا يستطيع أحد أن يعبد ربين… الله والمال.” فالناصري كان يعلم أن أبناء الله وشعبه المختار ما عبدوا الخالق إلا أشركوا في عبادته أوثاناً خلقوها هم وراحوا يسفحون على أقدامهم دم القلب ونضارة العمر.

ومن تلك الأوثان المال. وهو ما يزال الأعظم والأهم بين أوثان هذا الزمان. فجدير بي وقد اخترت أن أسوق أمامكم قافلة صغيرة من أوثان هذا الزمان، أن أجعل المال في الطليعة.
حداد (2 new)
Jul 25, 2012 01:22PM

69796 سمعتُ مرةً الحوار الآتي ما بين زنجي صغير وأمه:
الصغير: لماذا نحن سود يا أماه؟
الأم: لأننا في حداد يا بني.
الصغير: وعلى من نحن في حداد يا أماه؟
الأم: على أخوانك البيض يا بني.
الصغير: ومتى ننزع الحداد يا أماه؟
الأم: يوم تسود وجوههم خجلاً منا فتبيض وجوهنا عطفاً عليهم.

| ميخائيل نعيمة | كرم على درب |
شكر (4 new)
Jul 09, 2012 04:22PM

69796 أن يصيبك داء النعيمية كما أصابني.. وبالمناسبة.. أنه مرض لذيذ
شكر (4 new)
Jul 09, 2012 02:24PM

69796 Sarah wrote: "لكنها انتعشت فانتعشت

رائعة كصاحبها"


بت أخشى عليك يا سارة!
شكر (4 new)
Jul 09, 2012 01:04PM

69796 سقيتُ زهرةً في حديقتي كان قد برح بها العطش، فلم تقل لي “شكراً”. لكنها انتعشت فانتعشت

| ميخائيل نعيمة | كرم على درب |
صادق (1 new)
Jul 09, 2012 01:02PM

69796 مهازل الحياة أكثر من أن تحصى. ومن أطرفها مهزلة الأسماء التي يحملها الكثير من الناس فتبدو كما لو كانت تحقيراً لهم وتشهيراً. كم من جميلة لو وقعت عليها عينك لتعوذت من بشاعتها بإبليس؟ أو وردة لو اقتربت منها لظننتك في جوار مزبلة؟ أو عفاف ضجت بفحشها المواخير؟ كم من أسد لو رأى أرنباً في النهار لفر لا يلوي على شيء؟ أو كريم قد تنتزع عظمة من فم كلب قبل أن تنتزع فلساً من يده؟ أو أمين ليس في الناس من يأتمنه على قشرة بصلة؟ إن الأمثلة على ذلك لأكثر من أن تعد.

أما صاحبنا صادق الذي جئت أحدثك عنه فحاله مع اسمه تختلف عما ذكرت كل الاختلاف. فقد لبسه اسمه كما لبسه جلده – سواء بسواء. حتى إنك لو عرفته، وشئت أن تختار له اسماً، لما اخترت إلا صادق. والغريب أن هذه المطابقة بين الاسم والمسمى قد سببت لصاحب الاسم مشاكل هي أبعد ما تكون عن المهازل.

لن يضر صادق إذا أنا منعته من الصرف من بعد أن منعته الحياة مما هو أثمن بكثير من التنوين. فقد كان بكر والديه ووحيدهما. والثلاثة يملكون من حطام الدنيا ومن رقعة الكرة الأرضية الشاسعة غير الفسحة الضيقة التي يقوم عليها بيتهم الحقير، الصغير. وكأن الأقدار، من بعد ما قسمت لصادق تلك القسمة، استكثرت نصيبه وخشيت عليه من الغرور والبطر. فما لبثت أن أرسلت صاعقة ذهبت بوالديه وبالبيت دفعة واحدة، وتركته ولا معين له غير القليل الذي اختزنه من خبرة دنيوية وقوة بدنية في خلال السنوات العشر التي عاشها على الأرض.

وأشفق على صادق أحد جيرانه في القرية – وكان فلاحاً ميسوراً – فاكتراه ليرعى بقراته. وسر الفلاح منتهى السرور بالولد عندما رآه يعتني ببقراته خيراً منه. ومم زاد في سروره أن صادق كان قليل الكلام، قليل الأكل، لا يطيق البطالة، ولا يعرف الخبث، ولا يعصي أمراً، ولا يتفوه بشكوى، أو بشتيمة، أو بكلمة بذيئة. فقر رأيه على أن يقيم للولد أجراً شهرياً، ولو ضئيلاً، بالإضافة إلى مؤونته وكسوته.

وذات صباح أبصر الفلاح رجلاً قادماً من بعيد. فعرفه وعرف أنه آت ليستدين منه بعض المال. فدخل البيت وأوصد الباب من الداخل من بعد أن قال لصادق: “عندما يأتي فلان قل له إني لست في البيت”. وجاء الرجل وسأل صادق عن معلمه فأجابه بمنتهى البساطة: “لقد دخل البيت، وأوصد الباب، وأوصاني أن أقول لك إنه ليس في البيت”. فاستشاط الرجل غيظاً وراح يقرع بعنف أكره الفلاح على الخروج من مخبأه. وكان عتاب انتهى بأن نال الزائر القرض الذي جاء يطلبه. فما إن انصرف وتوارى عن السمع والبصر حتى انهال الفلاح بالضرب على صادق، آناً بكفيه، وآونة بعصا مسننة، غليظة. وما برح به حتى ارتمى على الأرض فاقد الوعي، مهشم البدن.

بعد شهور جاء الفلاح رجل غريب قال له إنه يرغب في شراء بقرة مكتملة الصفات: لبنها غزير، وشكلها جميل، وأخلاقها رضية. فأمر الفلاح صادق أن يقود “الغندورة” إلى الزائر الكريم. وكانت على وشك أن تضع مولودها الثاني. ودرها الكبير يكاد ينفجر لكثرة ما تجمع فيه من لبن. وبعد أخذ ورد، وأقسام غليظة من الجانبين، اقتنع الغريب أن “الغندورة” هي البقرة التي يبحث عنها. وأخرج المال من جيبه ليدفع الثمن المتفق عليه. وخطر له، من باب الدعابة، أن يسأل صادق رأيه في البقرة. فقال: أنت تحب الغندورة من غير شك. وستحزن على فراقها. إنها بقرة ممتازة من جميع الوجوه. أليس كذلك؟ فما كان من صادق إلا أن جرض بريقه وأجاب: لولا أنها تلبط عند الحلب.

فكان أن بقيت البقرة عند صاحبها، ولم يبقَ صادق. ولن يطاوعني قلمي لأصف لك كل ما تعرض له ذلك الولد المسكين من صفع ولطم وشتيمة ودوس بالأقدام حتى لكادت روحه تزهق من بين جنبيه.

من بعدها عاش صادق فترة من الزمن كأنه قابيل المطرود من وجه ربه. فما إن يحظى بعمل عند أحد من الناس حتى تبدو منه بادرة تسبب له الطرد من عمله. وهكذا اتفق له مرة أن يعمل في خدمة أرملة ثرية. فأحبته الأرملة وائتمنته على أشياء كثيرة. وذات يوم استدعته وقالت له: اذهب يا صادق لعند السيدة فلانة زوجة الوزير فلان وقل لها إنني أشكو صداعاً أليماً وآسف أن لا أستطيع تلبية دعوتها للسهرة الليلة. إنها امرأة ثقيلة الدم، مزهوة بمركزها ومالها. وأنا لا أطيق مجالسها ومجالس الذين تدعوهم إلى بيتها.

فذهب صادق إلى السيدة وأبلغها الرسالة بحذافيرها، بما فيه قول الأرملة عنها إنها ثقيلة الدم ومزهوة بمركزها ومالها. وعاد إلى البيت ليبلغ الآرملة أنه أدى رسالتها بمنتهى الأمانة. وإذا بها، وسماعة التلفون على أذنها، والهياج باد في صوتها وفي وجهها، تقسم اليمين تلو اليمين أنها لم تقل شيئاً من ذلك لخادمها، وأنه ولد أبله، كذوب، يختلق الأخبار اختلاقاً. وهي مستعدة أن تصرفه من خدمتها حالما يعود، وأن تذهب إلى السهرة برغم الصداع الأليم الذي تعانيه. فسهرات عقيلة الوزير من المتع النادرة التي يجب أن لا تفوت من يسعدهم الحظ بالاشتراك فيها. أما النتيجة لصادق فكانت أنه اضطر أن ينام ليلته في العراء.

في تلك الليلة خاطب صادق نفسه فقال: لم يبق أمامك يا صادق إلا الانتحار. ها أنت في العشرين من عمرك، وحتى اليوم لم تستقر في عمل واحد من الأعمال الكثيرة التي باشرتها منذ نعومة أظفارك. في حين يستقر غيرك في أعمالهم طوال أعمارهم. ما أنت بالأبله ولا أنت تختلق الأخبار اختلاقاً كما قالت الأرملة. ولست بالكسول، أو السراق، أو الأفاك، أو الثرثار، أو الرجل الشرس الأخلاق. فلماذا يجافيك الناس، ويجافيك الحظ، فتسعى إلى رزقك، ورزقك يهرب منك؟ لو كان لك حق في الحياة كباقي الناس لآن لك أن تعرفه وتهتدي إليه. ولكنك بغير حق. إنك متطفل. إنك صفر في حساب الناس. ومن كان في مثل ما أنت فيه يا صادق كان الانتحار سبيله الأوحد إلى الخلاص.

وقر رأي الفتى على الانتحار – لكن في الصباح لا في الليل. وبغتة عنّ له خاطر أبصر فيه بصيصاً من النور. فقد لاح له أنه لو تعلم قيادة السيارات لوجد في ذلك مهنة ثابتة تكفل له رزقه وتضفي على حياته لوناً ثابتاً.

وكان لصادق ما أراد. وأصبح سائقاً ماهراً، يدير السيارة بحذاقة ولباقة كما يدير رجله في المشي وعينه في النظر،وذات يوم قرأ في بعض الصحف أن محامياً يفتش عن سائق لسيارته. فذهب إليه في الحال وعرض عليه خدماته. فقال له المحامي وكان رجلاً وقوراً: اسمع يا بني. لقد بدلت حتى اليوم عشرة سواقين. أوتدري لماذا؟ لأنني أريد من سائق سيارتي أولاً: أن يحسن مهنته. ثانياً: أن يملك أعصابه فلا يسوق برعونة. ثالثاً: أن يملك لسانه فلا ينقل ولا كلمة من أي حديث يدور بيني وبين أفراد عائلتي وضيوفي، في البيت أو خارجه، وفي السيارة أو خارجها. رابعاً: أن يكون أميناً فلا يأخذ ما لا حق له فيه من مالي أو مال سواي. خامساً: أن لا يتذوق التبغ أو المسكر ولا يقترب من موائد القمار. سادساً: أن يكون بعيداً عن الفحشاء. سابعاً وأخيراً: أن لا يكذب ولو هددوه بقطع لسانه. فأكره ما أكرهه الكذب. حتى في أتفه الأمور. فإن كانت لك هذه المؤهلات فأهلاً وسهلاً بك. وسأعاملك كما لو كنت واحداً من أفراد عائلتي. وإلا فأبق بعيداً عني.

فأشرقت أسارير صادق وقال بلسان متلعثم من شدة الفرح: جربني يا سيدي. وما أظنك تكون إلا راضياً.

انقضى عام وبعض العام وصادق يكاد لا يصدق أنه اهتدى في النهاية إلى حقه في الحياة. وإذ عادت به الذاكرة إلى تلك الليلة التي قر رأيه فيها على الانتحار ضحك في قلبه من حماقته وشكر ربه وقال: لقد كنت لجوجاً. واللجاجة ضرب من العمى والكفر بالله. أما أني تعلمت قيادة السيارات، وحظيت بهذا المحامي النبيل، فقد كان ذلك وحياً من السماء.

وكان يوم بديع من أيام الربيع. فشاء المحامي وعائلته أن يخرجوا في نزهة بالسيارة إلى المكان الذي يختاره لهم صادق. فاختار صادق نبعة ثرة في واد يبعد عن المدينة زهاء عشرين ميلاً. ظلاله ناعمات، ونسماته بليلات، وأرضه مكسوة بالخضرة الموشاة بألوان شتى الأزهار. وابتهج الجميع بتلك القطعة الساحرة التي اختارها لهم صادق. وكانوا قد جلبوا معهم زاداً كثيراً لنهارهم. فما دروا من فرط سرورهم، كيف نفذ منهم الزاد وتقلص النهار. فودعوا الوادي وبودهم لو يستطيعون نقله معهم إلى المدينة.

وشاء المحامي في طريق العودة أن يقود السيارة بيده. فتخلى له صادق عن المقود. وفيما هم يقطعون بستاناً في ضواحي المدينة قفز بغتة إلى الطريق ولد كان يطارد عصفوراً. فما استطاع السائق أن يحيد عنه، ورهسه. فصاح صادق مذعوراً: لقد رهست الولد يا سيدي. توقف لنحمله إلى المشفى. إلا أن المحامي انطلق بسرعة جنونية. وعندما بلغ البيت أوصى بأن لا يفوه أحد منهم بكلمة عما كان.

واتفق عند وقوع الحادث أن أبصر البستاني رقم السيارة الجانية، فدونه ونقله إلى الشرطة. وفي الصباح صدرت الصحف وفيها أن سائق المحامي فلان قد أخذ السيارة من غير علم صاحبها وخرج في نزهة مع عشيقته. وكان يسوق بسرعة فائقة. فرهس ولداً كان يسير وحده في الطريق ولم يتوقف بل تابع سيره بسرعة خاطفة. ويقال إنه كان في حالة سكر.

وبعد ثلاثة شهور نقلت الصحف الخبر التالي: وجد السجين صادق الضايع، سائق السيارة التي رهست ولداً منذ ثلاثة شهور، مشنوقاً في زنزانته. وكان قد حكم عليه بالسجن عشر سنوات. وقد أثبت التحقيق أن الوفاة حدثت انتحاراً. وعثروا في جيب المنتحر على ورقة جاءت فيها هذه العبارة، وقد كتبت بخط يكاد لا يقرأ: تباً لدنيا لا مجال فيها لصادق.
Jul 09, 2012 12:56PM

69796 سمعت في حلمي – ويا للعجب! -
سمعت شيطاناً يناجي ملاك
يقول: إي، بل ألف إي، يا أخي
لولا جحيمي أين كانت سماك
أليس أنّا توأمان استوى
سر البقاء فينا وسر الهلاك
ألم نُصغْ من جوهر واحد
إن ينسني الناس، أتنسى أخاك
فاطرق ابن النور مسترجعاً
في نفسه ذكرى زمان قديم
واغرورقت عيناه لما انحنى
مستغفراً، وعانق ابن الجحيم
وقال: إي، بل ألف إي، يا أخي
من نارك الحرّى أتاني النعيم
وحلق الاثنان جنباً إلى
جنبٍ، وغابا بين وشي السديم
Jun 21, 2012 11:23AM

69796 Sarah wrote: "إن تلك الكلمات فلسفة نعيمية من نوع خاص
فعلا إنه إنسان مبدع
شكرا زاهي"


العفو...
وربما تدعو هذه الفلسفة الجميع للتواضع... حيثأن عدد الجبال هذه الأيام.. أكثر من عدد الوديان.
توازن (2 new)
Jun 20, 2012 03:15PM

69796 إنحدر على قدر ما ترتقي.. وإلا فقدت توازنك.
Jun 20, 2012 03:11PM

69796 إذا سألت الجبل من أين جاء بعلوه، يجيبك من الوادي.
خيانة (2 new)
Jun 20, 2012 03:07PM

69796 شاركت الحَمَلْ في لبن أمه، ثم استبحت لحمه، فهل أفظع ممن يأكل أخاه بالرضاعة.
العراك (1 new)
Jun 12, 2012 11:52PM

69796 دخل الشيطان قلبي فرأى فيه ملاك
وبلمح الطرف بينهما اشتدّ العراك
ذا يقول: البيت بيتي! فيعيد القول ذاك
وأنا اشهد ما يجري ولا ابدي حراك
سائلاً ربي: ( أفي الأكوان ربٍّ سواك
جبلت قلبي من البدء يداه ويداك ؟)
إلى الآن أراني في شكوك ٍ وارتباك
لست ُ أدري أرجيم ٌ في فؤادي أم ملاك
« previous 1