مقال مجهول للكاتب المكسيكي خوان رولفو كل كاتب مبدع كذاب.. الأدب كذبة
ترجمة: أحمد عثمان
للأسف، لم يتسن لي أن أجد شخصاً يمكنه أن يقص علي حكايات . في قريتنا، الناس منغلقون على أنفسهم، نعم، حتى إنني كنت شخصاً غريباً . إنهم موجودون، لكي يتبادلوا فيما بينهم الأحاديث . إنهم جالسون في مقاعدهم الخشبية والجلدية بعد الظهيرة، يتناقشون أشياء من هذا القبيل . ولكن حينما يقترب أحد منهم، يصمتون أو بالأحرى يتكلمون عن المناخ: "اليوم، يقال إنها سوف تمطر، أو أن السحب تقبل . ."، أخيراً، لم تواتني الفرصة، لكي أنصت إلى الكبار وهم يسردون الحكايات: لهذا أجبرت على ابتكارها، وبدقة، أعتقد أن أحد مبادئ الإبداع يتمثل في الابتكار، التخيل . نحن كذابون: كل كاتب مبدع كذاب، الأدب كذبة، ولكن إعادة إبداع الواقع ينجم عن هذه الكذبة: إعادة إبداع، وبالتالي الواقعة إحدى المبادئ الأساسية للإبداع . أرى إلى أن هناك ثلاث خطوات:
الأولى تتأسس على خلق الشخصية، الثانية على خلق المناخ الذي تتحرك هذه الشخصية في جنباته، والثالثة ترتكن على طريقة كلام هذه الشخصية، الطريقة التي تعبر بها عن نفسها . هذه المرتكزات الثلاثة هي كل ما نحتاج اليه لسرد الحكاية، وهذا يعني، أخشى الورقة البيضاء وبالأخص القلم، لأنني أكتب بيدي، ولكن أريد تبييناً، بصورة شخصية نوعاً ما، أساليبي . حينما أبدأ في الكتابة، لا أعتقد في الإلهام . مسألة الكتابة مسألة عمل، والبدء في الكتابة ببهجة ضئيلة وتسويد صفحات وصفحات، إلى أن تنبجس فجأة كلمة تمنحني مفتاح ما يجب أن أقوم بعمله، وما سوف يصبح الحال عليه . في بعض الأحيان، يتأتى أن أكتب خمس، ست أو عشر صفحات، ولا تظهر الشخصية التي أتمنى ظهورها، هذه الشخصية الحية التي يجب أن تتحرك بنفسها . فجأة تظهر، تنبجس وأتبع أثرها، أتبع خطوها . وبما أنها أصبحت حية، أستطيع أن أرى بالتالي إلى أين تتجه:
في أثرها، تقودكم، عبر طرق لا تعرفونها، ولكن، بما أنها حية، تقودكم إلى واقعة، أو إلى اللا واقعة، اذا أردنا القول: في الوقت نفسه، أتوصل إلى إبداع ما يمكن قوله، أي ما هو حقيقي، أو من الممكن أن يكون حقيقياً أو يمكنه امتلاك الحقيقة، غير أنه لا يمتلكها أبداً . وهكذا، أعتقد، في إطار هذا السؤال عن الإبداع، أنه من الضروري عرض ما أعرفه، ما هي الأكاذيب التي سوف أحكيها: فهم ما سوف أدرجه في مجال الحقيقة، في واقعة الأشياء التي نعرفها، ما رأيته أو سمعته بنفسي، ولذا أسعى إلى "حكي" الحكاية، أو كتابة تقرير صحفي .
الرواية، كما يقال، جنس أدبي يلاقي جميع الأجناس الأدبية، حقيبة تحتوي على كل شيء، تحتوي على القصص، المسرح أو الحركة، الأبحاث الفلسفية أو غير الفلسفية، سلسلة من الموضوعات التي سنملأ بها هذه الحقيبة، بالمقابل، في حالة القصة، يجب التكثيف، التلخيص، بكلمات قليلة، قول أو حكي حكاية . من الصعب التوصل، بواسطة ثلاث أو أربع أو عشر صفحات، إلى حكي حكاية يحكيها الآخرون في مئتي صفحة: هي ذي الفكرة التي أؤمن بها بما يخص الإبداع، مبدأ الإبداع، مبدأ الإبداع الأدبي . من الواضح أن عرضي ليس بالعرض البراق، إذ أتكلم إليكم بطريقة بسيطة للغاية، لأنني - في الحقيقة - بسيط للغاية، لأنني في الواقع أخشى المثقفين للغاية، وحينما ألمح مثقفاً، أتجنبه، وأعتبر أن الكاتب يجب أن يكون أقل ثقافة من جميع المفكرين، لأن أفكاره وتأملاته أشياء شخصية للغاية، إلى حد لا يمكن أن نرى إلى ضرورة تأثيراتها على الآخرين:
لا يجب العمل على التأثير في الغير بدفعه إلى عمل ما يفعله الآخرون، حينما نصل إلى هذه النتيجة، إلى هذا المكان، أو ندرك النهاية، نشعر بكوننا نجحنا في تحقيق شيء ما .
بالنسبة لي، أنتقد مواطني حكي الأكاذيب، اصطناع الحكايات، إلى حد أن كل ما حكيته أو كتبته، كما يقولون، غير حقيقي، وهذا صواب . يتمثل الجوهري، في نظري، في الخيال: داخل هذه المرتكزات الثلاثة التي تكلمت عنها، يتحرك الخيال:
الخيال لا نهائي، لا حدود له، ومن اللازم تحطيم المكان الذي تنغلق الدائرة عنده: هناك منفذ، ومن الممكن الحصول على منفذ للنجاة، ومن هذا المنفذ، يهرب المرء . يذهب . هناك شيء ما يتبدى نطلق عليه الحدس: يدفعكم الحدس إلى التفكير في شيء ما غير حقيقي، ولكن سوف يكون حقيقياً بالكتابة . واقعياً، نعمل مع: الخيال، الحدس وظهور الحقيقة . حينما نصل إليها، ننجح في معرفة الحكاية:
العمل منعزل، العمل الجماعي في الأدب غير معقول، وهذه العزلة تحوّلكم إلى "وسيط" بين الأشياء التي لا تعرفونها، ولكن - من دون معرفة ما تتعلق به - اللا وعي فقط، أو الحدس، يدفعكم إلى الإبداع، والإبداع أيضاً . أعتقد، أساساً، أن ما سبق قاعدة أية حكاية، كل الحكايات التي نسعى إلى حكيها . والآن، هناك عنصر إضافي، شيء ما مهم للغاية، ويتمثل في رغبة حكي شيء ما ذي موضوعات معينة، نعرف جيداً أن هناك ثلاثة موضوعات رئيسية: الحب، الحياة والموت . وليس هناك غيرها، ليس هناك موضوعات أخرى، ولهذا لكي تتحصل على سياقها الطبيعي، من الضروري معرفة طريقة معالجتها، الشكل الذي سوف نمنحه لها:
تحاشي تكرار ما قاله الآخرون . وهكذا، المعالجة التي نخضعها لقصة تقودنا إلى قول الأشياء بصورة مغايرة، حتى وإن كان هذا الموضوع عولج مرات كثيرة: نحكي ما حكي منذ "فرجيل" وغيره، لا أعرف مَنْ تحديداً، ربما الصينيون أو غيرهم . ولكن من الضروري البحث عن الأساس، طريقة معالجة الموضوع، وأعتقد أن الإبداع الأدبي، الشكل - يسمى الشكل الأدبي - يحدد، يمنح الحكاية الأهمية وقيمة اهتمام الآخرين . حينما ينشر كتاب أو قصة، توفي هذا الكتاب:
الكاتب لا يفكر فيه . من قبل، بالمقابل، إذا لم يكن اكتمل كلياً، يدور من دون توقف في الدماغ، والموضوع يستمر في ملازمتكم حتى تأتي اللحظة التي يفهم منها أنه غير مكتمل، وأن شيئاً ما يبقى داخله:
من اللازم البدء في الحكاية، من اللازم البدء في إيجاد الصدع، تعيين الشخصية التي لم تتحرك من تلقاء نفسها . في هذه الحالة، أعمل على ابعادي عن الحكاية، لا أحكي أبداً حكاية تحتوي على تجارب شخصية أو على عناصر أوتوبيوغرافية، أو رأيتها أو سمعتها، يجب أن أتخيلها دوماً أو أعيد إبداعها، أو أجد فيها مركزاً بسيطاً . هي ذي الخافية، إبداعك الأدبي غامض، ولكن الخافية تنتج من الحدس . والحدس نفسه غامض، ونصل إلى نتيجة مفادها أنه إذا كانت الشخصية لا تتحرك، وأن على الكاتب مساعدتها على الحياة، بالتالي وعلى الفور، يتجلى الإخفاق . أنا بصدد الكلام عن أشياء أساسية، ولذا أعذروني، ولكن تلك هي تجربتي . لم أحك أبداً شيئاً حقيقياً، أرتكن على الحدس وفي أحضانه ينبجس ما لا يتأتى من الكاتب . تكمن المشكلة، كما أقول، في إيجاد الموضوع، الشخصية، وما سوف تقوم هذه الشخصية بعمله، والطريقة التي سوف يكون حياً بها . في اللحظة التي يمارس الكاتب العنف فيها مع الشخصية، يجد نفسه في طريق مسدود . أحد الأشياء الصعبة التحقيق، وهذا واضح للغاية، تتمثل في تجنيب الكاتب، نفسه . أترك هذه الشخصيات تعمل بنفسها ومن دون تدخلي، لأنني أنغرز في الهذيان المرتبط بالمحاولة، في العناء . أصل إلى إدراج أفكارها، أتناولها كفلسفة، وأخيراً، أسعى إلى أن يعتقد الآخرون في الإيديولوجيا، التي هي ايديولوجيتكم، في طريقتكم الشخصية لإدراك الحياة أو العالم، الذوات الإنسانية، المبدأ المحرك للأفعال الإنسانية . حينما يتحقق ذلك، أصبح باحثاً . نعرف الكثير من الروايات - الأبحاث، كثير من الأعمال الأدبية "روايات - أبحاث"، ولكن على وجه العموم، الجنس الأدبي الذي يهمني نوعاً ما هو القصة . بالنسبة لي، القصة - في الواقع - أهم بكثير من الرواية، لأنه من اللازم التركيز في صفحات قليلة لقول كثير من الأشياء، من اللازم التلخيص، من اللازم أن أتمالك نفسي، ولهذا السبب القاص يشبه الشاعر، الشاعر الجيد . يجب أن يمسك الشاعر طوال الوقت اللجام، ويتحاشى صر الأشياء، إذا صر وكتب لأجل الكتابة، تخرج الكلمات من فمه واحدة اثر الأخرى، وهكذا يفشل . الجوهري، بوضوح، أن يتمالك نفسه، يتحاشى "الصر"، ولا يفرغ كل ما بداخله . تمتلك القصة هذه المزية، وأنا تحديداً، أفضل القصة، قبل كل شيء، لأن الرواية تنسجم بقوة مع هذا الهذيان
كما تعرفون جميعاً، ليس هناك كاتب يكتب كل ما يفكر فيه، من الصعب نقل الفكر إلى الكتابة، أعتقد أن هذا الشخص لا يفعلها، وأن لا أحد فعلها، وانما بعض الأشياء تضيع حينما ننميها . أمر مؤلم ولكن هذا ما يجري . لا يمكن عرض الفكر كله في حكاية، كثير من الأشياء تبقى حتى تقال، وأبداً لا نصل إلى تنميتها . هذا، في نظري، دائرة الإبداع، كما مارستها إلى حد ما . والآن، من اللازم القول إن دور القارئ أتى، وليس الكاتب الذي يقدم الخلاصة، الكاتب لا يعرف مدى نجاحه في مسعاه، يعرف أن ما قيل لم يقل بصورة طيبة، أنه لم يقل ما كان يريده، أنه تجاهل كثيراً من الأشياء، ولكن على الأقل هناك شيء ما يبقى، وعلى القارئ الحكم عليها
هذا النص ألقاه خوان رولفو (1917- 1986) في الجامعة الوطنية المستقلة بمكسيكو في عام 1980 ونشر بتلقائيته، ومن دون تدخل إدارة التحرير
كل كاتب مبدع كذاب.. الأدب كذبة
ترجمة: أحمد عثمان
للأسف، لم يتسن لي أن أجد شخصاً يمكنه أن يقص علي حكايات . في قريتنا، الناس منغلقون على أنفسهم، نعم، حتى إنني كنت شخصاً غريباً . إنهم موجودون، لكي يتبادلوا فيما بينهم الأحاديث . إنهم جالسون في مقاعدهم الخشبية والجلدية بعد الظهيرة، يتناقشون أشياء من هذا القبيل . ولكن حينما يقترب أحد منهم، يصمتون أو بالأحرى يتكلمون عن المناخ: "اليوم، يقال إنها سوف تمطر، أو أن السحب تقبل . ."، أخيراً، لم تواتني الفرصة، لكي أنصت إلى الكبار وهم يسردون الحكايات:
لهذا أجبرت على ابتكارها، وبدقة، أعتقد أن أحد مبادئ الإبداع يتمثل في الابتكار، التخيل . نحن كذابون:
كل كاتب مبدع كذاب، الأدب كذبة، ولكن إعادة إبداع الواقع ينجم عن هذه الكذبة:
إعادة إبداع، وبالتالي الواقعة إحدى المبادئ الأساسية للإبداع .
أرى إلى أن هناك ثلاث خطوات:
الأولى تتأسس على خلق الشخصية، الثانية على خلق المناخ الذي تتحرك هذه الشخصية في جنباته، والثالثة ترتكن على طريقة كلام هذه الشخصية، الطريقة التي تعبر بها عن نفسها . هذه المرتكزات الثلاثة هي كل ما نحتاج اليه لسرد الحكاية، وهذا يعني، أخشى الورقة البيضاء وبالأخص القلم، لأنني أكتب بيدي، ولكن أريد تبييناً، بصورة شخصية نوعاً ما، أساليبي . حينما أبدأ في الكتابة، لا أعتقد في الإلهام . مسألة الكتابة مسألة عمل، والبدء في الكتابة ببهجة ضئيلة وتسويد صفحات وصفحات، إلى أن تنبجس فجأة كلمة تمنحني مفتاح ما يجب أن أقوم بعمله، وما سوف يصبح الحال عليه . في بعض الأحيان، يتأتى أن أكتب خمس، ست أو عشر صفحات، ولا تظهر الشخصية التي أتمنى ظهورها، هذه الشخصية الحية التي يجب أن تتحرك بنفسها . فجأة تظهر، تنبجس وأتبع أثرها، أتبع خطوها . وبما أنها أصبحت حية، أستطيع أن أرى بالتالي إلى أين تتجه:
في أثرها، تقودكم، عبر طرق لا تعرفونها، ولكن، بما أنها حية، تقودكم إلى واقعة، أو إلى اللا واقعة، اذا أردنا القول:
في الوقت نفسه، أتوصل إلى إبداع ما يمكن قوله، أي ما هو حقيقي، أو من الممكن أن يكون حقيقياً أو يمكنه امتلاك الحقيقة، غير أنه لا يمتلكها أبداً . وهكذا، أعتقد، في إطار هذا السؤال عن الإبداع، أنه من الضروري عرض ما أعرفه، ما هي الأكاذيب التي سوف أحكيها:
فهم ما سوف أدرجه في مجال الحقيقة، في واقعة الأشياء التي نعرفها، ما رأيته أو سمعته بنفسي، ولذا أسعى إلى "حكي" الحكاية، أو كتابة تقرير صحفي .
الرواية، كما يقال، جنس أدبي يلاقي جميع الأجناس الأدبية، حقيبة تحتوي على كل شيء، تحتوي على القصص، المسرح أو الحركة، الأبحاث الفلسفية أو غير الفلسفية، سلسلة من الموضوعات التي سنملأ بها هذه الحقيبة، بالمقابل، في حالة القصة، يجب التكثيف، التلخيص، بكلمات قليلة، قول أو حكي حكاية . من الصعب التوصل، بواسطة ثلاث أو أربع أو عشر صفحات، إلى حكي حكاية يحكيها الآخرون في مئتي صفحة:
هي ذي الفكرة التي أؤمن بها بما يخص الإبداع، مبدأ الإبداع، مبدأ الإبداع الأدبي . من الواضح أن عرضي ليس بالعرض البراق، إذ أتكلم إليكم بطريقة بسيطة للغاية، لأنني - في الحقيقة - بسيط للغاية، لأنني في الواقع أخشى المثقفين للغاية، وحينما ألمح مثقفاً، أتجنبه، وأعتبر أن الكاتب يجب أن يكون أقل ثقافة من جميع المفكرين، لأن أفكاره وتأملاته أشياء شخصية للغاية، إلى حد لا يمكن أن نرى إلى ضرورة تأثيراتها على الآخرين:
لا يجب العمل على التأثير في الغير بدفعه إلى عمل ما يفعله الآخرون، حينما نصل إلى هذه النتيجة، إلى هذا المكان، أو ندرك النهاية، نشعر بكوننا نجحنا في تحقيق شيء ما .
بالنسبة لي، أنتقد مواطني حكي الأكاذيب، اصطناع الحكايات، إلى حد أن كل ما حكيته أو كتبته، كما يقولون، غير حقيقي، وهذا صواب . يتمثل الجوهري، في نظري، في الخيال:
داخل هذه المرتكزات الثلاثة التي تكلمت عنها، يتحرك الخيال:
الخيال لا نهائي، لا حدود له، ومن اللازم تحطيم المكان الذي تنغلق الدائرة عنده:
هناك منفذ، ومن الممكن الحصول على منفذ للنجاة، ومن هذا المنفذ، يهرب المرء . يذهب . هناك شيء ما يتبدى نطلق عليه الحدس:
يدفعكم الحدس إلى التفكير في شيء ما غير حقيقي، ولكن سوف يكون حقيقياً بالكتابة . واقعياً، نعمل مع:
الخيال، الحدس وظهور الحقيقة . حينما نصل إليها، ننجح في معرفة الحكاية:
العمل منعزل، العمل الجماعي في الأدب غير معقول، وهذه العزلة تحوّلكم إلى "وسيط" بين الأشياء التي لا تعرفونها، ولكن - من دون معرفة ما تتعلق به - اللا وعي فقط، أو الحدس، يدفعكم إلى الإبداع، والإبداع أيضاً .
أعتقد، أساساً، أن ما سبق قاعدة أية حكاية، كل الحكايات التي نسعى إلى حكيها . والآن، هناك عنصر إضافي، شيء ما مهم للغاية، ويتمثل في رغبة حكي شيء ما ذي موضوعات معينة، نعرف جيداً أن هناك ثلاثة موضوعات رئيسية:
الحب، الحياة والموت . وليس هناك غيرها، ليس هناك موضوعات أخرى، ولهذا لكي تتحصل على سياقها الطبيعي، من الضروري معرفة طريقة معالجتها، الشكل الذي سوف نمنحه لها:
تحاشي تكرار ما قاله الآخرون . وهكذا، المعالجة التي نخضعها لقصة تقودنا إلى قول الأشياء بصورة مغايرة، حتى وإن كان هذا الموضوع عولج مرات كثيرة:
نحكي ما حكي منذ "فرجيل" وغيره، لا أعرف مَنْ تحديداً، ربما الصينيون أو غيرهم . ولكن من الضروري البحث عن الأساس، طريقة معالجة الموضوع، وأعتقد أن الإبداع الأدبي، الشكل - يسمى الشكل الأدبي - يحدد، يمنح الحكاية الأهمية وقيمة اهتمام الآخرين . حينما ينشر كتاب أو قصة، توفي هذا الكتاب:
الكاتب لا يفكر فيه . من قبل، بالمقابل، إذا لم يكن اكتمل كلياً، يدور من دون توقف في الدماغ، والموضوع يستمر في ملازمتكم حتى تأتي اللحظة التي يفهم منها أنه غير مكتمل، وأن شيئاً ما يبقى داخله:
من اللازم البدء في الحكاية، من اللازم البدء في إيجاد الصدع، تعيين الشخصية التي لم تتحرك من تلقاء نفسها . في هذه الحالة، أعمل على ابعادي عن الحكاية، لا أحكي أبداً حكاية تحتوي على تجارب شخصية أو على عناصر أوتوبيوغرافية، أو رأيتها أو سمعتها، يجب أن أتخيلها دوماً أو أعيد إبداعها، أو أجد فيها مركزاً بسيطاً . هي ذي الخافية، إبداعك الأدبي غامض، ولكن الخافية تنتج من الحدس . والحدس نفسه غامض، ونصل إلى نتيجة مفادها أنه إذا كانت الشخصية لا تتحرك، وأن على الكاتب مساعدتها على الحياة، بالتالي وعلى الفور، يتجلى الإخفاق . أنا بصدد الكلام عن أشياء أساسية، ولذا أعذروني، ولكن تلك هي تجربتي . لم أحك أبداً شيئاً حقيقياً، أرتكن على الحدس وفي أحضانه ينبجس ما لا يتأتى من الكاتب . تكمن المشكلة، كما أقول، في إيجاد الموضوع، الشخصية، وما سوف تقوم هذه الشخصية بعمله، والطريقة التي سوف يكون حياً بها . في اللحظة التي يمارس الكاتب العنف فيها مع الشخصية، يجد نفسه في طريق مسدود . أحد الأشياء الصعبة التحقيق، وهذا واضح للغاية، تتمثل في تجنيب الكاتب، نفسه . أترك هذه الشخصيات تعمل بنفسها ومن دون تدخلي، لأنني أنغرز في الهذيان المرتبط بالمحاولة، في العناء . أصل إلى إدراج أفكارها، أتناولها كفلسفة، وأخيراً، أسعى إلى أن يعتقد الآخرون في الإيديولوجيا، التي هي ايديولوجيتكم، في طريقتكم الشخصية لإدراك الحياة أو العالم، الذوات الإنسانية، المبدأ المحرك للأفعال الإنسانية . حينما يتحقق ذلك، أصبح باحثاً . نعرف الكثير من الروايات - الأبحاث، كثير من الأعمال الأدبية "روايات - أبحاث"، ولكن على وجه العموم، الجنس الأدبي الذي يهمني نوعاً ما هو القصة . بالنسبة لي، القصة - في الواقع - أهم بكثير من الرواية، لأنه من اللازم التركيز في صفحات قليلة لقول كثير من الأشياء، من اللازم التلخيص، من اللازم أن أتمالك نفسي، ولهذا السبب القاص يشبه الشاعر، الشاعر الجيد . يجب أن يمسك الشاعر طوال الوقت اللجام، ويتحاشى صر الأشياء، إذا صر وكتب لأجل الكتابة، تخرج الكلمات من فمه واحدة اثر الأخرى، وهكذا يفشل . الجوهري، بوضوح، أن يتمالك نفسه، يتحاشى "الصر"، ولا يفرغ كل ما بداخله . تمتلك القصة هذه المزية، وأنا تحديداً، أفضل القصة، قبل كل شيء، لأن الرواية تنسجم بقوة مع هذا الهذيان
كما تعرفون جميعاً، ليس هناك كاتب يكتب كل ما يفكر فيه، من الصعب نقل الفكر إلى الكتابة، أعتقد أن هذا الشخص لا يفعلها، وأن لا أحد فعلها، وانما بعض الأشياء تضيع حينما ننميها . أمر مؤلم ولكن هذا ما يجري . لا يمكن عرض الفكر كله في حكاية، كثير من الأشياء تبقى حتى تقال، وأبداً لا نصل إلى تنميتها . هذا، في نظري، دائرة الإبداع، كما مارستها إلى حد ما . والآن، من اللازم القول إن دور القارئ أتى، وليس الكاتب الذي يقدم الخلاصة، الكاتب لا يعرف مدى نجاحه في مسعاه، يعرف أن ما قيل لم يقل بصورة طيبة، أنه لم يقل ما كان يريده، أنه تجاهل كثيراً من الأشياء، ولكن على الأقل هناك شيء ما يبقى، وعلى القارئ الحكم عليها
هذا النص ألقاه خوان رولفو (1917- 1986) في الجامعة الوطنية المستقلة بمكسيكو في عام 1980 ونشر بتلقائيته، ومن دون تدخل إدارة التحرير
نشر في صحيفة الخليج الإماراتية يوم 16 يونيو 2014 م، 18 شعبان 1435 هـ، العدد 12811، الملحق الثقافي
http://www.alkhaleej.ae/supplements/p...