مهازل الحياة أكثر من أن تحصى. ومن أطرفها مهزلة الأسماء التي يحملها الكثير من الناس فتبدو كما لو كانت تحقيراً لهم وتشهيراً. كم من جميلة لو وقعت عليها عينك لتعوذت من بشاعتها بإبليس؟ أو وردة لو اقتربت منها لظننتك في جوار مزبلة؟ أو عفاف ضجت بفحشها المواخير؟ كم من أسد لو رأى أرنباً في النهار لفر لا يلوي على شيء؟ أو كريم قد تنتزع عظمة من فم كلب قبل أن تنتزع فلساً من يده؟ أو أمين ليس في الناس من يأتمنه على قشرة بصلة؟ إن الأمثلة على ذلك لأكثر من أن تعد.
أما صاحبنا صادق الذي جئت أحدثك عنه فحاله مع اسمه تختلف عما ذكرت كل الاختلاف. فقد لبسه اسمه كما لبسه جلده – سواء بسواء. حتى إنك لو عرفته، وشئت أن تختار له اسماً، لما اخترت إلا صادق. والغريب أن هذه المطابقة بين الاسم والمسمى قد سببت لصاحب الاسم مشاكل هي أبعد ما تكون عن المهازل.
لن يضر صادق إذا أنا منعته من الصرف من بعد أن منعته الحياة مما هو أثمن بكثير من التنوين. فقد كان بكر والديه ووحيدهما. والثلاثة يملكون من حطام الدنيا ومن رقعة الكرة الأرضية الشاسعة غير الفسحة الضيقة التي يقوم عليها بيتهم الحقير، الصغير. وكأن الأقدار، من بعد ما قسمت لصادق تلك القسمة، استكثرت نصيبه وخشيت عليه من الغرور والبطر. فما لبثت أن أرسلت صاعقة ذهبت بوالديه وبالبيت دفعة واحدة، وتركته ولا معين له غير القليل الذي اختزنه من خبرة دنيوية وقوة بدنية في خلال السنوات العشر التي عاشها على الأرض.
وأشفق على صادق أحد جيرانه في القرية – وكان فلاحاً ميسوراً – فاكتراه ليرعى بقراته. وسر الفلاح منتهى السرور بالولد عندما رآه يعتني ببقراته خيراً منه. ومم زاد في سروره أن صادق كان قليل الكلام، قليل الأكل، لا يطيق البطالة، ولا يعرف الخبث، ولا يعصي أمراً، ولا يتفوه بشكوى، أو بشتيمة، أو بكلمة بذيئة. فقر رأيه على أن يقيم للولد أجراً شهرياً، ولو ضئيلاً، بالإضافة إلى مؤونته وكسوته.
وذات صباح أبصر الفلاح رجلاً قادماً من بعيد. فعرفه وعرف أنه آت ليستدين منه بعض المال. فدخل البيت وأوصد الباب من الداخل من بعد أن قال لصادق: “عندما يأتي فلان قل له إني لست في البيت”. وجاء الرجل وسأل صادق عن معلمه فأجابه بمنتهى البساطة: “لقد دخل البيت، وأوصد الباب، وأوصاني أن أقول لك إنه ليس في البيت”. فاستشاط الرجل غيظاً وراح يقرع بعنف أكره الفلاح على الخروج من مخبأه. وكان عتاب انتهى بأن نال الزائر القرض الذي جاء يطلبه. فما إن انصرف وتوارى عن السمع والبصر حتى انهال الفلاح بالضرب على صادق، آناً بكفيه، وآونة بعصا مسننة، غليظة. وما برح به حتى ارتمى على الأرض فاقد الوعي، مهشم البدن.
بعد شهور جاء الفلاح رجل غريب قال له إنه يرغب في شراء بقرة مكتملة الصفات: لبنها غزير، وشكلها جميل، وأخلاقها رضية. فأمر الفلاح صادق أن يقود “الغندورة” إلى الزائر الكريم. وكانت على وشك أن تضع مولودها الثاني. ودرها الكبير يكاد ينفجر لكثرة ما تجمع فيه من لبن. وبعد أخذ ورد، وأقسام غليظة من الجانبين، اقتنع الغريب أن “الغندورة” هي البقرة التي يبحث عنها. وأخرج المال من جيبه ليدفع الثمن المتفق عليه. وخطر له، من باب الدعابة، أن يسأل صادق رأيه في البقرة. فقال: أنت تحب الغندورة من غير شك. وستحزن على فراقها. إنها بقرة ممتازة من جميع الوجوه. أليس كذلك؟ فما كان من صادق إلا أن جرض بريقه وأجاب: لولا أنها تلبط عند الحلب.
فكان أن بقيت البقرة عند صاحبها، ولم يبقَ صادق. ولن يطاوعني قلمي لأصف لك كل ما تعرض له ذلك الولد المسكين من صفع ولطم وشتيمة ودوس بالأقدام حتى لكادت روحه تزهق من بين جنبيه.
من بعدها عاش صادق فترة من الزمن كأنه قابيل المطرود من وجه ربه. فما إن يحظى بعمل عند أحد من الناس حتى تبدو منه بادرة تسبب له الطرد من عمله. وهكذا اتفق له مرة أن يعمل في خدمة أرملة ثرية. فأحبته الأرملة وائتمنته على أشياء كثيرة. وذات يوم استدعته وقالت له: اذهب يا صادق لعند السيدة فلانة زوجة الوزير فلان وقل لها إنني أشكو صداعاً أليماً وآسف أن لا أستطيع تلبية دعوتها للسهرة الليلة. إنها امرأة ثقيلة الدم، مزهوة بمركزها ومالها. وأنا لا أطيق مجالسها ومجالس الذين تدعوهم إلى بيتها.
فذهب صادق إلى السيدة وأبلغها الرسالة بحذافيرها، بما فيه قول الأرملة عنها إنها ثقيلة الدم ومزهوة بمركزها ومالها. وعاد إلى البيت ليبلغ الآرملة أنه أدى رسالتها بمنتهى الأمانة. وإذا بها، وسماعة التلفون على أذنها، والهياج باد في صوتها وفي وجهها، تقسم اليمين تلو اليمين أنها لم تقل شيئاً من ذلك لخادمها، وأنه ولد أبله، كذوب، يختلق الأخبار اختلاقاً. وهي مستعدة أن تصرفه من خدمتها حالما يعود، وأن تذهب إلى السهرة برغم الصداع الأليم الذي تعانيه. فسهرات عقيلة الوزير من المتع النادرة التي يجب أن لا تفوت من يسعدهم الحظ بالاشتراك فيها. أما النتيجة لصادق فكانت أنه اضطر أن ينام ليلته في العراء.
في تلك الليلة خاطب صادق نفسه فقال: لم يبق أمامك يا صادق إلا الانتحار. ها أنت في العشرين من عمرك، وحتى اليوم لم تستقر في عمل واحد من الأعمال الكثيرة التي باشرتها منذ نعومة أظفارك. في حين يستقر غيرك في أعمالهم طوال أعمارهم. ما أنت بالأبله ولا أنت تختلق الأخبار اختلاقاً كما قالت الأرملة. ولست بالكسول، أو السراق، أو الأفاك، أو الثرثار، أو الرجل الشرس الأخلاق. فلماذا يجافيك الناس، ويجافيك الحظ، فتسعى إلى رزقك، ورزقك يهرب منك؟ لو كان لك حق في الحياة كباقي الناس لآن لك أن تعرفه وتهتدي إليه. ولكنك بغير حق. إنك متطفل. إنك صفر في حساب الناس. ومن كان في مثل ما أنت فيه يا صادق كان الانتحار سبيله الأوحد إلى الخلاص.
وقر رأي الفتى على الانتحار – لكن في الصباح لا في الليل. وبغتة عنّ له خاطر أبصر فيه بصيصاً من النور. فقد لاح له أنه لو تعلم قيادة السيارات لوجد في ذلك مهنة ثابتة تكفل له رزقه وتضفي على حياته لوناً ثابتاً.
وكان لصادق ما أراد. وأصبح سائقاً ماهراً، يدير السيارة بحذاقة ولباقة كما يدير رجله في المشي وعينه في النظر،وذات يوم قرأ في بعض الصحف أن محامياً يفتش عن سائق لسيارته. فذهب إليه في الحال وعرض عليه خدماته. فقال له المحامي وكان رجلاً وقوراً: اسمع يا بني. لقد بدلت حتى اليوم عشرة سواقين. أوتدري لماذا؟ لأنني أريد من سائق سيارتي أولاً: أن يحسن مهنته. ثانياً: أن يملك أعصابه فلا يسوق برعونة. ثالثاً: أن يملك لسانه فلا ينقل ولا كلمة من أي حديث يدور بيني وبين أفراد عائلتي وضيوفي، في البيت أو خارجه، وفي السيارة أو خارجها. رابعاً: أن يكون أميناً فلا يأخذ ما لا حق له فيه من مالي أو مال سواي. خامساً: أن لا يتذوق التبغ أو المسكر ولا يقترب من موائد القمار. سادساً: أن يكون بعيداً عن الفحشاء. سابعاً وأخيراً: أن لا يكذب ولو هددوه بقطع لسانه. فأكره ما أكرهه الكذب. حتى في أتفه الأمور. فإن كانت لك هذه المؤهلات فأهلاً وسهلاً بك. وسأعاملك كما لو كنت واحداً من أفراد عائلتي. وإلا فأبق بعيداً عني.
فأشرقت أسارير صادق وقال بلسان متلعثم من شدة الفرح: جربني يا سيدي. وما أظنك تكون إلا راضياً.
انقضى عام وبعض العام وصادق يكاد لا يصدق أنه اهتدى في النهاية إلى حقه في الحياة. وإذ عادت به الذاكرة إلى تلك الليلة التي قر رأيه فيها على الانتحار ضحك في قلبه من حماقته وشكر ربه وقال: لقد كنت لجوجاً. واللجاجة ضرب من العمى والكفر بالله. أما أني تعلمت قيادة السيارات، وحظيت بهذا المحامي النبيل، فقد كان ذلك وحياً من السماء.
وكان يوم بديع من أيام الربيع. فشاء المحامي وعائلته أن يخرجوا في نزهة بالسيارة إلى المكان الذي يختاره لهم صادق. فاختار صادق نبعة ثرة في واد يبعد عن المدينة زهاء عشرين ميلاً. ظلاله ناعمات، ونسماته بليلات، وأرضه مكسوة بالخضرة الموشاة بألوان شتى الأزهار. وابتهج الجميع بتلك القطعة الساحرة التي اختارها لهم صادق. وكانوا قد جلبوا معهم زاداً كثيراً لنهارهم. فما دروا من فرط سرورهم، كيف نفذ منهم الزاد وتقلص النهار. فودعوا الوادي وبودهم لو يستطيعون نقله معهم إلى المدينة.
وشاء المحامي في طريق العودة أن يقود السيارة بيده. فتخلى له صادق عن المقود. وفيما هم يقطعون بستاناً في ضواحي المدينة قفز بغتة إلى الطريق ولد كان يطارد عصفوراً. فما استطاع السائق أن يحيد عنه، ورهسه. فصاح صادق مذعوراً: لقد رهست الولد يا سيدي. توقف لنحمله إلى المشفى. إلا أن المحامي انطلق بسرعة جنونية. وعندما بلغ البيت أوصى بأن لا يفوه أحد منهم بكلمة عما كان.
واتفق عند وقوع الحادث أن أبصر البستاني رقم السيارة الجانية، فدونه ونقله إلى الشرطة. وفي الصباح صدرت الصحف وفيها أن سائق المحامي فلان قد أخذ السيارة من غير علم صاحبها وخرج في نزهة مع عشيقته. وكان يسوق بسرعة فائقة. فرهس ولداً كان يسير وحده في الطريق ولم يتوقف بل تابع سيره بسرعة خاطفة. ويقال إنه كان في حالة سكر.
وبعد ثلاثة شهور نقلت الصحف الخبر التالي: وجد السجين صادق الضايع، سائق السيارة التي رهست ولداً منذ ثلاثة شهور، مشنوقاً في زنزانته. وكان قد حكم عليه بالسجن عشر سنوات. وقد أثبت التحقيق أن الوفاة حدثت انتحاراً. وعثروا في جيب المنتحر على ورقة جاءت فيها هذه العبارة، وقد كتبت بخط يكاد لا يقرأ: تباً لدنيا لا مجال فيها لصادق.
أما صاحبنا صادق الذي جئت أحدثك عنه فحاله مع اسمه تختلف عما ذكرت كل الاختلاف. فقد لبسه اسمه كما لبسه جلده – سواء بسواء. حتى إنك لو عرفته، وشئت أن تختار له اسماً، لما اخترت إلا صادق. والغريب أن هذه المطابقة بين الاسم والمسمى قد سببت لصاحب الاسم مشاكل هي أبعد ما تكون عن المهازل.
لن يضر صادق إذا أنا منعته من الصرف من بعد أن منعته الحياة مما هو أثمن بكثير من التنوين. فقد كان بكر والديه ووحيدهما. والثلاثة يملكون من حطام الدنيا ومن رقعة الكرة الأرضية الشاسعة غير الفسحة الضيقة التي يقوم عليها بيتهم الحقير، الصغير. وكأن الأقدار، من بعد ما قسمت لصادق تلك القسمة، استكثرت نصيبه وخشيت عليه من الغرور والبطر. فما لبثت أن أرسلت صاعقة ذهبت بوالديه وبالبيت دفعة واحدة، وتركته ولا معين له غير القليل الذي اختزنه من خبرة دنيوية وقوة بدنية في خلال السنوات العشر التي عاشها على الأرض.
وأشفق على صادق أحد جيرانه في القرية – وكان فلاحاً ميسوراً – فاكتراه ليرعى بقراته. وسر الفلاح منتهى السرور بالولد عندما رآه يعتني ببقراته خيراً منه. ومم زاد في سروره أن صادق كان قليل الكلام، قليل الأكل، لا يطيق البطالة، ولا يعرف الخبث، ولا يعصي أمراً، ولا يتفوه بشكوى، أو بشتيمة، أو بكلمة بذيئة. فقر رأيه على أن يقيم للولد أجراً شهرياً، ولو ضئيلاً، بالإضافة إلى مؤونته وكسوته.
وذات صباح أبصر الفلاح رجلاً قادماً من بعيد. فعرفه وعرف أنه آت ليستدين منه بعض المال. فدخل البيت وأوصد الباب من الداخل من بعد أن قال لصادق: “عندما يأتي فلان قل له إني لست في البيت”. وجاء الرجل وسأل صادق عن معلمه فأجابه بمنتهى البساطة: “لقد دخل البيت، وأوصد الباب، وأوصاني أن أقول لك إنه ليس في البيت”. فاستشاط الرجل غيظاً وراح يقرع بعنف أكره الفلاح على الخروج من مخبأه. وكان عتاب انتهى بأن نال الزائر القرض الذي جاء يطلبه. فما إن انصرف وتوارى عن السمع والبصر حتى انهال الفلاح بالضرب على صادق، آناً بكفيه، وآونة بعصا مسننة، غليظة. وما برح به حتى ارتمى على الأرض فاقد الوعي، مهشم البدن.
بعد شهور جاء الفلاح رجل غريب قال له إنه يرغب في شراء بقرة مكتملة الصفات: لبنها غزير، وشكلها جميل، وأخلاقها رضية. فأمر الفلاح صادق أن يقود “الغندورة” إلى الزائر الكريم. وكانت على وشك أن تضع مولودها الثاني. ودرها الكبير يكاد ينفجر لكثرة ما تجمع فيه من لبن. وبعد أخذ ورد، وأقسام غليظة من الجانبين، اقتنع الغريب أن “الغندورة” هي البقرة التي يبحث عنها. وأخرج المال من جيبه ليدفع الثمن المتفق عليه. وخطر له، من باب الدعابة، أن يسأل صادق رأيه في البقرة. فقال: أنت تحب الغندورة من غير شك. وستحزن على فراقها. إنها بقرة ممتازة من جميع الوجوه. أليس كذلك؟ فما كان من صادق إلا أن جرض بريقه وأجاب: لولا أنها تلبط عند الحلب.
فكان أن بقيت البقرة عند صاحبها، ولم يبقَ صادق. ولن يطاوعني قلمي لأصف لك كل ما تعرض له ذلك الولد المسكين من صفع ولطم وشتيمة ودوس بالأقدام حتى لكادت روحه تزهق من بين جنبيه.
من بعدها عاش صادق فترة من الزمن كأنه قابيل المطرود من وجه ربه. فما إن يحظى بعمل عند أحد من الناس حتى تبدو منه بادرة تسبب له الطرد من عمله. وهكذا اتفق له مرة أن يعمل في خدمة أرملة ثرية. فأحبته الأرملة وائتمنته على أشياء كثيرة. وذات يوم استدعته وقالت له: اذهب يا صادق لعند السيدة فلانة زوجة الوزير فلان وقل لها إنني أشكو صداعاً أليماً وآسف أن لا أستطيع تلبية دعوتها للسهرة الليلة. إنها امرأة ثقيلة الدم، مزهوة بمركزها ومالها. وأنا لا أطيق مجالسها ومجالس الذين تدعوهم إلى بيتها.
فذهب صادق إلى السيدة وأبلغها الرسالة بحذافيرها، بما فيه قول الأرملة عنها إنها ثقيلة الدم ومزهوة بمركزها ومالها. وعاد إلى البيت ليبلغ الآرملة أنه أدى رسالتها بمنتهى الأمانة. وإذا بها، وسماعة التلفون على أذنها، والهياج باد في صوتها وفي وجهها، تقسم اليمين تلو اليمين أنها لم تقل شيئاً من ذلك لخادمها، وأنه ولد أبله، كذوب، يختلق الأخبار اختلاقاً. وهي مستعدة أن تصرفه من خدمتها حالما يعود، وأن تذهب إلى السهرة برغم الصداع الأليم الذي تعانيه. فسهرات عقيلة الوزير من المتع النادرة التي يجب أن لا تفوت من يسعدهم الحظ بالاشتراك فيها. أما النتيجة لصادق فكانت أنه اضطر أن ينام ليلته في العراء.
في تلك الليلة خاطب صادق نفسه فقال: لم يبق أمامك يا صادق إلا الانتحار. ها أنت في العشرين من عمرك، وحتى اليوم لم تستقر في عمل واحد من الأعمال الكثيرة التي باشرتها منذ نعومة أظفارك. في حين يستقر غيرك في أعمالهم طوال أعمارهم. ما أنت بالأبله ولا أنت تختلق الأخبار اختلاقاً كما قالت الأرملة. ولست بالكسول، أو السراق، أو الأفاك، أو الثرثار، أو الرجل الشرس الأخلاق. فلماذا يجافيك الناس، ويجافيك الحظ، فتسعى إلى رزقك، ورزقك يهرب منك؟ لو كان لك حق في الحياة كباقي الناس لآن لك أن تعرفه وتهتدي إليه. ولكنك بغير حق. إنك متطفل. إنك صفر في حساب الناس. ومن كان في مثل ما أنت فيه يا صادق كان الانتحار سبيله الأوحد إلى الخلاص.
وقر رأي الفتى على الانتحار – لكن في الصباح لا في الليل. وبغتة عنّ له خاطر أبصر فيه بصيصاً من النور. فقد لاح له أنه لو تعلم قيادة السيارات لوجد في ذلك مهنة ثابتة تكفل له رزقه وتضفي على حياته لوناً ثابتاً.
وكان لصادق ما أراد. وأصبح سائقاً ماهراً، يدير السيارة بحذاقة ولباقة كما يدير رجله في المشي وعينه في النظر،وذات يوم قرأ في بعض الصحف أن محامياً يفتش عن سائق لسيارته. فذهب إليه في الحال وعرض عليه خدماته. فقال له المحامي وكان رجلاً وقوراً: اسمع يا بني. لقد بدلت حتى اليوم عشرة سواقين. أوتدري لماذا؟ لأنني أريد من سائق سيارتي أولاً: أن يحسن مهنته. ثانياً: أن يملك أعصابه فلا يسوق برعونة. ثالثاً: أن يملك لسانه فلا ينقل ولا كلمة من أي حديث يدور بيني وبين أفراد عائلتي وضيوفي، في البيت أو خارجه، وفي السيارة أو خارجها. رابعاً: أن يكون أميناً فلا يأخذ ما لا حق له فيه من مالي أو مال سواي. خامساً: أن لا يتذوق التبغ أو المسكر ولا يقترب من موائد القمار. سادساً: أن يكون بعيداً عن الفحشاء. سابعاً وأخيراً: أن لا يكذب ولو هددوه بقطع لسانه. فأكره ما أكرهه الكذب. حتى في أتفه الأمور. فإن كانت لك هذه المؤهلات فأهلاً وسهلاً بك. وسأعاملك كما لو كنت واحداً من أفراد عائلتي. وإلا فأبق بعيداً عني.
فأشرقت أسارير صادق وقال بلسان متلعثم من شدة الفرح: جربني يا سيدي. وما أظنك تكون إلا راضياً.
انقضى عام وبعض العام وصادق يكاد لا يصدق أنه اهتدى في النهاية إلى حقه في الحياة. وإذ عادت به الذاكرة إلى تلك الليلة التي قر رأيه فيها على الانتحار ضحك في قلبه من حماقته وشكر ربه وقال: لقد كنت لجوجاً. واللجاجة ضرب من العمى والكفر بالله. أما أني تعلمت قيادة السيارات، وحظيت بهذا المحامي النبيل، فقد كان ذلك وحياً من السماء.
وكان يوم بديع من أيام الربيع. فشاء المحامي وعائلته أن يخرجوا في نزهة بالسيارة إلى المكان الذي يختاره لهم صادق. فاختار صادق نبعة ثرة في واد يبعد عن المدينة زهاء عشرين ميلاً. ظلاله ناعمات، ونسماته بليلات، وأرضه مكسوة بالخضرة الموشاة بألوان شتى الأزهار. وابتهج الجميع بتلك القطعة الساحرة التي اختارها لهم صادق. وكانوا قد جلبوا معهم زاداً كثيراً لنهارهم. فما دروا من فرط سرورهم، كيف نفذ منهم الزاد وتقلص النهار. فودعوا الوادي وبودهم لو يستطيعون نقله معهم إلى المدينة.
وشاء المحامي في طريق العودة أن يقود السيارة بيده. فتخلى له صادق عن المقود. وفيما هم يقطعون بستاناً في ضواحي المدينة قفز بغتة إلى الطريق ولد كان يطارد عصفوراً. فما استطاع السائق أن يحيد عنه، ورهسه. فصاح صادق مذعوراً: لقد رهست الولد يا سيدي. توقف لنحمله إلى المشفى. إلا أن المحامي انطلق بسرعة جنونية. وعندما بلغ البيت أوصى بأن لا يفوه أحد منهم بكلمة عما كان.
واتفق عند وقوع الحادث أن أبصر البستاني رقم السيارة الجانية، فدونه ونقله إلى الشرطة. وفي الصباح صدرت الصحف وفيها أن سائق المحامي فلان قد أخذ السيارة من غير علم صاحبها وخرج في نزهة مع عشيقته. وكان يسوق بسرعة فائقة. فرهس ولداً كان يسير وحده في الطريق ولم يتوقف بل تابع سيره بسرعة خاطفة. ويقال إنه كان في حالة سكر.
وبعد ثلاثة شهور نقلت الصحف الخبر التالي: وجد السجين صادق الضايع، سائق السيارة التي رهست ولداً منذ ثلاثة شهور، مشنوقاً في زنزانته. وكان قد حكم عليه بالسجن عشر سنوات. وقد أثبت التحقيق أن الوفاة حدثت انتحاراً. وعثروا في جيب المنتحر على ورقة جاءت فيها هذه العبارة، وقد كتبت بخط يكاد لا يقرأ: تباً لدنيا لا مجال فيها لصادق.