أسماء رمرام's Blog
August 4, 2020
بكاء القرنفل. قراءة الأديب ربيع عقب الباب
يقول درويش في رائعته: مديح الظل العالي:
أذهب فقيرا كالصلاة ، وكالنهر في درب الحصى ، ومؤجلا كقرنفلة.
ولا ريب أن كاتبتنا قد استعاضت المعنى من خلال " عتبة " التي صدرت بها مجموعتها القصصية الأولى وكأنها توردنا الماء لنرى على صفحته ماهو عذب زلال وماهو دون ذلك ، و بنفس الطريقة و التشكيل و إن اختلف لون زهرته :
يقول لها : أي زهر تحبينه ؟
فتقول : القرنفل .... أسود
يقول : إلي أين تمضين بي ، و القرنفل أسود "
تقول : إلى بؤرة الضوء في داخلي
و تقول : و أبعد ... أبعد ... أبعد
و قد أعطى درويش المؤجل كل حاجته و معناه و تتبيلته ليظل متئدا في رحلته و أبعد .. أبعد من ذلك ربما إلي أن يجفف القرنفل دمعاته الفياضة و حنينه المشبع بالقلق و التوتر و الانتظار وقسوة الأشواق و بلاغة الوساوس و الظنون و الكوابيس و كيدها المرير على رقعة الوقت و انحسار الموج عند نقطة اللاعودة .
كان عليها أن تتبع تلك العتبة بالموسيقى لتستنزف ما ظل عالقا فينا بعد أن هيأتنا لها فتكون " بكاء القرنفل " امتدادا للحالة وارتماء في خلجات اللحن لكنها أرجأتها إلي مفازة سحيقة و كأنها لم ترد لنا أن نكمل الرقصة و أن نظل على وهج يترنح كذبيح حتى تحين ساعة التجلي و كسر عظام المؤجل فينا و منا !
لكنها لم تشأ لنا الفكاك و التحلل من براثن أحبولتها ، كل ما فعلته أن طوقت انتباهنا وزمرتنا بلون آخر للزهرة بلون ربما أقل سوادا من سابقه ثم تسمح لعيوننا أن تبصر جانبا من المأساة جانبا آخر و ربما أقل وطأة و ربما أشد،
كل يتذوق حسب معدل الملوحة أو حجم السكاكر التي تلازم فنجانه .
قبل الولوج في عوالم المجموعة نتوقف أمام عتبة أخرى لكنها هذه المرة بنبض القاصة و أدواتها و ليس كما عتبة درويش الأولى و إن كانت تحت مسمى آخر و لون آخر لزهرة خاصة أو لون آخر للقرنفل .
حالة عن شاعر و روائي ، عاش قضيته بمصير لم يرتضه و يرغبه ، عاشها بكل ما فيها و مايعتريه ، بكل ما تعنيه من قسوة أو رقة ، من غلاظة أو رهافة .
عن مالك حداد كانت عتبتها الثانية ، بين شرق و غرب .. غرب إلي أبعد .. أبعد كما قال درويش .
تجسد مالك بشرا سويا أمامها ، هي القارئة ، التي تحب الكتاب واللغة ، معها في بيتها ، و في حجرة نومها بعد أن رفع عنها الأدران و الوسن ، و في حجرة نومها أسكنها طمأنينة و بشارة وحلما كان مؤجلا يتحقق و لو بعد حين !
: يااااه .. مالك بشحمه و لحمه يسألني عن حالي ، و يعرف اسمي أيضا ، يبدو لي أنك قرأت إحدى قصائدي في مجلة " العربي " يا صديق ، ما أعظم الحياة حقا .. لا تقلق يا مالك .. اللغة العربية بخير في الجزائر ، و الشقاء في خطر ، و أنت .. كيف حالك ؟
تغلل القارئ بأغلال قديمة ، و يعيش حالة كأنها راهنة و حية ، في ضمائر الشعب الجزائري ، حين وصل استبداد المستعمر الفرنسي حدا لا يطاق ، و لا يقبل ، حين حرم الشعب من لغته ، و أساء الأدب في معاملة الناس ، وحرمهم من أبسط حقوق الإنسان ، و تجريمه التحدث بلسانه العربي ليكون التحدي الجزائري وزعامته الشعبية لهذا الظلام القاسي المخالب والمتغول في ربوع الوطن .
كأن مالكا بالفعل في بيته ، وكأن الكاتبة ذاتها مقتنعة أنه هنا بالفعل في بيته ، و في مكانه الطبيعي .
" رن هاتفه فجأة : ألو .. سيدي ، مازال التحقيق جاريا فيما يخص قضية اختطاف طفلك ، لقد وصلنا إلي معلومات جديدة ، هناك من شاهد امرأة في " رحبة الصوف " تعطيه قطعة حلوى .. أرجو أن توافينا إلي مركز الشرطة فورا ".
و تنهي القاصة عتبتها بتلك الأبيات ، نص من ديوان " الشقاء في خطر " لمالك حداد:
أمنحك شاطئا
البحر المغمى عليه
وهذا العصفور المتيم
و بعدها
لك قلبي
الذي لا يحسن القتال ".
هذا النص رغم بساطته إلا أنه دفعني دفعا للاقتراب من عالم مالك حداد بعد أن كنت أسمع عنه و أقرأ اسمه هنا وهناك بين حين و آخر و أن أحاول بجدية و حب الغوص في ملامح هذا الكاتب الشاعر و الروائي و تعويض جهلي الغريب تجاهه من ناحية من خلال ماكتب عنه و ما تناوله الكثيرون من سيرته و أعماله
و فوق ذلك الانخراط في تناول أعماله بعد أن ظللت مخدوعا بما حصلت و عرفت زمنا طويلا .
هانحن تجاوزنا العتبتين لنكون في رحابة القرنفل ، ثلاث وثلاثون زهرة ، كلها للقرنفل ، و إن اختلف اللون و المذاق ، و أصبح أفسح من قوس قزح ، و أقدر على منحي تأشيرة مرور ، ما بين ضاحك و ساخر ، باك و مدمى ، متهدل و محلق ، جامد و راسخ ، راقص و ميت !
بداية بـ " سارق النعال " الذي لم يرأب صدع إنسانيته إلا بيع فلذة كبده بدراهم معدودات وكان فيه من الزاهدين نكاية في نفسه وزوجته و بنيه ، ودون دمعة أسف ، أو آهة لضمير لم يزل حيا .
و انتهاء بـ " العرجاء "
" قبل أن تعيد الدفتر إلي مكانه إذا بامرأة بيضاء ، سمينة الجسد ، حادة النظر ، تعرج في مشيتها ، تدخل الصيدلية ، شاكية مرضها ، و الوصفة الطبية في يدها ".
وكانت دهشة بطلة النص " الصيدلانية " حين طالعت الوصفة التي تحملها المرأة ، أنها نفس الوصفة و الدواء الذي طلبه سابقا رجل خرج توا و التي كانت " ليريكا " الذي صار الشباب يتعاطونه كحبوب مهلوسة بعد خلطه مع الكوكاكولا ، و يباع أيضا بطرق غير شرعية .
و تتعرض الصيدلانية للتهديد بالسلاح الأبيض ، بالقتل من قبل المرأة ، و لكنها بالحيلة و الذكاء تنجو من الموقف بعد أن كانت في موقف لا تحسد عليه .
المجموعة بتخمتها و تعدد أطروحاتها فياضة بلغتها السلسة و تقليديتها التي حاولت تجاوزها في نص وحيد " أعراش " حيث جاء قصة قصيرة جدا ، و يعتبر أقل النصوص و أضعفها ، و كسر حالة التناغم التي تتفجر بين سطر و آخر ، وترق حتى تصل إلي الشاعرة الخالصة في تجليها ، و تبرز قدرة الكاتبة اللغوية و صحة لغتها ، و ربما لو كانت سمحت لنفسها بالمغامرة لرأيت الكثير من الجوانب الغائبة من قدرة القاصة على النسج و التشكيل .
في رحلة القرنفل قضايا حية ، قضايا تتعدى حدود الجغرافيا و الوقت أيضا ؛ فلم تنس الرحيل في التاريخ ، إلي هناك ، حيث معارك التحرير في الجزائر ، بلد المليون شهيد ، وأن نستشعر زفير و أنفاس تلك الأيام الخالدة و المشرقة في حياة و تاريخ الجزائر ، و هذه الولادة التي تحققت بالاستقلال و بجزائر حرة مستقلة من خلال قصة " مجاهد "
: يا إلهي ، هل هذا وقتك يا بني ؟؟ رباه إني وحيدة واحدة ، لا ثاني لي سواك "
وقامت إلى الماء تسخنه بنفسها ، و هي ترتعد من البرد .
ثم عطست عطسة قوية ، تبعها بعد عذاب صراخ رضيع سمته على بركة الله " مجاهد " .
إن قاصتنا تعشق القلم ، و تلعب معه اللعبة ذاتها ، و تتغنى بشاعريتها كلما سنحت لها مشاعرها ، فتنطقه شعرا ، و سردا جميلا ، يأخذ باللب ، و ربما قد يكون في غير محله ، و لكنها على قناعة بضرورة ما تفعل ، و ما تقيم و تشيد ، تتحرك في دروب اللغة ، و الحكايات ، عبر دروب متعددة ، ومناح فسيحة ، بلا أسيجة أو موانع ، ليس سوى ما تعرف ، و تهضم ، و لا تتورع أن تنهي القصة في صفحتها الأولى ، أو سطورها الأولى ، و قد تمتد إلى صفحات ، و قد يكون من فرط جنوحها إلى الوصول للقارئ ، أن تقدم له الطبق كاملا ، دون الحاجة للمواربة ، حتى و إن الأمر يستلزم منها ذلك ، حتى لو استدعى ذلك أن تنهال عليها ألسنة النقد و الانتقاد .
كنت أتمنى أن أكتب عن قصص المجموعة ، و لا أبخس حقها في التعرض لها ، حتى لو كان قدحا ، و لكن لأترك ذلك لغيري ممن له القدرة على الفعل ، فهي بحق تستحق التحية و التهنئة بمولودها ، و تجربتها الأولى في عالم القص ، متمنيا لها ألا تعيش في ظل القرنفل ، و أن تترك لي و لغيري من المحبين لفنها هذا الظل علنا يوما نعيش بهجة شقائق النعمان .
أهلا بك أسماء رمرام قاصة واعية قادرة على إغنائنا بالفن وبالفن وحده !
أذهب فقيرا كالصلاة ، وكالنهر في درب الحصى ، ومؤجلا كقرنفلة.
ولا ريب أن كاتبتنا قد استعاضت المعنى من خلال " عتبة " التي صدرت بها مجموعتها القصصية الأولى وكأنها توردنا الماء لنرى على صفحته ماهو عذب زلال وماهو دون ذلك ، و بنفس الطريقة و التشكيل و إن اختلف لون زهرته :
يقول لها : أي زهر تحبينه ؟
فتقول : القرنفل .... أسود
يقول : إلي أين تمضين بي ، و القرنفل أسود "
تقول : إلى بؤرة الضوء في داخلي
و تقول : و أبعد ... أبعد ... أبعد
و قد أعطى درويش المؤجل كل حاجته و معناه و تتبيلته ليظل متئدا في رحلته و أبعد .. أبعد من ذلك ربما إلي أن يجفف القرنفل دمعاته الفياضة و حنينه المشبع بالقلق و التوتر و الانتظار وقسوة الأشواق و بلاغة الوساوس و الظنون و الكوابيس و كيدها المرير على رقعة الوقت و انحسار الموج عند نقطة اللاعودة .
كان عليها أن تتبع تلك العتبة بالموسيقى لتستنزف ما ظل عالقا فينا بعد أن هيأتنا لها فتكون " بكاء القرنفل " امتدادا للحالة وارتماء في خلجات اللحن لكنها أرجأتها إلي مفازة سحيقة و كأنها لم ترد لنا أن نكمل الرقصة و أن نظل على وهج يترنح كذبيح حتى تحين ساعة التجلي و كسر عظام المؤجل فينا و منا !
لكنها لم تشأ لنا الفكاك و التحلل من براثن أحبولتها ، كل ما فعلته أن طوقت انتباهنا وزمرتنا بلون آخر للزهرة بلون ربما أقل سوادا من سابقه ثم تسمح لعيوننا أن تبصر جانبا من المأساة جانبا آخر و ربما أقل وطأة و ربما أشد،
كل يتذوق حسب معدل الملوحة أو حجم السكاكر التي تلازم فنجانه .
قبل الولوج في عوالم المجموعة نتوقف أمام عتبة أخرى لكنها هذه المرة بنبض القاصة و أدواتها و ليس كما عتبة درويش الأولى و إن كانت تحت مسمى آخر و لون آخر لزهرة خاصة أو لون آخر للقرنفل .
حالة عن شاعر و روائي ، عاش قضيته بمصير لم يرتضه و يرغبه ، عاشها بكل ما فيها و مايعتريه ، بكل ما تعنيه من قسوة أو رقة ، من غلاظة أو رهافة .
عن مالك حداد كانت عتبتها الثانية ، بين شرق و غرب .. غرب إلي أبعد .. أبعد كما قال درويش .
تجسد مالك بشرا سويا أمامها ، هي القارئة ، التي تحب الكتاب واللغة ، معها في بيتها ، و في حجرة نومها بعد أن رفع عنها الأدران و الوسن ، و في حجرة نومها أسكنها طمأنينة و بشارة وحلما كان مؤجلا يتحقق و لو بعد حين !
: يااااه .. مالك بشحمه و لحمه يسألني عن حالي ، و يعرف اسمي أيضا ، يبدو لي أنك قرأت إحدى قصائدي في مجلة " العربي " يا صديق ، ما أعظم الحياة حقا .. لا تقلق يا مالك .. اللغة العربية بخير في الجزائر ، و الشقاء في خطر ، و أنت .. كيف حالك ؟
تغلل القارئ بأغلال قديمة ، و يعيش حالة كأنها راهنة و حية ، في ضمائر الشعب الجزائري ، حين وصل استبداد المستعمر الفرنسي حدا لا يطاق ، و لا يقبل ، حين حرم الشعب من لغته ، و أساء الأدب في معاملة الناس ، وحرمهم من أبسط حقوق الإنسان ، و تجريمه التحدث بلسانه العربي ليكون التحدي الجزائري وزعامته الشعبية لهذا الظلام القاسي المخالب والمتغول في ربوع الوطن .
كأن مالكا بالفعل في بيته ، وكأن الكاتبة ذاتها مقتنعة أنه هنا بالفعل في بيته ، و في مكانه الطبيعي .
" رن هاتفه فجأة : ألو .. سيدي ، مازال التحقيق جاريا فيما يخص قضية اختطاف طفلك ، لقد وصلنا إلي معلومات جديدة ، هناك من شاهد امرأة في " رحبة الصوف " تعطيه قطعة حلوى .. أرجو أن توافينا إلي مركز الشرطة فورا ".
و تنهي القاصة عتبتها بتلك الأبيات ، نص من ديوان " الشقاء في خطر " لمالك حداد:
أمنحك شاطئا
البحر المغمى عليه
وهذا العصفور المتيم
و بعدها
لك قلبي
الذي لا يحسن القتال ".
هذا النص رغم بساطته إلا أنه دفعني دفعا للاقتراب من عالم مالك حداد بعد أن كنت أسمع عنه و أقرأ اسمه هنا وهناك بين حين و آخر و أن أحاول بجدية و حب الغوص في ملامح هذا الكاتب الشاعر و الروائي و تعويض جهلي الغريب تجاهه من ناحية من خلال ماكتب عنه و ما تناوله الكثيرون من سيرته و أعماله
و فوق ذلك الانخراط في تناول أعماله بعد أن ظللت مخدوعا بما حصلت و عرفت زمنا طويلا .
هانحن تجاوزنا العتبتين لنكون في رحابة القرنفل ، ثلاث وثلاثون زهرة ، كلها للقرنفل ، و إن اختلف اللون و المذاق ، و أصبح أفسح من قوس قزح ، و أقدر على منحي تأشيرة مرور ، ما بين ضاحك و ساخر ، باك و مدمى ، متهدل و محلق ، جامد و راسخ ، راقص و ميت !
بداية بـ " سارق النعال " الذي لم يرأب صدع إنسانيته إلا بيع فلذة كبده بدراهم معدودات وكان فيه من الزاهدين نكاية في نفسه وزوجته و بنيه ، ودون دمعة أسف ، أو آهة لضمير لم يزل حيا .
و انتهاء بـ " العرجاء "
" قبل أن تعيد الدفتر إلي مكانه إذا بامرأة بيضاء ، سمينة الجسد ، حادة النظر ، تعرج في مشيتها ، تدخل الصيدلية ، شاكية مرضها ، و الوصفة الطبية في يدها ".
وكانت دهشة بطلة النص " الصيدلانية " حين طالعت الوصفة التي تحملها المرأة ، أنها نفس الوصفة و الدواء الذي طلبه سابقا رجل خرج توا و التي كانت " ليريكا " الذي صار الشباب يتعاطونه كحبوب مهلوسة بعد خلطه مع الكوكاكولا ، و يباع أيضا بطرق غير شرعية .
و تتعرض الصيدلانية للتهديد بالسلاح الأبيض ، بالقتل من قبل المرأة ، و لكنها بالحيلة و الذكاء تنجو من الموقف بعد أن كانت في موقف لا تحسد عليه .
المجموعة بتخمتها و تعدد أطروحاتها فياضة بلغتها السلسة و تقليديتها التي حاولت تجاوزها في نص وحيد " أعراش " حيث جاء قصة قصيرة جدا ، و يعتبر أقل النصوص و أضعفها ، و كسر حالة التناغم التي تتفجر بين سطر و آخر ، وترق حتى تصل إلي الشاعرة الخالصة في تجليها ، و تبرز قدرة الكاتبة اللغوية و صحة لغتها ، و ربما لو كانت سمحت لنفسها بالمغامرة لرأيت الكثير من الجوانب الغائبة من قدرة القاصة على النسج و التشكيل .
في رحلة القرنفل قضايا حية ، قضايا تتعدى حدود الجغرافيا و الوقت أيضا ؛ فلم تنس الرحيل في التاريخ ، إلي هناك ، حيث معارك التحرير في الجزائر ، بلد المليون شهيد ، وأن نستشعر زفير و أنفاس تلك الأيام الخالدة و المشرقة في حياة و تاريخ الجزائر ، و هذه الولادة التي تحققت بالاستقلال و بجزائر حرة مستقلة من خلال قصة " مجاهد "
: يا إلهي ، هل هذا وقتك يا بني ؟؟ رباه إني وحيدة واحدة ، لا ثاني لي سواك "
وقامت إلى الماء تسخنه بنفسها ، و هي ترتعد من البرد .
ثم عطست عطسة قوية ، تبعها بعد عذاب صراخ رضيع سمته على بركة الله " مجاهد " .
إن قاصتنا تعشق القلم ، و تلعب معه اللعبة ذاتها ، و تتغنى بشاعريتها كلما سنحت لها مشاعرها ، فتنطقه شعرا ، و سردا جميلا ، يأخذ باللب ، و ربما قد يكون في غير محله ، و لكنها على قناعة بضرورة ما تفعل ، و ما تقيم و تشيد ، تتحرك في دروب اللغة ، و الحكايات ، عبر دروب متعددة ، ومناح فسيحة ، بلا أسيجة أو موانع ، ليس سوى ما تعرف ، و تهضم ، و لا تتورع أن تنهي القصة في صفحتها الأولى ، أو سطورها الأولى ، و قد تمتد إلى صفحات ، و قد يكون من فرط جنوحها إلى الوصول للقارئ ، أن تقدم له الطبق كاملا ، دون الحاجة للمواربة ، حتى و إن الأمر يستلزم منها ذلك ، حتى لو استدعى ذلك أن تنهال عليها ألسنة النقد و الانتقاد .
كنت أتمنى أن أكتب عن قصص المجموعة ، و لا أبخس حقها في التعرض لها ، حتى لو كان قدحا ، و لكن لأترك ذلك لغيري ممن له القدرة على الفعل ، فهي بحق تستحق التحية و التهنئة بمولودها ، و تجربتها الأولى في عالم القص ، متمنيا لها ألا تعيش في ظل القرنفل ، و أن تترك لي و لغيري من المحبين لفنها هذا الظل علنا يوما نعيش بهجة شقائق النعمان .
أهلا بك أسماء رمرام قاصة واعية قادرة على إغنائنا بالفن وبالفن وحده !
Published on August 04, 2020 18:42
سؤال الشعر. قراءة نقدية للناقد د. جاسم خلف الياس
سؤال الشعر
قراءة في قصائد منتخبة للشاعرة أسماء رمرام
د. جاسم خلف الياس
ـــ
في نصها (درويش دفء الشتاء) تضعنا أسماء أمام اختبار نقدي تتحكم فيه الذائقة من جهة والمرجعيات الثقافية للناقد من جهة أخرى وذلك عبر الصور الشعرية التي تمظهرت على شكل أيقونات تعريفية، لها طاقة هائلة في إفشاء سر التواطؤ بين تلك الصور ودلالاتها، وبعيدا عن الانزلاق وراء تعريف (كانون) الذي أوجدته الشاعرة كي تراوغ به القارئ، وقريبا من تعريف الشعر الذي يشكل المركوز الأساس في هذا الفضاء النصي، نتوقف عند الأسوار الحصينة لعدة نصوص للشاعرة، ونسعى إلى اقتحامها عبر استنطاقها وكشف مقاصدها، وإضاءة عتماتها إن وجدت، إذ تبقى الذات الشاعرة تمارس تخاتلها عند تخوم التوهج والافتننان بالحياة. فمن أين نبدأ مقاربتنا لهذه النصوص؟ من تعريف الشعر كما ورد في نص ( درويش دفء الشتاء)؟ أم من مهمة القبض على المتشظي والمنفلت في النص؟ من قراءة مزاجية تتسكع في النصوص دون ضوابط؟ أم من قراءة نقدية تتوسل بالمنهجيات ومعاييرها النقدية؟ سندع كل ذلك لتفاعل المعيارية مع المزاجية في مساءلات فردية للنصوص، ولكلا التواجدين: التشكيلي والتدليلي، لا تعرّف أسماء الشعر بذاته، وإنما تقترب في مفتتحها النصي من شيء يشبه الشعر أو هو شعر شفيف:
لكانون غنت زهور القرنفل
توقظ في القلب لحنا جديدا
بدفء اللغة
ما يشبه الشعر
أو هو شعر شفيف
هذا الشعر الشفيف يشبه الماء المحلّى الذي يجدد في الروح لون الشبابْ. ويبقى السؤال ما الشعر؟ تجيب الذات الشاعرة بعد أن تعددت التفاصيل التي يتكون منها الشعر: إن الشعر كانون ورعدٌ وبرق وريح وغيم وكوب من الشايِ يعرف أسراره العاشقون وطيف وروح وخيال وبحر وسؤال يجيء بعد السؤالْ هذا هو الشعر، وتذهب بعيدا في ضرورة وجوده في حياتها، فلولاه ما كان للحياة طعم لذيذ يطاقْ وهذا هو السكر المشتهى؛ لذا سلام علي - والكلام للشاعرة - إذا ما كتبت وسلام عليك يا صاحبي وتقصد هنا محمود درويش ، وتختتم نصها ب ( هذا هو الشعر). لقد سقت هذه المقدمة وأنا أقارب النصوص التي اخترتها للشاعرة أسماء رمرام، فتعالوا معي في رحلة استكشافية لمظان تلك النصوص، ونبدأ بنص:
(جروح الرَوِيّْ) التي اعتمدت تفعيلة (فعولن) في إيقاعها الخارجي فضلا عن حرف (الياء) بوصفه حرفا رويّا. وتفعيلة (فعولن) هي النواة المكونة لبحر المتقارب كما هو متعارف عليه، إذ تجيء التفعيلة مكررة وسلسة وقد جاءت مقصورة لكسر الرتابة المتكئة على التكرار . سؤال الشعر: يعد السؤال في الشعر رغبة ملحة في تمظهر الداخل الوجداني للتعبير عن الخوف والقلق والمجهول، فضلا عن دعوة القارئ للتوغل في النص . وتكمن قيمة الإجابة عن السؤال الشعري في عدمها أو على الأقل في تأويلاتها المتعددة حسب كل قارئ. ويأخذ السؤال هنا شكله الاحتجاجي أو الاستنكاري وهو يشد انتباهنا إلى النص بكل ما يقتضيه من تشاكلات أسلوبية وتباينات تدليلية تعتمد على أدوات الاستفهام ( هل ، الهمزة ، كيف ، لماذا، أين .... وغيرها) . وإذا كانت الغاية من السؤال الشعري مواجهة الحيرة أو دعوة القارئ إلى الاستجابة أو التكثيف الشعري أو مفتتحا حكائيا وحواريا أو للتنوع والتوزيع الشعري ... وغيرها ، فإن الممارسة الانزياحية هي ما تتوخاها الذات الشاعرة وهي تتوكأ على متخيل ثرّ وداثر في تدفقه الوجداني وهو يغامر بالكتابة من أجل المغاير والمتجاوز لما هو عادي وقار. تتساءل الشاعرة في مفتتحها النصي وهي تعود بنا الى أن الشعر لديها سؤال يجيء بعد السؤال:
لماذا تركت الحقيبة تسلو
جروحَ الصلاةِ على شفتيّا؟
وأنت الذي في القصائدِ تهفو
كظلٍ ظليلٍ إلى كتفيَّا؟
ويبدو أن جمالية الإيقاع هنا اعتمدت على تنوع الإمكانات التي وفرتها الزحافات والعلل. أما السؤال الذي رصد المشاعر التي تختلج في النفس، فينم عن انفعال استطاع أن يروّض ال(لماذا) ويجعلها في وضع احتجاجي واستنكاري في الآن نفسه. سؤال يتقصى فعل الآخر (أنت) في بنية لغوية تساعد الذات على تحقيق وجودها ضمن علاقة الحضور/ الغياب ، الأنا / الآخر سواء في حالة الانفصال أو الاتصال. ويبدو لي أن الذات الشاعرة هنا لا تعي كينونتها دون حضور الآخر ، الكاشف لها، وهذا بدوره يعتمد على طبيعة الحياة القائمة على الاختلاف والمغايرة. وعلى هذا الأساس يمكننا القول: إن أي صوغ جمالي لا يعبر عن صوت الذات فحسب، وإنما يحيلنا إلى صوت الآخر أيضا. فالعلاقة بين الحضور والغياب علاقة حوارية ذات طابع جدلي. وتستمر الشاعرة في تأثيث أسئلتها الشعرية:
أبعدَ الغيابِ يكفّ جنونك
عنْ طيِّ وزني
كثوبٍ تخبئه في الخزانةِ
خوفاً من العصفِ إن قال شيَّا؟
وهنا يجيء السؤال عن الغياب وإن تظاهرت بـ (ما بعد) فهي تعاني الحرمان الذي لن يكف جنونها واستمرارها في كتابة الشعر، وتعود الذات الشاعرة إلى تأكيد التجلي/ الخفاء مرة أخرى بوصف التجلي حضورا والخفاء غيابا، والقول حضورا والسكوت غيابا. ولكن سرعان ما تختفي هذه الضدية في هذا المقطع:
أنا – والذي قال كوني- فكنتُ
أغنّي وإن ضاقَ ليلي عليّا
هو الليل ليلكَ
أنت
وإن كان وشمك فيه
عصيَّا.. قصيّا
إن العلاقة هنا بين الأنا والآخر ليست علاقة بين الغالب والمغلوب كما في الثنائيات الضدية السابقة، بل علاقة تكاملية وتكوينية حسب ما جاء في النص، فهي تقسم بالذي كوّنها من أجل الآخر، وربما لو تركت القسم جانبا واتخذت من جملة كوني فكنت وهي تستجيب للآخر بكل رغبة وطواعية في التماهي والمصالحة، لحصلنا على جمالية أكثر في الشكل والمحتوى، وذلك عبر تفعيل الممارسة الانزياحية التي ستكشف لنا العلاقة التكوينية بعدما كانت معدومة أو مفقودة. وهذا ما تؤكده الضمائر المنفصلة والمتصلة (أنت، كاف الخطاب في مفردتي ليلك ووشمك) وهذه الضمائر تقودنا إلى أن الآخر ما زال يمارس حضوره في العمق، ولا شيء سوى العمق. وتستمر في علاقتها التكوينية ثانية فتقول:
إذا كان في جِلدك الحبُّ سجنًا
وفي راحتيكَ الكلامُ سبيَّا
ويأتي التماهي هنا إلى حد الإطلاق، فهي على الرغم من الاكتواء بهذا الحب الجارف، إلا أنها ترفع راية الانقياد طواعية نحو عالم الآخر وتبقى في نشيدها الشعري الخلاق كي تعبر عن العلاقة بين العاشق والمعشوقة بهذه الحرارة الصوفية إن جاز التعبير. ثم تعود ثانية إلى السؤال الشعري الذي يعصف بعمقها ويظهره في مزاج وجداني قادر على استشفاف عذوبة القول الشعري:
لماذا تركتَ الحديقة تغفو
كطفلٍ يتيمٍ على مُقلتيّا
وبعد توظيفها لأداة الاستفهام لماذا في المفتتح النصي والهمزة في المقطع الذي تلاه، وتكرار (لماذا) في المقطع الثالث، تفعّل الذات الشاعرة توظيف أداة استفهام جديدة تفيد السؤال عن الحال:
وخبّأتُ في فيكَ ريقي
فكيف
تنام الزهورُ
وتذوي مَليّا؟
وهنا تنزاح الـ(كيف) من وظيفتها الحقيقية إلى وظيفتها المجازية، إذ تخرج وظيفتها للتعجب، كيف لا وهي التي خبأت ريقها في فم معشوقها. بهذا التجسيد الإيروتيكي يصعد التعجب إلى أقصى مدى في نوازعها، فيختل التوازن في طبيعتها، فتعجب من الحياة كيف أصبحت خاملة بعد أن أذاقت معشوقها ريقها. لقد استطاعت الشاعرة أسماء رمرام في هذين السطرين الشعريين أن تمارس لعبة ترميزية فاعلة في حضور الموت (الذبول) وغياب الحياة (الارتواء). وتؤكد في إقفالها النصي ذلك التوظيف الانزياحي من الحقيقي إلى المجازي بالأداة ذاتها (كيف):
وما أشفق القلب يومَ بكيتُ
فكيف بك الآن تبكي الرَويّا؟
وهنا تضعنا في بنية المقارنة بين (بكائها) و (بكائه) لتصوغ لنا جملة شعرية جديدة تمظهرت فيها العلاقة بين الأنا والآخر بحساسية المتشفية، لتعود العلاقة بينهما إلى علاقة انفصال لا اتصال.
وتستمر أسماء رمرام في كشف ولعها بالشعر أمام القارئ فيأتي نصها الثالث بعنوان (الحياة، أيها الشعر) ليذكرنا بتعريفها للشعر في النص الأول. ونبقى ندور في الدائرة ذاتها، وكأنها تريد أن تؤكد لنا تمسكها بالشعر دون باقي الأنواع الأدبية الأُخرى، وتقول: على الرغم من أن أغلب المشتغلين في الحقل الأدبي يرون أن هذا العصر عصر الرواية، إلا أني أؤكد لكم إنه عصر الشعر أيضا. وهي لا تشكل شيئا أمام الطوفان الشعري
لن يخسر الشعر شيئا
إذا ما متّ
لكنه سينحني
ويخطف من ثغري
قبلة أخيرة
والقبلة حياة..
وتعد القبلة الوسيلة التعبيرية الأقوى عن الحب والسعادة والفرح. وهي لا تأتي إلا بدافع الإحساس والحنان والشوق بوصفها فعلا عاطفيا قابلا للانزياح حسب الموقف الذي تأتي فيه. إذن القبلة في هذا النص هي الحياة:
ألم أهبك حياة إذن
أيها الشعر؟؟
وسرعان ما يحدث تغاير في السياق النصي، إذ تنتقل بنا الذات الشاعرة من سياق التخاطب بضمير المخاطب (الكاف) إلى سياق التخاطب بضمير الغائب(الهاء) ويؤدي هذا التغاير وظيفة الحد من الرتابة النصية . إلا أن ما يهمنا أكثر في هذا النص هو الاستمرارية في الولع الشعري الذي وهبته أجمل ما في حياتها وهي الذكريات:
ألم أهبك الذكريات إذن
أيها الشعر
والذكريات حياة؟
وهنا أصبحنا أمام ثالوث (الشعر/ الحياة/ الذكريات) وعبر هذا الثالوث وفي الدياجير الصامتة يتجلى الخبيء أمام وعيها بلمعان شديد، لنسمع نبضها المحايث للفضاءات المستورة. وبعد أن ترسم واقعها المعيش بتفاصيل دقيقة تعود إلى الشعر ثانية لتؤكد لنا أن:
استعارة غارت
من سكوتِ اللغة
فادّعت أنها مريضة وحزينة
كي تسمع مني كلاما كثيرا
لا يقوله العطر ومساحيق التجميل
لأنها تؤمن بالمرأة اللغة
أكثر من إيمانها بالمرأة الزينة
فالذات الشاعرة هنا تنسلخ عن كليتها النسوية لتعلن عن جزئيتها النسوية المقترنة بالشعر ولا غير الشعر لأنها تقدّس اللغة وقد وهبتها أكثر من حياة. هل اندمجت هنا الذات الشاعرة بالكوني المطلق؟ أم أنها وصلت إلى ذروة اللذة الشعرية ؟:
أيها الشعر الشهي كزهرة بابونج
لتختتم النص بصوغ دائري بدأت به في المفتتح النصي وتقول:
ألم أهبك حياة إذن
أيها الشعر؟؟
بلى. لقد وهبت أسماء رمرام الشعر حياة مكتظة بدفق وجداني مبهر، وصور شعرية تراكمت فيها الحدوس والرغبات، وطافت حول الشعر ابتغاء معانقته وهي في قمة سموّها ونقائها.
قراءة في قصائد منتخبة للشاعرة أسماء رمرام
د. جاسم خلف الياس
ـــ
في نصها (درويش دفء الشتاء) تضعنا أسماء أمام اختبار نقدي تتحكم فيه الذائقة من جهة والمرجعيات الثقافية للناقد من جهة أخرى وذلك عبر الصور الشعرية التي تمظهرت على شكل أيقونات تعريفية، لها طاقة هائلة في إفشاء سر التواطؤ بين تلك الصور ودلالاتها، وبعيدا عن الانزلاق وراء تعريف (كانون) الذي أوجدته الشاعرة كي تراوغ به القارئ، وقريبا من تعريف الشعر الذي يشكل المركوز الأساس في هذا الفضاء النصي، نتوقف عند الأسوار الحصينة لعدة نصوص للشاعرة، ونسعى إلى اقتحامها عبر استنطاقها وكشف مقاصدها، وإضاءة عتماتها إن وجدت، إذ تبقى الذات الشاعرة تمارس تخاتلها عند تخوم التوهج والافتننان بالحياة. فمن أين نبدأ مقاربتنا لهذه النصوص؟ من تعريف الشعر كما ورد في نص ( درويش دفء الشتاء)؟ أم من مهمة القبض على المتشظي والمنفلت في النص؟ من قراءة مزاجية تتسكع في النصوص دون ضوابط؟ أم من قراءة نقدية تتوسل بالمنهجيات ومعاييرها النقدية؟ سندع كل ذلك لتفاعل المعيارية مع المزاجية في مساءلات فردية للنصوص، ولكلا التواجدين: التشكيلي والتدليلي، لا تعرّف أسماء الشعر بذاته، وإنما تقترب في مفتتحها النصي من شيء يشبه الشعر أو هو شعر شفيف:
لكانون غنت زهور القرنفل
توقظ في القلب لحنا جديدا
بدفء اللغة
ما يشبه الشعر
أو هو شعر شفيف
هذا الشعر الشفيف يشبه الماء المحلّى الذي يجدد في الروح لون الشبابْ. ويبقى السؤال ما الشعر؟ تجيب الذات الشاعرة بعد أن تعددت التفاصيل التي يتكون منها الشعر: إن الشعر كانون ورعدٌ وبرق وريح وغيم وكوب من الشايِ يعرف أسراره العاشقون وطيف وروح وخيال وبحر وسؤال يجيء بعد السؤالْ هذا هو الشعر، وتذهب بعيدا في ضرورة وجوده في حياتها، فلولاه ما كان للحياة طعم لذيذ يطاقْ وهذا هو السكر المشتهى؛ لذا سلام علي - والكلام للشاعرة - إذا ما كتبت وسلام عليك يا صاحبي وتقصد هنا محمود درويش ، وتختتم نصها ب ( هذا هو الشعر). لقد سقت هذه المقدمة وأنا أقارب النصوص التي اخترتها للشاعرة أسماء رمرام، فتعالوا معي في رحلة استكشافية لمظان تلك النصوص، ونبدأ بنص:
(جروح الرَوِيّْ) التي اعتمدت تفعيلة (فعولن) في إيقاعها الخارجي فضلا عن حرف (الياء) بوصفه حرفا رويّا. وتفعيلة (فعولن) هي النواة المكونة لبحر المتقارب كما هو متعارف عليه، إذ تجيء التفعيلة مكررة وسلسة وقد جاءت مقصورة لكسر الرتابة المتكئة على التكرار . سؤال الشعر: يعد السؤال في الشعر رغبة ملحة في تمظهر الداخل الوجداني للتعبير عن الخوف والقلق والمجهول، فضلا عن دعوة القارئ للتوغل في النص . وتكمن قيمة الإجابة عن السؤال الشعري في عدمها أو على الأقل في تأويلاتها المتعددة حسب كل قارئ. ويأخذ السؤال هنا شكله الاحتجاجي أو الاستنكاري وهو يشد انتباهنا إلى النص بكل ما يقتضيه من تشاكلات أسلوبية وتباينات تدليلية تعتمد على أدوات الاستفهام ( هل ، الهمزة ، كيف ، لماذا، أين .... وغيرها) . وإذا كانت الغاية من السؤال الشعري مواجهة الحيرة أو دعوة القارئ إلى الاستجابة أو التكثيف الشعري أو مفتتحا حكائيا وحواريا أو للتنوع والتوزيع الشعري ... وغيرها ، فإن الممارسة الانزياحية هي ما تتوخاها الذات الشاعرة وهي تتوكأ على متخيل ثرّ وداثر في تدفقه الوجداني وهو يغامر بالكتابة من أجل المغاير والمتجاوز لما هو عادي وقار. تتساءل الشاعرة في مفتتحها النصي وهي تعود بنا الى أن الشعر لديها سؤال يجيء بعد السؤال:
لماذا تركت الحقيبة تسلو
جروحَ الصلاةِ على شفتيّا؟
وأنت الذي في القصائدِ تهفو
كظلٍ ظليلٍ إلى كتفيَّا؟
ويبدو أن جمالية الإيقاع هنا اعتمدت على تنوع الإمكانات التي وفرتها الزحافات والعلل. أما السؤال الذي رصد المشاعر التي تختلج في النفس، فينم عن انفعال استطاع أن يروّض ال(لماذا) ويجعلها في وضع احتجاجي واستنكاري في الآن نفسه. سؤال يتقصى فعل الآخر (أنت) في بنية لغوية تساعد الذات على تحقيق وجودها ضمن علاقة الحضور/ الغياب ، الأنا / الآخر سواء في حالة الانفصال أو الاتصال. ويبدو لي أن الذات الشاعرة هنا لا تعي كينونتها دون حضور الآخر ، الكاشف لها، وهذا بدوره يعتمد على طبيعة الحياة القائمة على الاختلاف والمغايرة. وعلى هذا الأساس يمكننا القول: إن أي صوغ جمالي لا يعبر عن صوت الذات فحسب، وإنما يحيلنا إلى صوت الآخر أيضا. فالعلاقة بين الحضور والغياب علاقة حوارية ذات طابع جدلي. وتستمر الشاعرة في تأثيث أسئلتها الشعرية:
أبعدَ الغيابِ يكفّ جنونك
عنْ طيِّ وزني
كثوبٍ تخبئه في الخزانةِ
خوفاً من العصفِ إن قال شيَّا؟
وهنا يجيء السؤال عن الغياب وإن تظاهرت بـ (ما بعد) فهي تعاني الحرمان الذي لن يكف جنونها واستمرارها في كتابة الشعر، وتعود الذات الشاعرة إلى تأكيد التجلي/ الخفاء مرة أخرى بوصف التجلي حضورا والخفاء غيابا، والقول حضورا والسكوت غيابا. ولكن سرعان ما تختفي هذه الضدية في هذا المقطع:
أنا – والذي قال كوني- فكنتُ
أغنّي وإن ضاقَ ليلي عليّا
هو الليل ليلكَ
أنت
وإن كان وشمك فيه
عصيَّا.. قصيّا
إن العلاقة هنا بين الأنا والآخر ليست علاقة بين الغالب والمغلوب كما في الثنائيات الضدية السابقة، بل علاقة تكاملية وتكوينية حسب ما جاء في النص، فهي تقسم بالذي كوّنها من أجل الآخر، وربما لو تركت القسم جانبا واتخذت من جملة كوني فكنت وهي تستجيب للآخر بكل رغبة وطواعية في التماهي والمصالحة، لحصلنا على جمالية أكثر في الشكل والمحتوى، وذلك عبر تفعيل الممارسة الانزياحية التي ستكشف لنا العلاقة التكوينية بعدما كانت معدومة أو مفقودة. وهذا ما تؤكده الضمائر المنفصلة والمتصلة (أنت، كاف الخطاب في مفردتي ليلك ووشمك) وهذه الضمائر تقودنا إلى أن الآخر ما زال يمارس حضوره في العمق، ولا شيء سوى العمق. وتستمر في علاقتها التكوينية ثانية فتقول:
إذا كان في جِلدك الحبُّ سجنًا
وفي راحتيكَ الكلامُ سبيَّا
ويأتي التماهي هنا إلى حد الإطلاق، فهي على الرغم من الاكتواء بهذا الحب الجارف، إلا أنها ترفع راية الانقياد طواعية نحو عالم الآخر وتبقى في نشيدها الشعري الخلاق كي تعبر عن العلاقة بين العاشق والمعشوقة بهذه الحرارة الصوفية إن جاز التعبير. ثم تعود ثانية إلى السؤال الشعري الذي يعصف بعمقها ويظهره في مزاج وجداني قادر على استشفاف عذوبة القول الشعري:
لماذا تركتَ الحديقة تغفو
كطفلٍ يتيمٍ على مُقلتيّا
وبعد توظيفها لأداة الاستفهام لماذا في المفتتح النصي والهمزة في المقطع الذي تلاه، وتكرار (لماذا) في المقطع الثالث، تفعّل الذات الشاعرة توظيف أداة استفهام جديدة تفيد السؤال عن الحال:
وخبّأتُ في فيكَ ريقي
فكيف
تنام الزهورُ
وتذوي مَليّا؟
وهنا تنزاح الـ(كيف) من وظيفتها الحقيقية إلى وظيفتها المجازية، إذ تخرج وظيفتها للتعجب، كيف لا وهي التي خبأت ريقها في فم معشوقها. بهذا التجسيد الإيروتيكي يصعد التعجب إلى أقصى مدى في نوازعها، فيختل التوازن في طبيعتها، فتعجب من الحياة كيف أصبحت خاملة بعد أن أذاقت معشوقها ريقها. لقد استطاعت الشاعرة أسماء رمرام في هذين السطرين الشعريين أن تمارس لعبة ترميزية فاعلة في حضور الموت (الذبول) وغياب الحياة (الارتواء). وتؤكد في إقفالها النصي ذلك التوظيف الانزياحي من الحقيقي إلى المجازي بالأداة ذاتها (كيف):
وما أشفق القلب يومَ بكيتُ
فكيف بك الآن تبكي الرَويّا؟
وهنا تضعنا في بنية المقارنة بين (بكائها) و (بكائه) لتصوغ لنا جملة شعرية جديدة تمظهرت فيها العلاقة بين الأنا والآخر بحساسية المتشفية، لتعود العلاقة بينهما إلى علاقة انفصال لا اتصال.
وتستمر أسماء رمرام في كشف ولعها بالشعر أمام القارئ فيأتي نصها الثالث بعنوان (الحياة، أيها الشعر) ليذكرنا بتعريفها للشعر في النص الأول. ونبقى ندور في الدائرة ذاتها، وكأنها تريد أن تؤكد لنا تمسكها بالشعر دون باقي الأنواع الأدبية الأُخرى، وتقول: على الرغم من أن أغلب المشتغلين في الحقل الأدبي يرون أن هذا العصر عصر الرواية، إلا أني أؤكد لكم إنه عصر الشعر أيضا. وهي لا تشكل شيئا أمام الطوفان الشعري
لن يخسر الشعر شيئا
إذا ما متّ
لكنه سينحني
ويخطف من ثغري
قبلة أخيرة
والقبلة حياة..
وتعد القبلة الوسيلة التعبيرية الأقوى عن الحب والسعادة والفرح. وهي لا تأتي إلا بدافع الإحساس والحنان والشوق بوصفها فعلا عاطفيا قابلا للانزياح حسب الموقف الذي تأتي فيه. إذن القبلة في هذا النص هي الحياة:
ألم أهبك حياة إذن
أيها الشعر؟؟
وسرعان ما يحدث تغاير في السياق النصي، إذ تنتقل بنا الذات الشاعرة من سياق التخاطب بضمير المخاطب (الكاف) إلى سياق التخاطب بضمير الغائب(الهاء) ويؤدي هذا التغاير وظيفة الحد من الرتابة النصية . إلا أن ما يهمنا أكثر في هذا النص هو الاستمرارية في الولع الشعري الذي وهبته أجمل ما في حياتها وهي الذكريات:
ألم أهبك الذكريات إذن
أيها الشعر
والذكريات حياة؟
وهنا أصبحنا أمام ثالوث (الشعر/ الحياة/ الذكريات) وعبر هذا الثالوث وفي الدياجير الصامتة يتجلى الخبيء أمام وعيها بلمعان شديد، لنسمع نبضها المحايث للفضاءات المستورة. وبعد أن ترسم واقعها المعيش بتفاصيل دقيقة تعود إلى الشعر ثانية لتؤكد لنا أن:
استعارة غارت
من سكوتِ اللغة
فادّعت أنها مريضة وحزينة
كي تسمع مني كلاما كثيرا
لا يقوله العطر ومساحيق التجميل
لأنها تؤمن بالمرأة اللغة
أكثر من إيمانها بالمرأة الزينة
فالذات الشاعرة هنا تنسلخ عن كليتها النسوية لتعلن عن جزئيتها النسوية المقترنة بالشعر ولا غير الشعر لأنها تقدّس اللغة وقد وهبتها أكثر من حياة. هل اندمجت هنا الذات الشاعرة بالكوني المطلق؟ أم أنها وصلت إلى ذروة اللذة الشعرية ؟:
أيها الشعر الشهي كزهرة بابونج
لتختتم النص بصوغ دائري بدأت به في المفتتح النصي وتقول:
ألم أهبك حياة إذن
أيها الشعر؟؟
بلى. لقد وهبت أسماء رمرام الشعر حياة مكتظة بدفق وجداني مبهر، وصور شعرية تراكمت فيها الحدوس والرغبات، وطافت حول الشعر ابتغاء معانقته وهي في قمة سموّها ونقائها.
Published on August 04, 2020 18:39
•
Tags:
نقد
أسماء رمرام's Blog
- أسماء رمرام's profile
- 25 followers
أسماء رمرام isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

