أحمد محمد فريد's Blog
January 13, 2020
ألاعيب الظل - قصة
استعيد وعيي
والصداع ينفجر داخلي. تدريجيًا أطفو على سطح العالم. يغمرني الضياء، وأرى الظلال تتحرك حولي بهمة وحياة. أتسائل وأهاتفهم: ماذا حدث؟ فلا أغاث برد.
في عالم النور، أهم واقفًا وأنظر ليديّ وذراعيّ. قاتمة السواد هي. لا تحمل تفصيلة واحدة تُميزها عما يملك الظلال حولي.
أنا منهم إذن!
كأن الكلمة الأخيرة هي مفتاح ما استغلق عليّ في دقائق استيقاظي الأولى..
إذن! أتذكر ..
وبينما أسترد بصيرتي، يسترد بصري استيعابه لعالم النور والظلال حوله. ألتفت جواري لتصوير المشهد كاملًا و..فجأة يبدو كل شيء مفهومًا.
***
دعني أبصرك بعيني،
على امتداد البصر يقع عالم شديد الضياء، مُختلف ألوانه، مُتغير أنسجته، مُسطح مثل ورقة، ومطوي بزوايا حادة أرى بعضها من هنا. أما رفقائي الظلال، فهم يطوفون على هذه الأسطح الملساء الملتوية إلى مالانهاية.
تتغير أحجامهم، تتحور أشكالهم. بل أحيانًا تنفصل منهم قطع صغيرة تغادر عالم الضياء .. نحو البرزخ الذي يبرق "جواري". البرزخ؟!
هو الهاوية التي يقع على شفها عالم الظلال المُسطح، وتفصلنا عن عالم الأجساد الشاسع المخيف!
أتتبع بعيني مصير الرفقاء مَن يتفككون وتغادر أجزاؤهم عالمنا. أرى قطعًا صغيرةً من الظل تعبر البرزخ؛ لتهوي على أماكن بعينيها في الأجساد، فتضبط شكلها وعمقها. بعض الأجساد حي بشري والبعض الآخر جماد أصم، والبعض حيوانات، وآخرون طيور وحشرات.
يدفعني الفضول للنظر عبر البرزخ للجانب المقابل، إلى الجسد الذي اقترن به، و..
أين هو؟!
فعلى الجانب المقابل من عالمي، لا أجد جسدًا يناظر وجودي!
***
مدهوشًا،
للجانب الآخر من العالم، أهاتف نفسي:
وما المشكلة؟! ما أهمية أن يوجد لي جسد؟! بالعكس هذا يعني حريتي الكاملة! ظل بلا جسد! .. ظل يحوم على الجدران دون قيود!
تنعشني الخاطرة الجديدة، بينما أطوف على جدران عالمي وسطوحه بحرية منتشيًا..
يا لحرية ألا تكون مكبلًا بجسد يجرك حيثما شاء، كيفما شاء، متى شاء!
فلأبدأ في تحديد ما سأفعل بحالتي المدهشة تلك..
أمامي الظلال تتحرك وتتحور، بعضها يتحادث، والبعض يتعانق، والبعض يمزح، والبعض يتشاجر.. أهتف فيهم: يا رفاق!
تمامًا مثل المرة الأولى، لا مجيب. أكرر هتافي ..وأكرر.. دون جدوى..
تجول بي خاطرة، فأتقدم منهم ملامسًا ومعانقًا. فأجدني أمر عبرهم ولا أعانق سوى الفراغ.
***
طبيعي؟!
ربما. فنحن -في النهاية- ظلال بلا كتلة حقيقة. لا نملك من أمرنا شيئًا. ورغم ذلك، وجودنا لابد منه. نحن الظلال شديدو الأهمية. نحن من نشكل التفاصيل. ونخلق مع النور عمقًا لا يقدر على خلقه سوانا. تجدنا بسهولة في الضوء، لكننا أيضًا نوجد في أعمق أعماق الظلام. وعدم إدراكك لنا في تلك الحالة هو ضعف لحواسك وليس نفيًا لوجودنا.
كل ما نمر به، وكل معاملتنا هي إسقاط عن أجساد حقيقية في عالم ما بعد البرزخ، ماعدا واحد: أنا.
أنا الظل الوحيد المستثنى من هذه التبعية. الوحيد الذي كسر المعية الأبدية مع الأجساد. الوحيد الذي افزعته وروعته تفاصيلها، فهرب منها وصار وحيدًا يبعث عن ونس في بني عالمه..فلا يجده. يموج على الجدران بحرية، فيفزع وجوده الوحيد الأجساد الحية في عالم ما بعد البرزخ.. مثلما أفعل الآن في هذا السائر الوحيد ليلًا، وفي تلك القطة العابثة في الخلاء وبهذا الطفل الصغير الذي لم يخلد للنوم بعد.
سيقولون جنًا. سيبسملون ويحوقلون. هذا ظريف جدًا ولكنه أقل مشاكلي.
مشكلتي الحقيقية في الذاكرة. في تمام نسياني لكل ما قبل استعادتي الوعي. ما الذي شهدته من تفاصيل للجسد الذي اتبعته؟! ألتلك الدرجة كان مرعبًا وكافيًا للانسلاخ عنه؟!
والأهم: لم ذلك مهم لهذه الدرجة؟! إن كان قد لفظه كياني فلاتركه دون عودة. ربما لأن الماضي هوية من لا هوية له! أو ربما لا هوية دون ماضي! لا أدري..
ثم رأيتها.
***
كل قصة..
..هي قصة مملة إلى أن تأتي هي.
وفي حكايتي هذه قد أتت. فقلبت حاضري دون المعنى إلى ماضي أزلي، قد وقع منذ بداية الدهر، فصرتُ كتابَ قدرٍ مُحقق أحداثه. وأصبح كل ما مررت وأمر وسأمر به مجرد حتميات .. وقوعها مسألة وقت ليس إلا.
رأيتُ الظل وأحببته، ثُم نظرتُ لصاحبته فازداد قلبي حبًا، ثُم بان تعلقي بالظل وتفاصيل صاحبته.
تراها تراني؟ أم هي كظلها لا ترى؟!
لم هي وكيف هي وماذا هي ومتي هي؟! كل سؤال هي معناه، مصدره، وإجابته.
لكنها رأتني! كيف علمتُ؟ لأن ظلها توقف أمامي مدهوشًا. أقول مدهوشًا وليس مرتعبًا. فهي لم تخشاني بل اقتربت مني فاقترب مني ظلها، مدت أناملها تتحس كياني المعلق على الجدران الباردة .. فلمستني ولم تفعل!
لم أشعر بشيء ويبدو أن ظلها شاركنا نفس انعدام الشعور. تراجعت فتراجع ظلها، ومكثا يحدقان في لدقائق. ثم انسحبا ورحلت.
***
انتظارًا..
انتظرتها. مر الزمن علي نحري ثلمًا، يفصل رأسي بأفكاره عن جسدي بتوجساته.
أقول لنفسي: ماذا عشقت؟ هي أم ظلها؟ فلا أدري ما الجواب. أحاصر نفسي بالأسئلة: كيف لظل أن يعشق جسدًا ليس له؟!
كيف السبيل إليها؟ آتتبعها كظل ثان مع ظلها؟ ولكن ذلك ليس وصالًا. فلا وصال دون صلة. وأية صلة تمكنني من احتضانك يا حبيبة؟!
هاهي قد أتت مجددًا متجاهلة إياي هذه المرة، فخفق كياني لمرآها، وخفقت بداخلي خاطرة. ودون أدني تردد، قفزت لامتزج بظلها، وبكل طاقاتي، حاكيت الظل في كل تفاعلاته مع حركاتها..كأننا واحد.
وعلى الجدران، امتزجنا في رقصة طويلة صامتة، رقصة لم يلحظها أو يشعر بها سواي.
ابتعدت عن الجدران فتفتت ظلها، وانفصل منه ظليلات صغيرة لترتسم على تفاصيلها وجسدها. فشرعتُ بالتفتت مثلما فعل، حلقت في سماء عالمنا و فجأة تفجر الألم داخلي..و..
اصطدم كياني بواقعه!
***
البرزخ..
..إذن هو حدود سمائي ومنتهاي.
أفكر بينما الألم يصدح ويشع من قمتي إلى أخمصي. أراقبها تبتعد وظلها ينحسر حتي يذوي.
محروم أنا. محروم من ملاطفة ظلها .. كما أنا محروم من رسم تفاصيلها..
يموج كياني بغضب وحسرة: لماذا أنا؟ وكيف؟! أكان علي ألا أموج على جسد ليس لي؟! ألهذا خُلق الظل خصيصًا لجسد واحد فقط؟! ألزم علي أن أعود للبحث عن الجسد الذي غادرته كي يعود لي معناي؟
ثُم ماذا عن جسدي؟ لماذا لم يبحث عني؟ ألا يشعر بي مثلما لا أشعر به؟ كأنني لستُ إلا شبحًا لميت؟!
أنا ميت؟!
أتراه يشعر بما أشعر؟ أم أنني مجرد ظل بالفعل، انعكاس داكن، على الهامش دون فائدة.
الاستسلام أفضل أم محاربة الطواحين؟!
يرتعد كياني بالتسائلات، بينما أطوف على الجدران لاهثًا أبحث عن جسدي الغائب أو جسد الحبيبة أو ظلها.. أي قشة تنتشلني من سجن الحوائط.
وسط لهاثي، وجدتها وظلها مجددًا.
وبكل طاقات الغضب والتساؤل داخلي، أندفع نحو البرزخ البرّاق، بينما أرى ظلها يتراجع انعكاسًا عما تأتي به من حركات مفزوعة لمرآي..
تلفحني نيران السخونة كأنني شهاب يعبر السماوات..
"ستكون أول تجربة لإرسال بشري خارج الأبعاد الأربعة المعروفة..أو ما نسميها نحن: الأبعاد البينية.."
اللظى يشتد، لكني أقاوم وأعلو..
"التجارب الأولية للسفر عبر الأبعاد غير جيدة في مجملها..والتجربة البشرية ستكون الفيصل.."
ويشتد..
"ليس أمامنا سواها .. ولا يمكننا ضمان نتائجها .. ولا يمكننا كذلك ضمان سلامتك الشخصية .. وهنا إقرار منك بذلك .. مع العلم بأن الأجر المادي لك في حالة نجاحها.. أو لزوجتك في حالة فشلها مجزي جدًا كما ينص العقد المبرم بيننا.."
ويشتد..
"هي مهمة انتحارية بكل تأكيد.."
أغلي وأتفسخ. وأضواء البرزخ تتضح من مكاني هذا. ألوان شفق خضراء وردية وأرجوانية .. غريبة!
الآن فهمت!
بالقطع لم يكن الظل ليجد جسده، مهما فعل؛ فقد كان –طوال الوقت- داخله، لم يغادره قط. لم يكن الظل سوى جسدًا، نسي أنه ذلك.
***
"حبيبي!"
كانت هي أول ما تفتحت عليه عيناي.
Published on January 13, 2020 05:18