عبد الله المطيري's Blog

April 16, 2023

سفربرلك: في الحاجة إلى تاريخ مختلف

 

سفربرلك: في الحاجة إلى تاريخ مختلف

عبدالله المطيري

أشاهد، كما يفعل كثيرون، مسلسل سفربرلك الذي يتطرق للفترة الأخيرة من حكم الدولة العثمانية في المدينة المنورة والشام وغيرها من المناطق. سفربرلك هنا تعني القرار السياسي الذي اتخذته السلطات العثمانية سنة ١٩١٤ بالتجنيد الإجباري لكل المسلمين للمشاركة في الحرب العالمية الأولى. ضمن هذه الأحداث حدث حصار المدينة الشهير وما ترتب عليه من ترحيل ومجاعات وكوارث إنسانية عصيّة على الحصر.  ما أود التساؤل عنه هنا هو سبب عدم تحوّل حكاية حصار المدينة وما ترتب عليه من كوارث إلى ذاكرة شعبية في السعودية؟ أقول أن هذه الحكاية لم تدخل الذاكرة الشعبية بالإشارة للحال التالي: كثير من الناس من جيلي أو ممن بعدهم لم يسمعوا عن هذه الأحداث إلا مؤخرا وكثير لم يسمع عنها أبدا ومن سمع عنها سمع بشكل عام لا تفصيلي. لا أتحدث هنا عن المؤرخين ولا ذوي الاهتمام الخاص بالتاريخ ولكن أتحدث عن المجموع العام من المواطنين. حتى أنني تواصلت مع بعض الأصدقاء من مناطق مختلفة من الحجاز للسؤال عن الذاكرة الشفوية التي نقلت تلك الأحداث ولم تكن الاستجابات تشير إلى حالة من الثقافة الشعبية المحفوظة والمتداولة. أعلم أن بحثي شخصي ومحدود ولكن الفكرة الأساسية هنا أن الأحداث الكبرى تصل بالعادة للذاكرة الشعبية بشكل مباشر من خلال الثقافة العامة وتمثلاتها في الآداب والتعليم والإعلام.  مؤخرا بدأنا في الدخول إلى هذه الحالة المختلفة بشكل بسيط من خلال أعمال أدبية عن أحداث سفربرلك والحصار وبعض المحاضرات التاريخية وهذا المسلسل الذي يمثل دخولا مهما للفن الجماهيري وهو عامل أساسي ومؤثر في التعاطي مع الذاكرة الشعبية. يصبح السؤال إذن مالذي حدث مؤخرا ليفتح مثل هذه النوافذ؟ بالتأكيد أن الأسباب متعددة ولكن أحد الأسباب الأساسية هو أن النافذة على التاريخ انفرجت بعد تراخي القبضة الأيديولوجية عليه. أقصد بالقبضة الأيديولوجية هنا رؤية غير تاريخية للتاريخ تدفعها مواقف انحياز دينية أو سياسية. ما تفعله مثل هذه القبضة الأيدويولجية هو أن تحجب الحدث الأول: الجوع والموت والرحيل القسري. الأسر التي مُزقت والذوات التي تم شحنها للمشاركة في حرب لا تعلم عنها شيئا. تغطي القبضة الأيديولوجية كل هذا لتبقي في المشهد ما تراه هي مهما فقط. في حالة سفربرلك كان المهم أن الدولة العثمانية كانت دولة الإسلام وأن الخروج عليها كان خروجا على الحاكم الشرعي وبالتالي انتقل الحديث لصراعات ثيولوجية تبتعد عما حدث مع كل جملة جديدة يُنطق بها.  هناك في المقابل تاريخ مختلف يتمثل في عودة لما حدث لا لتبريره أو لوضعه في سياق أعم بالضرورة ولكن للاقتراب أولا مما حدث. للخبرة الأولى، للناس والحيوانات والأشجار. للحدث الأول الذي يسبق الفهم والتفسير. لا يعني هذا بالضرورة أن هذا التاريخ لا علاقة له بالسياسة ولا بالأيديولوجيات فكل عمل تاريخ مرتبط بالضرورة بكل هذا ولكنه يعني أن هذا التاريخ سابق على كل هذا أو على الأقل أنه يدرك أنه لا يمكن استغراق ما حدث بالتأويلات الأيديولوجية. وبالتالي فهو يتجاوز أهداف الأيديولوجيات كذلك من خلال عمله على العودة للخبرات الأولى وللحكايات في حدوثها الأول قبل أن تكون مفهومة أو ذات دلالة واضحة. الوقع الأول الذي يسلب الوجود كما كان الناس يعرفونه ليفتح وجودا جديدا بلا ملامح. هنا يلتقي التاريخ بالفن والفلسفة والأدب. على مستوى التجربة الأولى التي تكشف الشرط الإنساني ومعضلة العيش.  هذه النافذة المختلفة على التاريخ ليست محصورة في المآسي الإنسانية الكبرى كحصار المدينة وسفربرلك ولكنها ممتدة للحياة على اتساعها المتجاوز للأطر الأيديولوجية. هنا يكون لدينا تاريخ الفنون والأزياء والكلمات والأطعمة والألوان والنكهات. تاريخ للسامري والدحّة والخطوة والقلطة والعرضة. تاريخ للكبسة والمنتو والهريس وقرص البرّ المدفون في الجمر. تاريخ للشماغ وعصبة الراس وسلالات الإبل. تاريخ للكلمات وللسيول والنباتات والعمران. تاريخ لأغاني البحارة والفلاّحين وتراتيل البدو الرحّل ودموع المتهجّدين. تاريخ للطرق القديمة وللسيارات وللعطور ولتسريحات الشعر ولموضات الشباب وزبرقات السيارات والسياكل. تاريخ للنخيل والسدر والرمث وللأودية والمياه التي حفرتها عبر القرون. تاريخ للعلاجات الشعبية، للسعوط والحلتين والمرّة. للكوي والأساطير الشعبية التي حملت معها آمال الشفاء. تاريخ لتهاويد الأطفال ونداءات الباعة. تاريخ لبلل السقّاء وليد الحطّاب ولأقدام الفلّاح وحسابات الدكاكين.  في كل هذا تتحقق الحياة السابقة على فلترة الأيديولوجيا. هنا تعيش الذاكرة الشعبية وما يدخل فيها من تصور الناس لذواتهم وحياتهم وعلاقتهم بالأرض والناس الذين سبقوهم عليها. نلاحظ انفراجات بسيطة في هذه النوافذ على التاريخ ويبدو أننا معها بحاجة إلى مساحة أوسع للدراسات التاريخية المنطلقة من تصورات واسعة للإنسان والحياة والوجود البشري. دراسات تتجاوز السرد الموجّه للأحداث السياسية إلى الحياة بمعناها الأوسع. لمثل هذا التاريخ أثر مهم في علاقة المجتمع بالطبيعة والتاريخ والأرض. هذه العلاقة التي يُراهن عليها في تقوية أواصر الانتماء والحب والعطاء كما أنها كفيلة بالعمل في الاتجاه المضادة لنزعات الانحيازات الذاتية والانغلاقات العنصرية والعصبية. في هذه المساحات من التاريخ مشترك إنساني جوهري يعوّل عليه كثيرا للترحيب بزوار هذه الأرض الجدد سواء من الزوّار أو من الأجيال الجديدة التي تولد كل يوم. من مهام كل جيل أن يرحّب بالقادمين الجدد وليس الترحيب إلّا أن تكون الذات صلة بين القادم الجديد وبين المكان بكل ما فيه من حكايات وتاريخ. 



 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 16, 2023 11:07

August 21, 2021

موت الفلسفة وسؤال الموت

 





موت الفلسفة وسؤال الموت
عبدالله المطيري أخبرني أحد الأصدقاء ونحن نتناول وجبة العشاء أن الفلسفة قد ماتت. لم يكن هذا هو التوقيت المناسب لنقل خبر الموت. ولكن يبدو أنه لم يعد خبرا يجهله أحد إلا أنا ربما. حقيقة لم أكن أعرف أن الفلسفة ماتت واستغربت كيف فاتت عليّ واقعة موتها. ولكن الموت عجيب ومذهل ولم يكن يوما موضوعا للمعرفة الإنسانية. كان الموت ولا يزال خارجيا يأتي من بعيد. قد يكون هنا شيء من العزاء يبرر شيئا من جهلي بموت الفلسفة. الآن كل شيء سيختلف، ربما. يبدو أن الوقت قد فات لتأبين الفلسفة فكلام الصديق يشير إلى أنها ماتت منذ عقود بعد أن قتلها العلم. الآن فقط أنتبه إلى أن الفلسفة ماتت مقتولة. يبدو من كلام الصديق أن ذلك القتل كان طبيعيا. أقصد أنه أمر يشبه التهام الأسد للغزال. الفلسفة الغزال التي ركضت طويلها ولكنها يبدو لم تعد تجد في الوجود متسعا لها. ركضت حتى اللحظة الأخيرة، ماتت وقلبها ينبض بأسرع ما يمكن. يبدو أنني بدأت فعلا في كتابة نعي للفلسفة ولكن هذا مبكر جدا. للتو فقط علمت أن الفلسفة ماتت ولا يجوز لي أن أكتب عنها مباشرة. الموت فراغ يقف بين الإنسان والكلام. يبدو أنني لم أعد أدرك معنى أن تموت الأشياء. هذه الفلسفة بين يدي كنت أعتقد كل هذه السنوات أنها حيّة فيني وأنا حيّ فيها. كنت أعتقد أنني أتنفسها وتتنفسني... هل نتنفس الموتى؟  ما هذا المكان الذي أنا فيه.. قاعة محاضرات الفلسفة.. هل هو بيت للتحنيط أم مقبرة ... قد يفسّر هذا الهدوء العميق في هذا المكان .. وربما يفسّر كذلك زيارة الناس في فترات محددة من الشهر.. يأتون لساعة أو ساعتين ثم يرحلون .. ربما هذا هو السبب كذلك لقلق شايع الوقيان ومغادرته السريعة للمكان فهو يخاف من الموت ولا يحب المقابر. ولكن ما معنى أن تموت الفلسفة؟ ربما معناه أن لم يعد هناك أحد يتفلسف. ولكن الناس يتفلسفون. رأيت عدد ليس بالقليل من الناس يتفلسفون. ربما أن الفلسفة لم تعد تلد الحقيقة وبالتالي فهي ميتة. لا أعتقد لو كان كذلك لقالوا أن الفلسفة أصبحت عقيمة. ليس على العقيم أن يموت. ربما أن المقصود أن الفلسفة لم تعد مرتبطة بالحياة الواقعية ولا فائدة منها. هذا موقف محزن فلماذا نعتقد أن الكائنات التي لا نرى لها فائدة ميتة أو يجب أن تموت. دعونا نتوقف للحظة. حين أخبرني صديقي أن الفلسفة ماتت لم تكن ملامحه تشير إلى حالة من الحزن بقدر ما كانت تشير إلى شيء من الحرج مني فقط. هل كان يخبرني أنني ميت كذلك؟ أو على الأقل أن اهتمامي بالفلسفة اهتمام بكائن ميت؟ الاهتمام بالموتى عمل عظيم. قلة من الناس يستطيعون إليه سبيلا. غالبنا يتعامل مع الموتى عن بعد رغم أنهم يعيشون معنا بطريقة أخرى. بل يمكنني القول أن بعض الموتى يحضرون أكثر بعد موتهم. حين يخفّ حضورهم المباشر يحضرون كغياب. صدقوني ليس هناك ما يوازي تأثير حضور الغياب.  هذا ملفت جدا فالواقع أن الفلسفة كانت غائبة دائما. الفلسفة دائما هناك كأمنية وكحلم وشغف يمشي أمامنا ولا نستطيع أن نتقدم عليه. الفلسفة لكي لا يغضب علينا صديقي هي الميت الذي يقيم في المستقبل ربما. إذا كانت الفلسفة قد ماتت، فأين قبرها؟ كأنني أسمع صوت صديقي وهو ينادي من مكان بعيد: الكتب. الكتب هي مقابر الفلسفة. عدد كبير من القبور حولي الآن. ولكن أليست كل الكتب قبور؟ الحقيقة أنه كان في يد صاحبي تلك الليلة كتاب قديم أو قبر قديم. هل للقبور تاريخ؟ هل يموت القبر؟ علاقة الناس بالقبور وربما بالكتب مدهشة. حين تشارف أرواحنا على الفراغ نلجأ للقبور والكتب. حين نزور الكتب ونقرأ القبور نتحلى بكثير من الأدب والتواضع. حتى أصواتنا تصبح أكثر رحمة. في حضرة القبور والكتب، نهدأ ونستكين وكأننا في حضرة سموّ ما. سموّ الغياب الذي يحضر في كل شيء.  الآن فقط تذكرت... كان خالد الحسن يخبرني باستمرار أن الفلسفة ماتت. قالها بطرق مختلفة. كان متألما على خلاف صديقي الأول. كنت فقط أناديه ليجلس بجانبي. كنت أطلب منه شيء من الوقت في حضرة الموت. كأنني أقول أن موت الفلسفة لن يغيّر من الأمر شيئا. فالفلسفة لم تكن واقعا حيّا في يوم من الأيام. لا يزال أفلاطون يمشي أمامنا في كثير من القضايا رغم أنه قد مات منذ ألفين وأربعمئة سنة.  الآن فقط تذكرت أن الفلسفة في جوهرها عزاء. هل تذكرون كتاب عزاءات الفلسفة؟ إذا كانت الفلسفة هي من تعطينا العزاء فمن الميّت هنا ومن الحيّ؟ من أين يأتينا العزاء؟ في العزاء نقترب من الموتى ونفكّر فيهم أكثر. هم العزاء وهم الموتى. في الفلسفة عزاء لأنها دائما صوت آخر، صوت مختلف. صوت لنا غاب عنّا. ليس في العزاء تعويض بل هو إعادة اتصال بالفقد. الفلسفة العزاء اتصال جديد وربما ولادة جديدة مع الفقد، مع الزمن ومع الغياب ومع الحضور.  حين أخبرنا الصديق عن موت الفلسفة كان يزيد بدر معنا. لم يكن يزيد متفاجئ أيضا. كان يضحك فهل تصالح مع الموت أم أن الموت أصبح يضحكه؟ ربما كان يزيد يضحك علينا لا على موت الفلسفة. أذكر أننا بدأنا نخطط لشراء سيارة نقل الموتى لنقل ضيوف الفلسفة عليها. يتطلب الأمر كذلك زيّا موحدا يتناسب مع الموت. عاشت الفلسفة رعيان شبابها في اليونان وبالتالي فلا بد أن تكون طقوس عزائها مستوحاة من هناك. أحدنا يكون الحانوتي والآخر يقود السيارة. سيكون عملا هادئا فلا ضجيج في مشاهد الغسل والتكفين. هل يستمع ناقلوا الموتى للموسيقى في طريقهم للمقبرة؟ لا أعلم. ربما يستمعون للصمت في خشوع وربما يتحدثون قليلا عن الميّت ثم يعودون لحياتهم الطبيعية. الحياة الطبيعية هنا ليست خلوا من الموت ولكنها جوار له.  أعلن ستيفن هوكنج أن الفلسفة ميتة في الصفحة الأولى من كتابه التصميم العظيم. ما معنى أن يكون خبر الموت في الصفحة الأولى؟ لا بد أن يكون هو الحدث الأهم في الحكاية. بعد ان استعرض هوكنج عددا من الأسئلة الجوهرية عن الكون والحياة قال أن هذه الأسئلة كانت مهمة الفلسفة ولكن الفلسفة ميتة. لا يقول هوكنج أن الفلسفة ماتت بل يقول أنها ميتة أصلا. لماذا؟ "لأن الفلاسفة لم يتابعوا التطورات الحديثة في العلم خصوصا الفيزياء. العلماء هم من يحملون شعلة الاكتشافات في رحلتنا الحالية من أجل المعرفة" . الفلاسفة هم من قتلوا الفلسفة وليس العلماء كما يثول صحابي. والعلماء هم الفلاسفة الجدد، هم ورثة الفلسفة. هل هذا يعني أن الفلسفة ستعود للحياة؟  توفي هوكنج قبل ثلاث سنوات تقريبا ولا أعلم من قرأ  كتابه هذا أكثر الفيزيائيون أم الفلاسة؟ وهل هو علم أم فلسفة؟ لا يبدو لي أن قضية موت الفلسفة هي قضية مع الفلسفة بقدر ما هي قضية مع الموت. ربما أنها تستدعي مراجعة علاقتنا مع الموت أكثر من استدعاء علاقتنا مع الفلسفة. ماذا يعني أن يموت شيء ما؟ ماذا يعني أن يغيب بدون أن نترقّب عودته؟ هل يفتح هذا الحال فرصة للقاء مختلف؟ هذه المرة بلا عبئ التوقعات. 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 21, 2021 05:54

March 24, 2021

عابر السبيل ووجه الأرض

 عابر السبيل ووجه الأرض

عبدالله المطيري

 

تتعاطف الثقافات مع عابر السبيل وتحنّ عليه. فكما تكون الأرض بسيطة له، تبسط له الثقافات أيديها. عابر السبيل غريب على وجه الأرض رغم أنه أكثر الناس اتصالا بوجهها. عابر السبيل في حالة من الوجود المفتوح، وجود بلا بيت. البيوت أغطية عن انفتاح الوجود وقلق المغامرة. البيت استراحة من السفر على وجه الأرض  لذا من يسافرون في بيوتهم لا بيوت لهم. البيت بقاء واستقرار ومد للجذور. في السفر، وعابر السبيل يعرف ذلك جيدا، تضيق المسافة بين السلام والوداع وبين اللقاء والفراق. حينها يصبح الوجود بلا تاريخ إلا تاريخ الأرض. 

السبيل واحد وله عابرون كثر. لن تكون إلا عابرا للسبيل. عابرٌ للسبيل بلا هوية إضافية. لا حاجة لوصف آخر غير وصف العبور. عابر السبيل كالوليد الجديد الذي لا أرض له إلا كلّ الأرض. عابر السبيل في حالة بين الضحك والبكاء، بين السكون والارتجاف. أن تغلق بابك أمام عابر سبيل يعني أن تغلق بابك أمام طفل صغير. عابر السبيل بلا جذور وبالتالي بلا عنف. العنف رفض للحركة واحتكار للمكان. عابر السبيل يصافح المكان وفي كفه عبارات الوداع. أن تفتح بابك لعابر السبيل يعني أن تتوقف الأبواب عن الوجود ويصبح وجودك سبيلا للعبور. 

تتشابه وجوه عابري السبيل كما تتشابه وجوه الأطفال حديثي الولادة. وجوه بلا تاريخ. أدرك كانت أن الضيافة استجابة لحق الحركة على وجه البسيطة. أي أن الضيافة استجابة لعابري السبيل تحديدا. لأولئك الذين نرى فيهم بساطة الأرض وأن الحركة حقيقة وأن الولادة والموت ليست سوى خطوات. لذا فالضيافة ليست سوى عودة أخرى لرعاية الأطفال الصغار. عودة للأمومة وحين يكون الرجل أما فهو يولد من جديد، كأم هذه المرة. الضيافة حدث جديد على الذكور حين يحرمهم عالم الوحدة من أمومتهم. وكما أنه لا شيء يبهج الأم مثل سعادة طفلها فإنه لا شيء يبهج المضيف مثل سعادة ضيفه. الطفل الذي لا يستجيب للرعاية يربك الأم ويحيلها إلى سؤال. يجعلها في حالة من الفراغ والعدم، حالة من الفشل والتلاشي. الضيف الذي لا يتيح ذاته للرعاية يوقف التناغم الذي تحدثه الضيافة في العالم. الضيافة في الأخير ليست سوى إعداد مهدٍ لعابر السبيل. مهدٌ في سبيله. لذا فالضيافة عون على السفر والرحيل ولذا يُثقل عليها البقاء. حين لا ينام الوليد في المهد الذي صنعناه، وحين لا يبتهج الضيف في المكان الذي أعددناه، حينها يرتد علينا الباب الذي حاولنا فتحه.

قد نشكوا من الأطفال الصغار ولكننا لا نعاتبهم. وقد نشكوا من الضيوف ولكننا لا نعاتبهم. من يعاتب عابري السبيل؟ حين لا ينعم الطفل برعاية أمه ترتد عليها الشكوك في أعمق أعماقها: هل أنا أم؟ لأنه لا معنى للأمومة بدون أن يسكن الوليد في حضنك، أن يدفأ ويلعب وينام. وحين يفشل المضيف في رعاية ضيفه ترتد عليه الشكوك في أعمق أعماقه: هل أنا مضياف؟ لأنه لا معنى للضيافة بدون أن ينعم الضيف في بيتك. الضيف الذي يأكل ويشرب ويتحدث نعمة من نعم الوجود. والضيف الصامت الصائم يدفعنا للدعاء ويجعل البيت معبدا. وحين تعجز الأم عن الرعاية تصلّي.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 24, 2021 04:01

November 15, 2020

الآخرية في أسمائنا

 الآخرية في أسمائنا 

 

عبدالله المطيري

 

بالعادة تولد أسماؤنا قبلنا. أو على الأقل تحضر لهذا العالم قبل حضورنا. قبل الولادة يتداول أهلنا قائمة بالأسماء المحتملة وأحيانا يتم هذا الأمر بنشر تصويت مفتوح على منصات التواصل الاجتماعي. أحيانا أخرى تتم تسميتنا قبل أن تحمل بنا أمهاتنا ، فهناك عادات تُلصق اسم الابن بالشخص حتى قبل أن يتزوج. على كل حال فإن أسماؤنا هي تسمية الآخر لنا. أسماؤنا الخاصة ليست سوى فعل الآخر تجاهنا. نحن نكتشف أنفسنا في حال المنادى، المدعو. هناك دائما دعوة سابقة ونداء سابق على كل استجاباتنا. الآخر هناك، قبلنا. اسماؤنا ضيوف سابقون وهدايا قدمت لنا ربما قبل أن نوجد.

الآخرية، بهذا، تسكن في أسمائنا وهذا ما يجعل بيننا وبين أسماؤنا اتصال وانفصال. اتصال باعتبار أن الاسم الشخصي يصبح تمظهرا من تمظهرات الهوية الشخصية وعلامة على حضور الذات في العالم. لكن هناك كذلك انفصال بين الذات واسمها باعتبار الآخرية الساكنة في لبّ الاسم كما تقدّم. في هذه الوجود بين الاتصال والانفصال تتم لعبة الوجود في العالم وهي لعبة تتأرجح بين الحضور والغياب والفعل والاستقبال والمباشرة والاستجابة. 

المساحة بيننا وبين أسامينا، مساحة الآخرية، تؤسس لحالة من التحرر من أسامينا. في الأخير فإن اسمي هو ما اختاره ذلك الآخر لي ولست بالضرورة مجبرا على التعلق به أكثر من ذلك حتى ولو بقي اسمي. حين لا يعجبني اسمي مثلا فإنني يمكن أن أعلّق المسؤولية على من سمّاني وأمضي. وحين يكون اسمي محمّلا بمعنى أو دلالة ما لا أوافق عليها فإن ذات الاسم يحمل عدم مسؤوليتي عما فيه من معنى. باختصار الاسم في ذاته وبذاته يعني أنني غير مسؤول عن اسمي. ومن هنا نفهم الإحالة الشهير للعين باعتبارها الاسم الحقيقي كما في قصيدة أسامينا لجوزيف حرب والتي غنتها فيروز. ليس بين الانسان وبين عينه انفصال ولكن الانفصال كامن في لب علاقة الذات باسمها. لذا لا حرية من العين ولكن الحرية متحققة من الاسم. 

ولكن مالذي يحدث حين يسمّي الإنسان نفسه؟ هذه العملية أصبحت ممكنة الآن ضمن إجراءات رسمية غير اجتماعية. أعني أن بإمكان الفرد اليوم الذهاب للجهات المختصة وطلب تغيير اسمه. الجهات المعنية لديها اشتراطات معينة ولكنها ليست معنية بالعلاقة الاجتماعية الناتجة عن التسمية. الآن تصبح المعادلة أن يسمي الإنسان نفسه ثم يطلب من الآخرين الالتزام بهذه التسمية. الآن، الذات تسبق اسمها. هنا تزيح الذات الآخرَ لتتولى مهمة التسمية. هنا توجد الذات قبل اسمها. يحل الاسم الجديد ضيفا على تاريخ من الذاتية. لهذا الاسم الجديد غرابة فهو يحلّ على ذات أقدم منه. هنا اسم بلا آخر، اسم بلا مرآة. اسم بلا منادٍ أول. اسم بلا استجابة، بل هو نداء يعكس العلاقة. هنا نحن أمام مشهد "هذا اسمي" بدلا من المشهد المعتاد "هذا اسمك". 

مع الحالة الجديدة تختفي حالة الانفصال السابقة بين الذات واسمها. ذلك أنه مع تسمية الانسان لنفسه لم يعد هناك آخر يفصل بينه وبين اسمه. هنا يصبح الاسم هوية بعد أن كان علامة أو إشارة. هنا يصبح الاسم فعلا من الذات تجاه ذاتها ولم يعد تلبية لنداء سابق. اسأل هنا ماذا لو تغيّر موقف الذات من الاسم الذي اختارته؟ مالذي سيحميه منها الآن حيث لا آخر بينهما؟ هنا يبدو أن الذات ستدخل في مواجهة مع ذاتها حول الاسم، مواجهة قاسية ربما. هل سيغيّر الانسان اسمه من جديد وبهذا يفقد الاسم قيمته في الإشارة والدلالة؟ أم أنه سيدخل حالة من الاغتراب بينه وبين اسمه؟ أم أنه سيتقبله ليس باعتباره اسمه الذي اختاره بل باعتباره الاسم الذي اصبح متداولا اجتماعيا؟ أي باعتباره اسم الآخر من جديد؟ 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 15, 2020 19:09

 الآخرية في أسمائنا  عبدالله المطيري بالعادة تولد أسماؤنا...

 الآخرية في أسمائنا 

 

عبدالله المطيري

 

بالعادة تولد أسماؤنا قبلنا. أو على الأقل تحضر لهذا العالم قبل حضورنا. قبل الولادة يتداول أهلنا قائمة بالأسماء المحتملة وأحيانا يتم هذا الأمر بنشر تصويت مفتوح على منصات التواصل الاجتماعي. أحيانا أخرى تتم تسميتنا قبل أن تحمل بنا أمهاتنا ، فهناك عادات تُلصق اسم الابن بالشخص حتى قبل أن يتزوج. على كل حال فإن أسماؤنا هي تسمية الآخر لنا. أسماؤنا الخاصة ليست سوى فعل الآخر تجاهنا. نحن نكتشف أنفسنا في حال المنادى، المدعو. هناك دائما دعوة سابقة ونداء سابق على كل استجاباتنا. الآخر هناك، قبلنا. اسماؤنا ضيوف سابقون وهدايا قدمت لنا ربما قبل أن نوجد.

الآخرية، بهذا، تسكن في أسمائنا وهذا ما يجعل بيننا وبين أسماؤنا اتصال وانفصال. اتصال باعتبار أن الاسم الشخصي يصبح تمظهرا من تمظهرات الهوية الشخصية وعلامة على حضور الذات في العالم. لكن هناك كذلك انفصال بين الذات واسمها باعتبار الآخرية الساكنة في لبّ الاسم كما تقدّم. في هذه الوجود بين الاتصال والانفصال تتم لعبة الوجود في العالم وهي لعبة تتأرجح بين الحضور والغياب والفعل والاستقبال والمباشرة والاستجابة. 

المساحة بيننا وبين أسامينا، مساحة الآخرية، تؤسس لحالة من التحرر من أسامينا. في الأخير فإن اسمي هو ما اختاره ذلك الآخر لي ولست بالضرورة مجبرا على التعلق به أكثر من ذلك حتى ولو بقي اسمي. حين لا يعجبني اسمي مثلا فإنني يمكن أن أعلّق المسؤولية على من سمّاني وأمضي. وحين يكون اسمي محمّلا بمعنى أو دلالة ما لا أوافق عليها فإن ذات الاسم يحمل عدم مسؤوليتي عما فيه من معنى. باختصار الاسم في ذاته وبذاته يعني أنني غير مسؤول عن اسمي. ومن هنا نفهم الإحالة الشهير للعين باعتبارها الاسم الحقيقي كما في قصيدة أسامينا لجوزيف حرب والتي غنتها فيروز. ليس بين الانسان وبين عينه انفصال ولكن الانفصال كامن في لب علاقة الذات باسمها. لذا لا حرية من العين ولكن الحرية متحققة من الاسم. 

ولكن مالذي يحدث حين يسمّي الإنسان نفسه؟ هذه العملية أصبحت ممكنة الآن ضمن إجراءات رسمية غير اجتماعية. أعني أن بإمكان الفرد اليوم الذهاب للجهات المختصة وطلب تغيير اسمه. الجهات المعنية لديها اشتراطات معينة ولكنها ليست معنية بالعلاقة الاجتماعية الناتجة عن التسمية. الآن تصبح المعادلة أن يسمي الإنسان نفسه ثم يطلب من الآخرين الالتزام بهذه التسمية. الآن، الذات تسبق اسمها. هنا تزيح الذات الآخرَ لتتولى مهمة التسمية. هنا توجد الذات قبل اسمها. يحل الاسم الجديد ضيفا على تاريخ من الذاتية. لهذا الاسم الجديد غرابة فهو يحلّ على ذات أقدم منه. هنا اسم بلا آخر، اسم بلا مرآة. اسم بلا منادٍ أول. اسم بلا استجابة، بل هو نداء يعكس العلاقة. هنا نحن أمام مشهد "هذا اسمي" بدلا من المشهد المعتاد "هذا اسمك". 

مع الحالة الجديدة تختفي حالة الانفصال السابقة بين الذات واسمها. ذلك أنه مع تسمية الانسان لنفسه لم يعد هناك آخر يفصل بينه وبين اسمه. هنا يصبح الاسم هوية بعد أن كان علامة أو إشارة. هنا يصبح الاسم فعلا من الذات تجاه ذاتها ولم يعد تلبية لنداء سابق. اسأل هنا ماذا لو تغيّر موقف الذات من الاسم الذي اختارته؟ مالذي سيحميه منها الآن حيث لا آخر بينهما؟ هنا يبدو أن الذات ستدخل في مواجهة مع ذاتها حول الاسم، مواجهة قاسية ربما. هل سيغيّر الانسان اسمه من جديد وبهذا يفقد الاسم قيمته في الإشارة والدلالة؟ أم أنه سيدخل حالة من الاغتراب بينه وبين اسمه؟ أم أنه سيتقبله ليس باعتباره اسمه الذي اختاره بل باعتباره الاسم الذي اصبح متداولا اجتماعيا؟ أي باعتباره اسم الآخر من جديد؟ 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 15, 2020 19:09

 الآخرية في أسمائنا  عبدالله المطيري ...

 الآخرية في أسمائنا 

 

عبدالله المطيري

 

بالعادة تولد أسماؤنا قبلنا. أو على الأقل تحضر لهذا العالم قبل حضورنا. قبل الولادة يتداول أهلنا قائمة بالأسماء المحتملة وأحيانا يتم هذا الأمر بنشر تصويت مفتوح على منصات التواصل الاجتماعي. أحيانا أخرى تتم تسميتنا قبل أن تحمل بنا أمهاتنا ، فهناك عادات تُلصق اسم الابن بالشخص حتى قبل أن يتزوج. على كل حال فإن أسماؤنا هي تسمية الآخر لنا. أسماؤنا الخاصة ليست سوى فعل الآخر تجاهنا. نحن نكتشف أنفسنا في حال المنادى، المدعو. هناك دائما دعوة سابقة ونداء سابق على كل استجاباتنا. الآخر هناك، قبلنا. اسماؤنا ضيوف سابقون وهدايا قدمت لنا ربما قبل أن نوجد.

الآخرية، بهذا، تسكن في أسمائنا وهذا ما يجعل بيننا وبين أسماؤنا اتصال وانفصال. اتصال باعتبار أن الاسم الشخصي يصبح تمظهرا من تمظهرات الهوية الشخصية وعلامة على حضور الذات في العالم. لكن هناك كذلك انفصال بين الذات واسمها باعتبار الآخرية الساكنة في لبّ الاسم كما تقدّم. في هذه الوجود بين الاتصال والانفصال تتم لعبة الوجود في العالم وهي لعبة تتأرجح بين الحضور والغياب والفعل والاستقبال والمباشرة والاستجابة. 

المساحة بيننا وبين أسامينا، مساحة الآخرية، تؤسس لحالة من التحرر من أسامينا. في الأخير فإن اسمي هو ما اختاره ذلك الآخر لي ولست بالضرورة مجبرا على التعلق به أكثر من ذلك حتى ولو بقي اسمي. حين لا يعجبني اسمي مثلا فإنني يمكن أن أعلّق المسؤولية على من سمّاني وأمضي. وحين يكون اسمي محمّلا بمعنى أو دلالة ما لا أوافق عليها فإن ذات الاسم يحمل عدم مسؤوليتي عما فيه من معنى. باختصار الاسم في ذاته وبذاته يعني أنني غير مسؤول عن اسمي. ومن هنا نفهم الإحالة الشهير للعين باعتبارها الاسم الحقيقي كما في قصيدة أسامينا لجوزيف حرب والتي غنتها فيروز. ليس بين الانسان وبين عينه انفصال ولكن الانفصال كامن في لب علاقة الذات باسمها. لذا لا حرية من العين ولكن الحرية متحققة من الاسم. 

ولكن مالذي يحدث حين يسمّي الإنسان نفسه؟ هذه العملية أصبحت ممكنة الآن ضمن إجراءات رسمية غير اجتماعية. أعني أن بإمكان الفرد اليوم الذهاب للجهات المختصة وطلب تغيير اسمه. الجهات المعنية لديها اشتراطات معينة ولكنها ليست معنية بالعلاقة الاجتماعية الناتجة عن التسمية. الآن تصبح المعادلة أن يسمي الإنسان نفسه ثم يطلب من الآخرين الالتزام بهذه التسمية. الآن، الذات تسبق اسمها. هنا تزيح الذات الآخرَ لتتولى مهمة التسمية. هنا توجد الذات قبل اسمها. يحل الاسم الجديد ضيفا على تاريخ من الذاتية. لهذا الاسم الجديد غرابة فهو يحلّ على ذات أقدم منه. هنا اسم بلا آخر، اسم بلا مرآة. اسم بلا منادٍ أول. اسم بلا استجابة، بل هو نداء يعكس العلاقة. هنا نحن أمام مشهد "هذا اسمي" بدلا من المشهد المعتاد "هذا اسمك". 

مع الحالة الجديدة تختفي حالة الانفصال السابقة بين الذات واسمها. ذلك أنه مع تسمية الانسان لنفسه لم يعد هناك آخر يفصل بينه وبين اسمه. هنا يصبح الاسم هوية بعد أن كان علامة أو إشارة. هنا يصبح الاسم فعلا من الذات تجاه ذاتها ولم يعد تلبية لنداء سابق. اسأل هنا ماذا لو تغيّر موقف الذات من الاسم الذي اختارته؟ مالذي سيحميه منها الآن حيث لا آخر بينهما؟ هنا يبدو أن الذات ستدخل في مواجهة مع ذاتها حول الاسم، مواجهة قاسية ربما. هل سيغيّر الانسان اسمه من جديد وبهذا يفقد الاسم قيمته في الإشارة والدلالة؟ أم أنه سيدخل حالة من الاغتراب بينه وبين اسمه؟ أم أنه سيتقبله ليس باعتباره اسمه الذي اختاره بل باعتباره الاسم الذي اصبح متداولا اجتماعيا؟ أي باعتباره اسم الآخر من جديد؟ 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 15, 2020 19:09

May 28, 2020

نموذج لفعل الشك .. ابن تنباك وقصة الوأد عبدالله المطيري* ...



نموذج لفعل الشك .. ابن تنباك وقصة الوأد 
عبدالله المطيري* جريدة الوطن 
العدد: 1762 التاريخ: 27/07/2005 الصفحة: 20 القسم: الرأي

يولد الإنسان محاطا بكثير من المقولات والأفكار الراسخة والمستقرة في أذهان الأفراد وفي الذهن الجمعي للجماعة. لا يخلو تجمع بشري من هذا الأمر. الغالب على البشر أن ينخرطوا في عملية التداول لهذه الأفكار والمقولات والقصص والحكايات بوصفها حقائق لا تحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة وفحص بحكم أن مصادرها موثوقة لديهم ولأنها لم تعرض لهم إلا على شكل حقائق وفي الغالب تكون داعمة نفسيا وشعوريا للجماعة. إلا أن القلة من الناس هم من يخرجون عن هذه القاعدة ويشذون من خلال عمل الشك الذي يدعوهم إلى التوقف عن السير مع القطيع والتنحي جانبا للشعور بالفردية و استعادة الذات من الجماعة ومن ثم إعادة التفكير والنظر في قضايا يختلف الأفراد في الشجاعة لمواجهتها فمنهم من يصل بحدود مراجعاته إلى كل شيء تقريبا ومنهم من يتوقف عند قضايا معينة لا يتجاوزها.
 
من أبرز الأعمال التي تندرج ضمن هذا الإطار أي ممارسة الشك فيما قد استقر في الأذهان والتخلص من هالة القدم والرسوخ كتاب الدكتور مرزوق بن تنباك الأستاذ بجامعة الملك سعود بالرياض" الوأد عند العرب بين الحقيقة والخيال " يقول الدكتور مرزوق بن تنباك في مقدمة الكتاب " ... كنت أبحث عن أسباب الوأد عند العرب، ولماذا وأدوا بناتهم، ولماذا اختاروا الدفن لهن وهن أحياء، ولماذا لم يقتلوهن بطريقة غير الدفن. كانت هذه هي الأسئلة التي أردت البحث عنها بادئ ذي بدء ولم يخالجني شك في صحة رواية الوأد وحقيقتها معتمدا على ما دار في التراث العربي من روايات ترددها المصادر التي جعلت حدوثها أشبه بمسلمة لا تقبل الجدل. ولكن عندما بدأت أجمع الروايات والنصوص والآثار التي تحدثت عن القضية بكاملها من مصادرها الأساسية، بدأت تظهر في أسانيد الروايات ومضامينها كثير من الملاحظات التي لفتت النظر وبدأ الشك يراودني حول صحة ما جاء في الأقوال التي سجلت بداية الوأد...". نلاحظ هنا أن الباحث قد انطلق في البحث على اعتبار أن رواية الوأد من المسلمات التي لا تحتاج إلى مزيد من بحث وتحر بل لا تحتمل تشكيكا ولا نقدا. ولكن الباحث لا يلبث مع البحث والتدقيق أن يتسلل الشك إلى عقله وتبدأ المسلمة تفقد قيمتها شيئا فشيئا . وهنا نتساءل هل الدكتور مرزوق هو أول من بحث هذه القضية؟. بالتأكيد إنه ليس الأول ولكن الفرق هو أن الجماهير من الباحثين السابقين وقعوا في أحبولة المسلمة فحجبت عنهم تلك الثغرات والفجوات في أسانيد وروايات القصة وظروفها التي أنتجتها حتى جعلتها في عداد المسلمات. بينما تحرر الدكتور مرزوق من هذا الأمر وراح يبحث القضية على ضوء منهج لا يعبأ كثيرا بما سلّم به بل بما تثبته الوقائع والأحداث وبما يتسق مع العقل والمنطق. هذه المواجهة مع المسلمات ليست مضمونة العواقب ولكنها شديدة الوقع ومحفوفة بالمخاطر. وقد جس الدكتور مرزوق نبض المستمعين في محاضرة قريبة من الموضوع ألقاها في أحدية الدكتور راشد المبارك ولاحظ ردة الفعل العنيفة مع أن المستمعين كانوا مما يمكن تسميته افتراضا طبقة المثقفين فما بالك بالفرد العادي.
المواجهة الحقيقية للباحث في هذه القضية، كما يتبادر للذهن ، هي مع النص القرآني، فقد وردت آية (وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت) في القرآن وأصبح من المسلم به أن الموؤودة هي البنت الصغيرة التي كان العرب يقتلونها خشية الفقر و العار. إلا أن الباحث يؤجل الحديث عن الآية و يبدأ بمناقشة الجانب التاريخي للروايات التي ورد فيها ذكر الوأد.
في البداية يورد الباحث روايات الوأد كما نقلتها المصادر العربية والإسلامية ثم يبدأ في مناقشتها وكشف الثغرات الموجودة فيها. معتمدا على مدى معقولية هذه الروايات فحين تذكر الروايات أن قيس بن عاصم أحد سادات تميم هو أول من وأد. وأنه قد بدأ بوأد بنته التي رفضت العودة إلى زوجها بعد سبيها واختارت البقاء مع من سباها مع أن قيسا قد أدرك الإسلام ومات في البصرة سنة سبع وأربعين للهجرة ولم يذكر أنه من المعمرين مما يعني أنه من غير الممكن أن يئد أكثر من ثماني بنات، كما ورد في الروايات، لأن عمره قبل الإسلام لا يتسع لذلك. كما أن قيسا عرف بمكانته عند قومه وحكمته وحلمه وورد أنه حرم الخمر قبل الإسلام مما يجعل إقدامه على الوأد غير متفق مع هذه الخصال الإنسانية الراقية كما أن أعداء قيس وهم أشداء لم يستغلوا هذه الحادثة في هجائه رغم أنهم لا يتورعون عن ذكر أي منقصة فيه مما يعني أن قصة الوأد مختلقة عليه. كما أنه من المستبعد أن يبدأ فرد واحد عملاً تشمئز منه النفوس وينتشر بين الناس بهذا الشكل السريع مما يصورهم كوحوش متعطشة للدماء. ويورد الباحث على تلك الروايات سبعة طعون أخرى. ثم يعود لنقائض جرير والفرزدق ليلاحظ أن الفرزدق قد ادعى أن جده صعصعة بن ناجية أول من أحيا الموؤودات بقوله :
ومنا الذي منع الوائدات و أحيا الوئيد فلم يوأد
وكان من المدهش أن جرير لم يتعرض لهذه القضية في ردوده على الفرزدق رغم أنه لم يدع أمرا حقا كان أم باطلا لينتقص به الفرزدق إلا ذكره إلا هذا الأمر. ولتفسير صمت جرير عن هذا الادعاء يفترض الباحث عدة افتراضات فإما أن يكون الفرزدق قد اختلق هذه القصة ولكنها لم تشع وتنتشر حتى تصل إلى جرير أو أن النحاة والمفسرين قد نحلوا هذا الشعر ليفسروا به آية الوأد. بعد ذلك يرى الدكتور مرزوق أن الخيال الشعبي قد بنى على روايات الوأد حكايات وأساطير خرافية مما ساهم في رسوخها في الأذهان أكثر وأكثر.
بعد ذلك ينتقل الباحث إلى آيات القرآن التي ورد فيها النهي عن قتل الولد ويذكر أنه لا موجب لتخصيص الولد بالأنثى لأن لفظة الولد تدل على الذكر والأنثى وقد وردت لتحريم هذا الأمر ولا يعني ذلك وجوده فعليا من مثل قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ...) ولا أحد يقول إن العرب كانت تستحل ذلك قبل الإسلام. ولكن آية (وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت) تتحدث بصيغة التأنيث مما يجعل الأذهان تنصرف إلى أن المقصود هو البنت التي يدفنها أهلها وهي حيّة. بينما يرى الدكتور مرزوق أن المقصود بالموؤودة في الآية هي النفس البشرية التي تولد من علاقة غير شرعية ويتم التخلص من العار بقتلها والتخلص منها وهذا أمر موجود في كل الحضارات ولا يزال وإن تغيرت الطريقة بحيث أصبح يوضع المولود غير الشرعي ذكرا كان أو أنثى عند باب مسجد أو في مكان عام. والآية تندد بهذا العمل لأن هذه النفس المولودة لم تجن ذنباً تستحق عليه العقوبة وبالتالي فإن الآية لا تدل على وأد البنت خشية الفقر أو العار مما يعني أن الاستدلال بهذه الآية على وأد البنات هو حرف لها عن معناها الظاهر والذي لا يجب العدول عنه إلا بموجب لذلك.

لا شك أن هذا العرض لا يقدم صورة مكتملة ولا حتى واضحة عن تلك المحاجة التاريخية والعقلية التي ساقها الباحث في هذا الكتاب ولكن مقصود هذا المقال هو التعرّض لفلسفة الكتاب المنطلقة من لحظة الشك المنهجية التي تزيح عن عقل الباحث تلك الغشاوة المتلبسة بملبس المسلمة والبديهية والمبدأ. 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 28, 2020 07:08

نموذج لفعل الشك .. ابن تنباك وقصة الوأد عبدالله المط...



نموذج لفعل الشك .. ابن تنباك وقصة الوأد 
عبدالله المطيري* جريدة الوطن 
العدد: 1762 التاريخ: 27/07/2005 الصفحة: 20 القسم: الرأي

يولد الإنسان محاطا بكثير من المقولات والأفكار الراسخة والمستقرة في أذهان الأفراد وفي الذهن الجمعي للجماعة. لا يخلو تجمع بشري من هذا الأمر. الغالب على البشر أن ينخرطوا في عملية التداول لهذه الأفكار والمقولات والقصص والحكايات بوصفها حقائق لا تحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة وفحص بحكم أن مصادرها موثوقة لديهم ولأنها لم تعرض لهم إلا على شكل حقائق وفي الغالب تكون داعمة نفسيا وشعوريا للجماعة. إلا أن القلة من الناس هم من يخرجون عن هذه القاعدة ويشذون من خلال عمل الشك الذي يدعوهم إلى التوقف عن السير مع القطيع والتنحي جانبا للشعور بالفردية و استعادة الذات من الجماعة ومن ثم إعادة التفكير والنظر في قضايا يختلف الأفراد في الشجاعة لمواجهتها فمنهم من يصل بحدود مراجعاته إلى كل شيء تقريبا ومنهم من يتوقف عند قضايا معينة لا يتجاوزها.
 
من أبرز الأعمال التي تندرج ضمن هذا الإطار أي ممارسة الشك فيما قد استقر في الأذهان والتخلص من هالة القدم والرسوخ كتاب الدكتور مرزوق بن تنباك الأستاذ بجامعة الملك سعود بالرياض" الوأد عند العرب بين الحقيقة والخيال " يقول الدكتور مرزوق بن تنباك في مقدمة الكتاب " ... كنت أبحث عن أسباب الوأد عند العرب، ولماذا وأدوا بناتهم، ولماذا اختاروا الدفن لهن وهن أحياء، ولماذا لم يقتلوهن بطريقة غير الدفن. كانت هذه هي الأسئلة التي أردت البحث عنها بادئ ذي بدء ولم يخالجني شك في صحة رواية الوأد وحقيقتها معتمدا على ما دار في التراث العربي من روايات ترددها المصادر التي جعلت حدوثها أشبه بمسلمة لا تقبل الجدل. ولكن عندما بدأت أجمع الروايات والنصوص والآثار التي تحدثت عن القضية بكاملها من مصادرها الأساسية، بدأت تظهر في أسانيد الروايات ومضامينها كثير من الملاحظات التي لفتت النظر وبدأ الشك يراودني حول صحة ما جاء في الأقوال التي سجلت بداية الوأد...". نلاحظ هنا أن الباحث قد انطلق في البحث على اعتبار أن رواية الوأد من المسلمات التي لا تحتاج إلى مزيد من بحث وتحر بل لا تحتمل تشكيكا ولا نقدا. ولكن الباحث لا يلبث مع البحث والتدقيق أن يتسلل الشك إلى عقله وتبدأ المسلمة تفقد قيمتها شيئا فشيئا . وهنا نتساءل هل الدكتور مرزوق هو أول من بحث هذه القضية؟. بالتأكيد إنه ليس الأول ولكن الفرق هو أن الجماهير من الباحثين السابقين وقعوا في أحبولة المسلمة فحجبت عنهم تلك الثغرات والفجوات في أسانيد وروايات القصة وظروفها التي أنتجتها حتى جعلتها في عداد المسلمات. بينما تحرر الدكتور مرزوق من هذا الأمر وراح يبحث القضية على ضوء منهج لا يعبأ كثيرا بما سلّم به بل بما تثبته الوقائع والأحداث وبما يتسق مع العقل والمنطق. هذه المواجهة مع المسلمات ليست مضمونة العواقب ولكنها شديدة الوقع ومحفوفة بالمخاطر. وقد جس الدكتور مرزوق نبض المستمعين في محاضرة قريبة من الموضوع ألقاها في أحدية الدكتور راشد المبارك ولاحظ ردة الفعل العنيفة مع أن المستمعين كانوا مما يمكن تسميته افتراضا طبقة المثقفين فما بالك بالفرد العادي.
المواجهة الحقيقية للباحث في هذه القضية، كما يتبادر للذهن ، هي مع النص القرآني، فقد وردت آية (وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت) في القرآن وأصبح من المسلم به أن الموؤودة هي البنت الصغيرة التي كان العرب يقتلونها خشية الفقر و العار. إلا أن الباحث يؤجل الحديث عن الآية و يبدأ بمناقشة الجانب التاريخي للروايات التي ورد فيها ذكر الوأد.
في البداية يورد الباحث روايات الوأد كما نقلتها المصادر العربية والإسلامية ثم يبدأ في مناقشتها وكشف الثغرات الموجودة فيها. معتمدا على مدى معقولية هذه الروايات فحين تذكر الروايات أن قيس بن عاصم أحد سادات تميم هو أول من وأد. وأنه قد بدأ بوأد بنته التي رفضت العودة إلى زوجها بعد سبيها واختارت البقاء مع من سباها مع أن قيسا قد أدرك الإسلام ومات في البصرة سنة سبع وأربعين للهجرة ولم يذكر أنه من المعمرين مما يعني أنه من غير الممكن أن يئد أكثر من ثماني بنات، كما ورد في الروايات، لأن عمره قبل الإسلام لا يتسع لذلك. كما أن قيسا عرف بمكانته عند قومه وحكمته وحلمه وورد أنه حرم الخمر قبل الإسلام مما يجعل إقدامه على الوأد غير متفق مع هذه الخصال الإنسانية الراقية كما أن أعداء قيس وهم أشداء لم يستغلوا هذه الحادثة في هجائه رغم أنهم لا يتورعون عن ذكر أي منقصة فيه مما يعني أن قصة الوأد مختلقة عليه. كما أنه من المستبعد أن يبدأ فرد واحد عملاً تشمئز منه النفوس وينتشر بين الناس بهذا الشكل السريع مما يصورهم كوحوش متعطشة للدماء. ويورد الباحث على تلك الروايات سبعة طعون أخرى. ثم يعود لنقائض جرير والفرزدق ليلاحظ أن الفرزدق قد ادعى أن جده صعصعة بن ناجية أول من أحيا الموؤودات بقوله :
ومنا الذي منع الوائدات و أحيا الوئيد فلم يوأد
وكان من المدهش أن جرير لم يتعرض لهذه القضية في ردوده على الفرزدق رغم أنه لم يدع أمرا حقا كان أم باطلا لينتقص به الفرزدق إلا ذكره إلا هذا الأمر. ولتفسير صمت جرير عن هذا الادعاء يفترض الباحث عدة افتراضات فإما أن يكون الفرزدق قد اختلق هذه القصة ولكنها لم تشع وتنتشر حتى تصل إلى جرير أو أن النحاة والمفسرين قد نحلوا هذا الشعر ليفسروا به آية الوأد. بعد ذلك يرى الدكتور مرزوق أن الخيال الشعبي قد بنى على روايات الوأد حكايات وأساطير خرافية مما ساهم في رسوخها في الأذهان أكثر وأكثر.
بعد ذلك ينتقل الباحث إلى آيات القرآن التي ورد فيها النهي عن قتل الولد ويذكر أنه لا موجب لتخصيص الولد بالأنثى لأن لفظة الولد تدل على الذكر والأنثى وقد وردت لتحريم هذا الأمر ولا يعني ذلك وجوده فعليا من مثل قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ...) ولا أحد يقول إن العرب كانت تستحل ذلك قبل الإسلام. ولكن آية (وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت) تتحدث بصيغة التأنيث مما يجعل الأذهان تنصرف إلى أن المقصود هو البنت التي يدفنها أهلها وهي حيّة. بينما يرى الدكتور مرزوق أن المقصود بالموؤودة في الآية هي النفس البشرية التي تولد من علاقة غير شرعية ويتم التخلص من العار بقتلها والتخلص منها وهذا أمر موجود في كل الحضارات ولا يزال وإن تغيرت الطريقة بحيث أصبح يوضع المولود غير الشرعي ذكرا كان أو أنثى عند باب مسجد أو في مكان عام. والآية تندد بهذا العمل لأن هذه النفس المولودة لم تجن ذنباً تستحق عليه العقوبة وبالتالي فإن الآية لا تدل على وأد البنت خشية الفقر أو العار مما يعني أن الاستدلال بهذه الآية على وأد البنات هو حرف لها عن معناها الظاهر والذي لا يجب العدول عنه إلا بموجب لذلك.

لا شك أن هذا العرض لا يقدم صورة مكتملة ولا حتى واضحة عن تلك المحاجة التاريخية والعقلية التي ساقها الباحث في هذا الكتاب ولكن مقصود هذا المقال هو التعرّض لفلسفة الكتاب المنطلقة من لحظة الشك المنهجية التي تزيح عن عقل الباحث تلك الغشاوة المتلبسة بملبس المسلمة والبديهية والمبدأ. 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 28, 2020 07:08

June 8, 2016

الآخر وآفاق المسؤولية الأخلاقية

الآخر وآفاق المسؤولية الأخلاقيةعبدالله المطيريالإنسان كائن اجتماعي مرتبط بشبكة علاقات ضرورية مع الآخرين تنتج عنها واجبات تجاه الآخرين وحقوق للذات. المسؤولية بالمعنى الأخلاقي هي ربط للفرد بهذه المنظومة من الحقوق والواجبات. هذا الربط يترتب عليه الثناء حين نلتزم بتلك الحقوق والواجبات واللوم حين نقوم بالعكس. نعلم مثلا أن الإنسان يفترض أن يتحمل مسؤولية تصرفاته مع الآخرين، فحين يخلف موعدا ضربه لهم فهو يستحق اللوم وحين يفي بذلك الوعد فهو يستحق الثناء. الفرد هنا مسؤول مسؤولية شخصية عن الوفاء بمواعيده. موضوع المسؤولية الأخلاقية موضوع فلسفي مهم سأحاول في هذه المقالة التفكير في جانب من جوانبه يسعى للتفريق بين: المسؤولية تجاه الآخر والمسؤولية عن الآخر. الفكرة هنا أن هناك مستوى أعمق من المسؤولية الأخلاقية قد لا نجده في التفكير السائد عن المسؤولية الأخلاقية القريب جدا من المعنى القانوني: مسؤولية الفرد عن تصرفاته التي تؤثر على الآخرين. هذا الفرق يفترض أن يكشف عن طبيعة أساسية في المسؤولية الأخلاقية وهي أنها مسؤولية لا منتهية وأنها تغادر الحسبة الذاتية للعالم والآخرين. سأحاول إذن في هذا المقال التفريق بين مستويين من المسؤولية الأخلاقية أملا في الوصول إلى صورة أوضح لوجود الآخر في أفق الذات الأخلاقي.
المستوى الأول هو المسؤولية تجاه الآخر أو المسؤولية تجاه أفعالنا المؤثرة على الآخر. هنا المسؤولية تعني أن تتحمل عواقب فعلك. مثلا في حوادث السيارات يتحمل المخطئ مهمة دفع مصاريف إصلاح الأضرار التي لحقت بذات أو بسيارة الآخر. هذه المسؤولية مرتبطه بشكل كبير بالنوايا والأهداف. مثلا القتل العمد تترتب عليه مسؤوليات أكبر بكثير من المسؤوليات التي تترتب على القتل الخطأ رغم أن نتيجة العمل واحدة. هذه المسؤوليات تتأثر كثيرا بالتصورات الثقافية والقانونية في المجتمع. مثلا في فترة معينة كان التدخين في الأماكن المغلقة عمل لا تترتب عليه عقوبات. اليوم في أغلب مدن العالم هذا العمل يعتبر خرقا للقانون وتتم المحاسبة عليه. هذا التغيير القانوني ترتب عليه كذلك ارتفاعا في الإحساس الاجتماعي بخطأ التدخين في الأماكن المغلقة فيما كان مقبولا أو على الأقل متسامحا معه في السابق. المسؤولية هنا لا تزال مربوطة بالذات والآخر موضوعا لها. بمعنى أننا إذا فهمنا أن تصرفات الإنسان هي امتداد لذاته فإن هذه المسؤولية لا تغادر الدائرة الذاتية. بكل تأكيد هذه المسؤولية مبنية على إدراك قيمة الوجود مع الآخر ومعنى هذا الوجود لكن وجود الآخر هنا يحضر بقدر اتصاله بالذات لا خارجها. سيكون من الصعب تأسيس معاني للمسؤولية الأخلاقية في هذا الفهم خارج دائرة الذات وامتدادات آثارها. النتائج الواقعية لهذا الفهم أن الإنسان يمكن أن يحصر مسؤولياته في حدود ضيقة ويتخلى عن المسؤوليات خارج هذه الدائرة. في كثير من الأحيان يتم اللجوء لهذا المعنى للمسؤولية الأخلاقية لتخفيف إحساس الإنسان بالذنب تجاه الكثير مما يجري حوله من كوارث تحل بالآخرين.
الأفق الآخر للمسؤولية الأخلاقية هو المسؤولية عن الآخر وليس فقط المسؤولية تجاه الآخر. هذا الأفق يشمل المستوى السابق ويتجاوزه ليصل بالمسؤولية الأخلاقية لحدود غير منتهية. هذه المسؤولية تنطلق من الشعور الحقيقي بالتعاطف بين كائنات لا يعرفون بعضهم على المستوى الشخصي ولم يكن هناك اتصال بين تصرفاتهم. هذا الشعور تجده بوضوح حين تلتقي متسولا أو مريضا لا تعرفه وربما ينتمي لبلد آخر غير بلدك ورغم ذلك تشعر بالمسؤولية عنه وبضغط داخلي بمسؤوليتك عن مساعدته. هذا الشعور يظهر بوضوح في قناعتك بأنك يجب أن تساعد هذا الكائن بقدر استطاعتك. قد لا تفعل شيئا للمساعدة ولكنك ستبرر لنفسك كثيرا وتحاول إيجاد الأعذار لعدم قيامك بمساعدته. مثلا ستقول لن أساعد هذا المتسول لأن كثيرا من المتسولين يستخدمون المال الذي يجمعونه في شراء المخدرات. بغض النظر عن صحة هذا التبرير إلا أن ما تحاول القيام به هنا هو إيجاد مخرج من المسؤولية الأخلاقية التي شعرت بها عن حال ذلك الإنسان. نعلم هنا أنه لا توجد مسؤولية بالمعنى الأول تجاه المتسول، ولكننا نعلم كذلك أن في داخلنا شعور بالمسؤولية لا يزال يتحرك. “الرحمة” هي إحدى التعبيرات عن هذه المسؤولية. الإنسان الرحيم لا يحسب مسؤولياته تجاه الآخرين بحسابات تأثير تصرفاته. على العكس نجد أن مسؤولياته تمتد لمساحات لا منتهية تشمل آخرين لا يعرفهم ولم يتصل بهم أبدا. هذه المسؤولية لا منتهية حتى وإن علمنا أن ما نستطيع فعله محدود بحدود القدرة. نجد عند الرحماء هذا الشعور المستمر بالتقصير والرغبة بفعل المزيد باستمرار.
الفرق بين الأفقين السابقين مهم، خصوصا حين نفكر في السياقات القانونية للمسؤوليات. كمجتمعات لا بد من تأسيس وتعزيز المستوى الأول من المسؤولية الأخلاقية والمتعلق بنتائج تصرفاتنا تجاه الآخرين. هذا المستوى مهم للصياغات القانونية والعمل في المؤسسات الاجتماعية لكن لا بد من الاهتمام كذلك بالمستوى الآخر والذي يمكن اعتباره الضمير الأخلاقي. الضمير الذي يدلنا باستمرار على وجهة الحركة حين تحير بنا خطانا. الضمير الأخلاقي هنا هو طاقة بصيرة لتعميق وتطوير تصوراتنا للمسؤوليات الأخلاقية. هذه الطاقة تدفعنا باستمرار باتجاه الآخر خارج حساباتنا الذاتية. طاقة للخروج من التصورات الأنانية للحياة والآخرين. عجزنا عن وضع أعيننا في عين المتسول والمحتاج حين نرفض طلباتهم وشعورنا بحقهم علينا هو حالة أمل وتفاؤل بأن هناك ما يجمعنا رغم تصاعد أسباب فرقتنا. 
http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=30844#.V1dZdLKUgk4.twitter
 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 08, 2016 05:28

May 31, 2016

الحجاب الأيديولوجي

الحجاب الأيديولوجيالداعية الأيديولوجي يقوم بعملية تسويق وترويج لأفكاره، وعلاقته مع الآخرين محصورة في هذا الهدف. العلاقة في هذا الأفق علاقة استعمالية لا تختلف في مضمونها عن العلاقة بين البائع والمشتريعبدالله المطيريالتواصل البشري يمكن فهمه على مستويين: مستوى أخلاقي ومستوى معرفي. المستوى الأخلاقي يعبر عن حقيقة اللقاء بين البشر وما يعنيه من اهتمام ومسؤوليات بين الذات والآخر والمستوى المعرفي يعبر عن مضمون التواصل من معلومات وأفكار يتم التعبير عنها وفق حدود اللغة ومعايير الفهم. ما لاحظته في كثير من التواصل مع السعوديين في أميركا هو أهمية المستوى الأول مقارنة بالثاني. بمعنى أن الناس تعطي قيمة أكبر لمعاني الاحترام والتقدير في التواصل مقارنة بمضمون الأفكار والاختلافات التي قد تحدث وكأن القاعدة كالتالي: تواصلي معك سيستمر متى ما تحققت الشروط الأخلاقية بغض النظر عن اختلافاتنا الفكرية. السؤال هنا وهو ما أثير في نقاشي لهذه الفكرة في تويتر أن سياقات كثيرة تثبت العكس. التواصل مع السعوديين في أميركا حالة خاصة، باعتبار أنه يجمع أناسا جمعتهم الظروف بدون معرفة مسبقة في فضاء اجتماعي مفتوح ومتأسس على التنوع والاختلاف.
في المقابل في التواصل بين أطراف التيارات الأيديولوجية المحلية في وسائل التواصل الاجتماعية نجد أن الخلاف الفكري يبدو العامل الأكثر أهمية وفاعلية بين أطراف التواصل. أعتقد أن الملاحظة فعلا دقيقة وتحتاج إلى تحليل لطبيعة التواصل الذي تصنعه أجواء الصراعات الأيديولوجية. برأيي أن الصراع الأيديولوجي يعمل بشكل أساسي على إعاقة اللقاء المباشر بين الناس ولذا فهو يخلق حالة من الحجاب المانع للتواصل. من أهم آليات هذا الحجب خفض اهتمام الفرد بالآخرين كما هم ورفع اهتمامه بهم كممثلين لأيديولوجيات أخرى أو كموضوعات محتملة للتجنيد الأيديولوجي. عادة ما تحوّل الأيديولوجيا أفرادها لدعاة. هذه المهمة تغيّر طبيعة تواصل الإنسان مع الآخرين. مع تبني دور الداعية يصبح الآخر هدفا محددا والعلاقة معه محكومة بهذا الهدف. الداعية الأيديولوجي يجد صعوبة في الاهتمام بالآخرين خارج ساحته الصراعية. قيمة الآخرين تتحقق عنده بقدر ما يعبرون أو يمثلون هذا الصراع. أذكر هنا صديقا عزيزا كان يحب أن يتحاور مع المدارس الفلسفية من خلالي. بمعنى أن حواري معه يتحول في كثير من الأحيان إلى حوار بينه وبين مدارس فلسفية أخرى. في هذا الحوار أنا لم أعد سوى معبر عن هذه المدارس، وفي حال خرجت عن هذا التعبير تلاشى اهتمام صاحبي للحوار معي. ما يقوله صاحبي هنا إن حضوري في الحوار له قيمة، بشرط أن يكون استمرارا لحوارات وخلافات قديمة في السياق الفلسفي. خارج هذه المهمة لا أهمية لحضوري. هذا حجاب سميك بين الذات والآخر نلاحظ فيه طغيانا هائلا للجانب المعرفي على الجانب الأخلاقي. طغيان الجانب المعرفي هنا يحجب الآخر لأنه بطبيعته يحصره في سياقات مسبقة محددة سلفا. العلاقة في هذا الأفق علاقة استعمالية لا تختلف في مضمونها عن العلاقة بين البائع والمشتري. الداعية الأيديولوجي يقوم بعملية تسويق وترويج لأفكاره وعلاقته مع الآخرين محصورة في هذا الهدف. هذا الأمر لا يختلف كثيرا مع الباحث المتعمق في أبحاثه لدرجة أنه لا يعرف تواصلا مع الآخر خارج هذه الاهتمام. العلاقة هنا لا تزال علاقة انشغال بالذات واهتماماتها ورغباتها وحضور الآخر لا معنى له إلا إذا توافق مع هذه الاهتمامات والرغبات. المنغلق على ذاته محاط بحجاب ضد الآخر. حضور الآخر بالمعنى الأخلاقي مرتبط باتساع اهتمام الذات لما هو خارجها. أي خارج حساباتها الخاصة في حالة انفتاح وتسليم للسلطة والتحكم.
الصراعات الأيديولوجية تعمل بأشكال مختلفة للحد من اللقاءات المباشرة بين الناس ومن قدرة الإنسان على الاستماع (الاستماع هنا هو حالة من الانفتاح على الآخر والتخلي عن سلطة فلترة حضوره). أحد هذه الأشكال هو تصنيف الأشخاص بدلا من تصنيف الأفكار. الفرق هنا مهم. تصنيف الأفكار عمل علمي طبيعي يساعد على التفكير والتحليل والنقد. تصنيف الأشخاص في المقابل يضعهم في قوالب تحجبهم. تصنيف الأشخاص ينطوي علي عملية اختزال للإنسان. هذا الاختزال يعني رد الإنسان بكل تنوعاته واختلافاته وانفتاحه على التغيير والجديد إلى مجموعة محددة من الأفكار. هذي هي الخطوة الأولى، أما الخطوة الثانية فهي حصار تلك التصنيفات بأحكام أخلاقية سلبية. الهدف هنا هو نقل الشخص من كونه مختلفا إلى كونه سيئا ولاحقا عدوا. هذه الأحكام الأخلاقية السلبية على الآخر تهدف إلى حجب التواصل معه، باعتبار أن التواصل قائم على الانفتاح. الصراع الأيديولوجي يقاوم الانفتاح بهذه العملية المزدوجة: قولبة الآخر وتجريم هذا القالب. في المقابل نجد أن التواصل المباشر يقوم بعملية عكسية. التواصل المباشر ليس مشغولا بالحكم على الآخر، بقدر ما هو مشغول بالآخر ذاته. الحكم على الآخر له مستويان أيضا: معرفي وأخلاقي. الحكم المعرفي انشغال بتقييم تفكير الآخر بدلا من الانفتاح على تفكيره. الحكم الأخلاقي على الآخر يعني تصنيف الآخر بدلا من الاهتمام به وتحمل مسؤوليته. الاستماع في أفق الحكم هو مجرد مرافعة في محكمة. المستمع المشغول بالحكم لا يحضر الآخر أمامه إلا في إطار المتهم أو البريء. خارج هذه السياقات الآخر لا يعنيه ولا يهمه.
كانت هذه محاولة لفهم أسباب إعاقة التواصل داخل صراعات التيارات. هذه الصراعات تدفع باتجاه إعلاء قيمة محتوى التواصل فوق قيمة المعنى الأخلاقي للتواصل كارتباط واهتمام بالآخر وتحمل لمسؤوليته. هذا يمكن أن يفسر كيف تحد الصراعات الأيديولوجية من التواصل بين الناس ومن فرص عيشهم المشترك. http://alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=30779
 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 31, 2016 17:45

عبد الله المطيري's Blog

عبد الله المطيري
عبد الله المطيري isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow عبد الله المطيري's blog with rss.