في سياقات العدالة

في سياقات العدالةعبدالله المطيريأبتهج كثيرا حين تنطلق نقاشات عمومية عن العدالة. أي حين ينشأ جدل عمومي حول ما نعتبره عدلا أو ظلما أو حقا أو باطلا. هذا النقاش يدفعنا بالاتجاه المعاكس لجدالات نحن وهم. الجدالات الأخيرة (نحن/هم) تنتمي لما أسميته سابقا بمنطق الجماعة وهو منطق للحشد يتم فيه تعطيل سؤال الحق والباطل ويستبدل بسؤال هل أنت معنا أم معهم. قبل أيام عجّت وسائل التواصل الاجتماعي بنقاش تقرير قديم تمت إعادة تداوله عن مطالبة سيدات منطقة معينة في السعودية بالعمل في المنازل كعمل شريف. الأطروحة كانت كالتالي: هؤلاء السيدات لا يملكن شهادات تؤهلهن للعمل في الوظائف الحكومية وهن قادرات على العمل جسديا، فلماذا لا يعملن في مجال الخدمة المنزلية وهو مجال عليه طلب متزايد؟ طبعا هذه الأطروحة أثارة غضبا شديدا واعتراضات مختلفة. ما سأحاول عمله في هذا المقال هو تصنيف ردود الفعل ومحاولة ربط كل صنف بتصور معيّن للعدالة.
الفكرة أن العدالة يمكن أن تفهم في سياقات مختلفة وهذا الجدل العمومي سيكون المثال الذي يفترض أن يوضح هذه الفكرة. أول ردود الفعل اعترض على مبدأ الفكرة وهو العمل في هذا المجال: خدمة المنازل. غالب الناس لم يحدد سبب هذا الرفض المبدئي، لكن يمكن أن نستشف احتمالات خلف هذا الرفض، منها: أن هذا العمل من الأعمال الوضيعة التي لا يرضاها الإنسان على نفسه. من هنا يكون الغضب على كاتبة التقرير أنها دعت الآخرين لعمل وضيع لا ترضاه هي على نفسها. هنا نحن أمام حكم قيمة بوضاعة هذا العمل وشعور بالمساواة بين المعترض مع صاحب الأطروحة. هذا التصور للعدالة يقوم على تصور للكرامة الإنسانية الفردية ويعتقد أن كل ما يقلل من هذه الكرامة نقيض للعدالة بالضرورة. هذا التصور ينطلق من الصورة التي ستنتج عن أطروحة التقرير: أنا سأقوم بتنظيف منازل الآخرين. هذه الجملة تصطدم بتصور هذا الإنسان لكرامته الذاتية. يمكن تخفيف هذا التصور ليكون: نعم هذا العمل شريف لكنه في آخر القائمة لو كان لدينا فرصة للاختيار. هنا يكون اعتراض الكرامة نابع من حصر الخيارات في الخيار الوحيد القابع في آخر القائمة. في مثل هذه الاعتراضات لن يتم القبول من أي شخص آخر أن يطلب مني العمل في هذه المهنة. الحالة الوحيدة التي يمكن أن تجعلني أعمل في هذه المهنة أن يكون ذلك بقراري الخاص. اتخاذ القرار شخصيا يحفظ للفرد مستوى معينا من الشعور بالكرامة ويزيل عن تصوره فكرة انقياده لإرادة كائن آخر. في هذا التصور نلاحظ أهمية الكرامة الإنسانية في تصورات العدالة، ويصبح من المهم في أي نظرية أن تراعي كرامة الآخرين في تصوراتها.
واحدة من طرق حفظ هذه الكرامة نجدها عند (جون رولز) حين يقوم بتثبيت حقوق أساسية للأفراد لا تخضع للمفاوضات والتجاذبات السياسية تحفظ لهم حق المساواة في الحقوق والحريات الأساسية. يفترض في هذه الحالة أن لا يُترك الفرد أمام خيار واحد هو خياره الأسوأ.
الاعتراض الآخر جاد من منظور مناطقي. الاعتراض كان كالتالي: تخصيص منطقة معينة غير مقبول ويشير إلى التفاوت التنموي بين المناطق. هنا نلاحظ كذلك إحساسا بالحق في المساواة يعترض على أطروحة ناتجة عن تمييز طويل ضد منطقة معينة من مناطق الوطن. لكن ماذا لو كانت صاحبة التقرير من نفس المنطقة؟ أتوقع أن هذا سيحدث تغييرا مهما في التعامل مع الأطروحة. لو كانت صاحبة الطرح من ذات المنطقة التي يشعر أهلها بالتمييز المناطقي ضدهم فلا أظن موقفهم الغاضب سيتغيّر. بل ربما سيرتفع بسبب شعورهم بالخيانة ممن كانوا يعتقدون أنها ستنتصر لهم. أما لو كانت الكاتبة من منطقة لا يشعر أهلها بالتمييز ضدهم ووجهت المطالبة لنساء هذه المنطقة "غير المتعلمات" بالعمل في الخدمة المنزلية فلا أعلم كيف ستكون ردة الفعل. الأكيد أن أطروحتها ستلبي اشتراطا أخلاقيا مهما هو أن الأطروحة التي ينتج عنها تفاوت في القوى بين الأفراد: عامل/صاحب عمل، خادم/مخدوم يجب أن تقدم للذات لا للآخر. هنا سندخل في جدل مع أفراد الجماعة التي يتم تصنيفها "الذات"، أي جماعة المنطقة التي تنتمي لها الكاتبة. هذا الاعتراض ناتج عن تصور يربط العدالة بالمساواة المناطقية، لكن ماذا لو أزلنا المنطقة من الأطروحة الأساسية؟ أي أن تصبح الفكرة كالتالي: يجب أن نشجع غير المتعلمات من السعوديات على العمل في الخدمة المنزلية. هنا تخلصنا من تحديد أي منطقة بعينها داخل الوطن السعودي. هل انتهت المشكلة؟ لا أظن.
الأطروحة الأخيرة ستثير مشكلة العدالة بالمعنى الطبقي الاقتصادي. نحن هنا أمام طبقتين: الطبقة المتعلمة والطبقة غير المتعلمة. الطبقة المتعلمة (الغنية) تريد من الطبقة غير المتعلمة (الفقيرة) العمل في خدمة المنازل عندها. الاعتراض من منظور العدالة هنا سيكون: هل هذه التقسيمة: متعلمون وغير متعلمين وما ينتج عنها نتيجة لظروف عادلة أم نتيجة لظروف غير عادلة؟ الظروف العادلة يمكن فهمها بطرق مختلفة منها: تكافؤ الفرص. هنا يصبح المعنى: هل كوني غير متعلم وأنت متعلم ناتج عن فرص متكافئة بيننا؟ إذا كان الجواب بالنفي فإن غير المتعلم يحتاج للدعم الخاص لرفع فرصه في العمل والمنافسة، بدلا من حصره في خيار واحد. هذا الفهم يفتح أهمية نقاش العدالة التوزيعية بين المناطق وبين الأفراد والجماعات داخل هذه المناطق.
النقاش السابق يفترض أن يشير إلى سياقات مختلفة لفهمنا وتعاملنا مع قضايا العدالة. العدالة مرتبطة بشكل جوهري برؤية الناس لكرامتهم الشخصية وعلاقتهم بغيرهم. العدالة كذلك مرتبطة بتصوراتنا للمساواة بين المناطق أو الأعراق أو الذكور والإناث. لا ننسى كذلك الفهم الطبقي للعدالة وعلاقته بتوزيع الثروات وتكافؤ الفرص في المجتمع. كان النقاش الجماعي فاتحة مهمة لنقاش قضية العدالة وعلى أمل المزيد من النقاش في قضايا العدالة التي تربط الأخلاق بالواقع.http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 26, 2016 16:04
No comments have been added yet.


عبد الله المطيري's Blog

عبد الله المطيري
عبد الله المطيري isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow عبد الله المطيري's blog with rss.