الأخلاق بين القول ومضمونه

الأخلاق بين القول ومضمونهعبدالله المطيريسأبدأ هذه المقالة بملاحظة شخصية. لاحظت خلال فترة دراستي الماضية في الولايات المتحدة والتي التقيت فيها بعدد من السعوديين من مناطق وتوجهات مختلفة أن العامل المهم في التواصل الجيد معهم لا يتحدد بشكل أساسي بالتوافق الفكري. بمعنى أنني لاحظت أن توافق الأشخاص فكريا لا يؤدي بذاته لاستمرار تواصلهم، كما أن الاختلاف الفكري بينهم لا يؤدي بالضرورة للقطيعة بينهم. لذا تجد مختلفين في الأفكار أصدقاء ومتفقين في الأفكار بدون علاقات مشتركة. إذا لم يكن التوافق الفكري من عدمه هو العامل الأساسي في تحديد ارتباط الناس ببعضهم وتواصلهم مع بعض، فما هو إذًا العامل أو العوامل الأساسية؟
سأحاول هنا التفريق بين القول كعلاقة تجمع طرفين وبين مضمون هذا القول. سأستفيد هنا من تقسيم شهير للفيلسوف لافيناز بين ما تتم عادة ترجمته للإنجليزية بين Saying and the said. سأحاول ترجمة ذلك إلى القول وما يقال. القول هنا يحيل إلى العلاقة التي تجمع طرفي الكلام والتي تؤسس إمكانية الكلام. هذه العلاقة مبنية على حقيقتين أساسيتين: أولا أن أطراف الكلام يعيشون معا ويجمعهم وجود مشترك وأن الكلام بينهم لا يمكن أن يتأسس إلا بوجود الطرفين ولا غنى لأحدهم عن الآخر. هنا حالة من المساواة الأولى. الحقيقة الثانية هي المسؤولية التي يشعر بها كل طرف من أطراف القول للآخر. في الإنجليزية يبدو الرابط واضحا لغويا. الرد من طرف لآخر يعبر عنه بـ response والمسؤولية يعبر عنها بـresponsibility. نلاحظ هنا أن لا حديث ينشأ بين الأطراف ما لم يكن كل طرف يشعر بالمسؤولية للاستجابة لما يقوله الطرف الآخر. الحوار طلب وجواب أو نداء واستجابة. القول هنا لا يتحقق بدون هذا الانشغال بالآخر والاهتمام به. الحديث يموت حين يفتر الاهتمام بين الطرفين. هذا كان جانب القول أما جانب ما يقال فهو جانب مضمون الكلام من معلومات وأفكار وأطروحات.
يبدو أن الجانب الأول "القول" هو العامل الأهم الذي يجمع الناس رغم اختلاف مضمون هذا القول. من المهم هنا التوضيح أن "القول" أو "الحديث" أو "الحوار" في هذا المقال كما عند لافيناز وإن كانت تحيل للجانب اللغوي إلا أن التواصل اللغوي هنا هو تعبير عن حالة وجودية أوسع فاللغة كالعالم. الصورة إذاً تصبح كالتالي: حين يجد الإنسان من يقدّر وجوده ويعبر عن اهتمامه فإنه قد حقق أساس العلاقة التي تجمعه بهذا الإنسان ويبقى مضمون التواصل ثانويا ما دامت هذه العلاقة قائمة. لذا نجد الناس يقدرون من يحترمهم ويجيد الاستماع لهم ويعبر عن الاهتمام بوجودهم معه حتى لو اختلفوا في مضمون حديثهم. لدى لافيناز تفريق جوهري بين القول ومضمون القول. القول كمسؤولية من الذات تجاه الآخر غير محدودة والآخر فيها لا يمكن اختزاله. بينما مضمون القول بطبيعته يجب أن يوضع في سياقات عقلية مفهومة خاضعة لمعايير عقلية تحد المعنى وتحصره. لذا من المهم جدا هنا التأكيد على أن الإنسان لا يمكن اختزاله فيما يقول. ما يقوله هو بعد واحد في هذه العلاقة يجب أن لا تنسينا العلاقة الأساسية، وهي حقيقة وجودنا المشترك ومسؤوليتنا عن الآخر. الآخر هنا لا يمكن رده للذات. أي لا يمكن اختصاره في معايير ذاتية، لا يمكن فهمه ولا تصوره بالكامل. الآخر هنا يتجاوز باستمرار لكل ما نعتقد ونتصور عنه. لذا كل أحكامنا عنه قاصرة بطبيعتها ومحدودة ولا يمكن الاكتفاء بها.
لذا حين يجد الإنسان من يتفق معه فكريا (في مضمون الأفكار والمواقف) ولكن يجد أن العلاقة مع هذا الإنسان لا تلبي معاني عميقة في حياته فإن التواصل بينهما يتعطل. أحد الأصدقاء اشتكى من صديق له بسبب أنه يتقمص دور المعلم والأستاذ في حواراتهم. هذه التراتبية التي يشعر بها صاحبنا تتعارض مع مبدأ المساواة الذي يقوم عليه جانب القول كما ذكرنا. التراتبية هنا تحصر وجود الطرف الآخر في فضاء ضيق وتتعارض مع الانفتاح الكامل عليه. لهذا نجد أن هذه التراتبية تجرح في كثير من الأحيان كرامة الطرف الآخر، لأنها باختصار تحد من فرص مشاركته وتقلص من حضوره في هذه العلاقة. إنها قفص تكرهه النفوس المتطلعة للحرية. كذلك التراتبية تثير الشكوك في المنطلقات الأخلاقية للطرف المتعالي، فهي توحي بعلاقة استعمال بين الطرفين. الطرف المتعالي يتعامل مع الطرف الآخر كمشروع تلميذ أو كوسيلة لنشر وتوسيع دائرة أفكاره أو كوسيلة لإثبات قدراته وتميزه المعلوماتي. في المقابل نجد العلاقة القائمة على الانفتاح والاستماع والتقدير المتبادل تعطي الفرد شعورا بالكرامة والتقدير والثقة في الذات. هذا الشعور يخلق وجودا آمنا ومفتوحا للمستقبل. حين يكون الاستماع مبدأ العلاقة فإن الأطراف لا يقلقون من الخطأ في ما يقولون، فهم يعلمون أن مضمون الكلام لن يحسم علاقتهم مع الآخر. هناك دائما فضاء مفتوح لما هو جديد ومختلف. هناك دائما مستقبل لذات أخرى. الاختلاف هنا لا يخيف فهو لن يقطع العلاقة. العلاقة قائمة على مبادئ سابقة على الاتفاق والاختلاف.
لهذا يبدو أن ما يطلبه منك الشخص الآخر ليس موافقته فكريا، بل احترامه كشخص والتعبير عن هذا الاحترام باستمرار، خصوصا مع الاختلاف الفكري. هذه مهمة ليست بالسهلة ولعل المقالات القادمة تكون استمرارا للتفكير فيها.http://alwatan.com.sa/Articles/Detail...http://alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=30704
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 24, 2016 17:06
No comments have been added yet.


عبد الله المطيري's Blog

عبد الله المطيري
عبد الله المطيري isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow عبد الله المطيري's blog with rss.