اللاجئ لا يحكي
-١- في ٣ أيلول/ سبتمبر ٢٠١٥، أغرقت صورة الطفل السوريِّ إيلان كُردي الصفحات الأولى لأهم الجرائد العالمية، وشاشات التلفاز، وبالطبع الفضاء الافتراضي. بدت جثة الصغير الملقاة على شاطئ في منطقة بودروم التركية وكأنها أيقونة النزوح السوريِّ، مثلما كانت صورة الطفلة فان ثي كيم فوك (Phan Thi Kim Phuc) في العام 1972-عارية بعد أن خلعت ملابسها المحترقة من النابالم، تجري مفرودة الذراعين في اتجاه الكاميرا - أيقونة حرب فيتنام. إيلان لم يتجاوز الثلاث سنوات، وحده على الشاطئ بعد أن غرق أخوه وأمُّه، وجهه للرمال. لا يجعلنا الأحمر الزاهي في ملابسه نصدِّق تمامًا أنه ميتٌ، كما أنه لم يفقد حذاءه في تلاطم الأمواج.لم تكن صورة إيلان الأولى ولا الأخيرة في تمثيل مأساة النازحين السوريين، فهناك صور كثيرة لسوريين يُقتلون أمام العدسات، يهربون من الخراب، يعبرون البحر أو يغرقون فيه، يصعدون الأسلاك الشائكة في حدود بلد ما، أو ينامون على قضبان القطارات حتى لا يؤخذوا قسرًا لملاجئ النازحين في بلدٍ آخر. مع ذلك، نجحت صورة إيلان في ما لم تنجح فيه الصور الأخرى -لفترة على الأقل - في استدرار التعاطف الذي تُرجم في بعض قرارات المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين بمساعدة أعداد أكبر من طالبي اللجوء، وفي مشاهد التضامن معهم، وازدياد مراكز التبرُّعات لهم، والترحيب بهم في بعض ميادين ألمانيا وغيرها. قد نفكِّر في أن التأثير العنيف لصورة إيلان لا ينفصل عن كونه طفلًا صغيرًا، يمثِّل بشكلٍ ما النازح البريء، الأكثرَ ضعفًا حتى من النازحين البالغين، وأنه أيضًا الضحيَّة في نقائها، وهو بالضرورة غير مسؤول على الإطلاق عن ويلات الحرب. دعني أقول إن صورة النازح الميِّت البريء أكثر تأثيرًا من صورة النازح البالغ الناجي في العموم. لكن صورة إيلان تجعلني أفكِّر أيضًا في فكرة عبور البحر، ذلك البحر الذي عبره من قبله المهاجرون الأوائل من «سورية الكبرى» في أواخر القرن التاسع عشر إلى مارسيليا، ومن هناك في مراكب عبر المحيط الأطلنطي إلى أميركا. إنني أتساءل هنا عن الفرق بين وضعيَّة المهاجر ووضعيَّة طالب اللجوء، كيف يعبر كلٌّ منهما البحر، كيف يقدِّم كلٌّ منهما نفسه للسلطة التي عليها أن تستقبله أو ترفضه فور وصوله إلى الشاطئ الآخر.

-٢-أسعد رستُم، صاحب أول كتاب بالعربية عن الهجرة إلى أميركا الشمالية في العام 1895، يردُّ على الاتهامات والدعاوى التي يبثها أبناء وطنه مَمن يعارضون السفر إلى أميركا أو يعتقدون أن من يهاجر إليها يفقد أخلاقه الشرقية. كما يردُّ في الوقت نفسه على مَن يصفهم بأنهم بعض الأصوات الأميركية المُغرضة مِمَّن يرفضون وجود السوريين، فيكتب: «المهاجَرة ليست إلا أمرًا طبيعيًّا في البشر يسوقهم إليها ابتغاء الرزق وسعة العيش، ولولا ذلك لما انتشر العمران في الأرض، فقد اضطر آدم أن يهجر الجنة إلى الأرض ليعمل فيها، وكذا تفرق أولاد نوح الثلاثة كل إلى ناحية من اليابسة، فاستقر سام في آسيا، وارتحل حام إلى إفريقية، ويافث إلى أوروبا، ولو كان لهم أخ رابع لسبق «كولومبس» إلى أمريكا».

-٣- إذا كان المهاجر يُسأل عن هويَّته، يُطالب بتعريف نفسه، فهل يُواجه طالب اللجوء نفس السؤال؟ وما هي إجابته ولماذا؟ إنني أتساءل هنا كيف يُعرِّف السوريُّ، طالب اللجوء، نفسه أمام سُلطة الضيافة في العام ٢٠١٥؟ لقد نشرت صفحة "هيومان أوف نيويورك"على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك سلسلة من صور وقصص بعض من نجَوا مَن الحرب وأهوال البحر وعبروا حدود أوروبا ووصلوا بسلام إلى الحصول على اللجوء السياسيِّ. وبالرغم من ثناء الآلاف من قرَّاء الصفحة في تعليقاتهم بأن هذه القصص أعطت صوتًا لمن لا صوت له، فإن هذه القصص ليس لها صوت؛ إنها تشترك في بناءٍ سرديٍّ واحدٍ (حتمية الهرب من الجحيم، الإشارة إلى الجحيم بتفاصيله وليس بأسبابه، العمل في تركيا لساعات مهولة لتوفير ثمن الهروب لأوروبا، شخصية المهرِّب الطمَّاع، المركب البلاستيكيُّ الذي يتم تحميله بأضعاف سِعته، أهوال البحر، السلامة). يُضاف إلى ذلك أحيانًا، وحدة سرديَّة أخرى مثل قسوة السلطة الأمنيَّة في التعامل مع الواصلين لتوِّهم إلى الحدود، أو ظهور مخلِّص ما -سيعتبره القراء في تعليقاتهم نموذجًا للتعاطف الإنسانيِّ -كما في القصة المنشورة بتاريخ ٢٧ أيلول/ سبتمبر لناجٍ سوريٍّ اسمه محمد، احتضنه وساعده خبازٌ في النمسا اسمه فيرتز هوميل-٤- تزداد مسوِّغات قبول طالب اللجوء كلما تفاقمت مأساته؛ إن حالته المزرية، وضعفه بل وموته وبراءته من المسؤولية عن الحدث التاريخيِّ هي ما قد يفتح الباب لاستضافته. موت إيلانفتح الباب مؤقتًا لسوريين أحسن حظًّا منه، إن موته يشبه في قوته إثبات المهاجر أمام إدارة الهجرة ميزات كافية ليتم قبوله، يجري تلخيص ميزات المهاجر في نقاط من قبيل: تعليمه، إتقانه للغة البلد الذي يطلب الهجرة إليه، براءته أمام القانون من جرائم سابقة، قدرته على أن يُصبح عضوًا عاملًا في المجتمع الذي يستضيفه وغيرها.ميزات طالب اللجوء تأتي من مأساته، ولعلَّ أهمها أن يكون يتيمًا؛ يتيمًا حتى لو وصل للحدود مع والديه. إنه لا يبحث في شجرة النسب عن صلة بأرض الضيافة مثلما فعل رستُم. ليس فقط لأنه ليس لديه الوقت ولا الطاقة لبحث كهذا، ولكن لأن ذلك سيقلل من كونه ضحيَّة. دعنا نتذكَّر هنا أن رستُم نفسه لم يعرف وهو يبحث عن اسم عائلة ونسب ويتبرَّك بجدوده الفينيقيين أن إدارة الهجرة الأميركيَّة «ظلت تُسجِّل متحدثي العربية من السوريين المهاجرين تحت مُسمَّى «أتراك من آسيا»، ولم تعرِّفهم بـ «السوريين» حتى العام 1899».نُشرت هذه المقالة في مجلة "الإنساني" (العدد 60). قراءة مشهد #الهجرة المعاصر، يناير ٢٠١٦. https://www.icrc.org/ar/document/alin...
[6] Derrida, Jacques, and Anne Dufourmantelle. Of hospitality. Stanford University Press, 2000, p.3.
التصريح في هذا الرابط: http://www.dw.com/en/weapons-go-to-conflict-zones-the-money-comes-to-germany/a-18798104
Published on December 07, 2016 22:28
No comments have been added yet.