ماذا أكتب حين أكتب عن الكتابة؟
لماذا نكتب؟ سؤال حيَّر ملايين قبلنا، أفرد له مئات الكتاب صفحاتهم، يحدثوننا عن تجاربهم بكلمات نقلتنا –ككُتًّابٍ صِغار- إلى عوالم الحُلم والرومانسية، نستطلع بها مستقبلنا الذي نرجو، ونستشف منها إجابة نجابه بها أهالينا إذ يحرموننا المصروف، والنزهات، وأوقات اللعب، ويؤدبوننا لإهدار ساعات المذاكرة، محملقين في أوراقنا الصغيرة، ومتوارين في أسرِّتِنا لنخط قصصًا سنسخر منها بعد سنوات.
لماذا نكتب؟ لماذا نضيّع أعمارنا في خلق حيواتٍ، وحياكة عوالم، وطبخ حواديت غير منتهية؟ وماذا نكتب حين نكتب عن الكتابة؟ كيف نفسر لغيرنا سحرها القاهر الذي يجري منا مجرى الدم، ويدفعنا لأكثر القرارات جنونًا لحماية شغفنا، مضحين في سبيله بالوظائف المرموقة، ومقدمين أنفسنا على مذبح أكثر التجارب إيلامًا وقسوة، فقط لنجيد تقمص شخصياتنا.
الكتابة تجربةُ ألوهية، تجعل منا أربابًا للعوالم التي تسكن عقولنا، وشخصياتنا الشريرة، وتلك المستسلمة لأقدارنا، والأبطال الذي يقاوموننا، ويفرضون أنفسهم علينا فيكتبوننا كما نكتبهم، ولأننا خلقناهم بأنفسنا نستطيع أن نتفهمهم، ونفهم من يشبههم في واقعنا. في الكتابة نستشف فلسفةً تساعدنا على التأقلم مع لا منطقية الحياة، وغرابة الحكمة التي تُسيِّرُ الوجود.
الكتابة لعبة سحرية، ترينا الاحتمالات الأخرى التي كانت لتكون لو لم نفعل كذا وكذا، هي كاشف خطير عن حقيقتنا، وما نكنه في صدورنا ولا نواجه به حتى أنفسنا، لهذا قد يكره الكاتب شيئًا كتبه، لأنه يريه من نفسه ما يكره، أو يريه شخصيته القديمة الساذجة الحمقاء، فيحتقر في روايته ما لا يجرؤ على أن يحتقره في نفسه.
في الكتابة خلقٌ لمعانٍ لم يحط بها أحد علمًا قبلنا، وهي ترينا الجمال في كل قبح، والبهجة في كل بؤس، وتكسبنا خبثًا بريئًا في التعاطي مع المحيطين بنا، نستلهم من أحزانهم أحداثًا تمس قلوب قرائنا، ونخلد مشاعرنا نحوهم في شخصيات نصادقها خلال كتابتها، فنعيش لذة استكشافهم والوقوع في حبهم مرتين، كما تمنحنا سلاح الانتقام البارد الخفي، فنكتب سطورًا حارقة تجعل أجيالًا كاملة تلعنهم معنا إلى أبد الآبدين.
الكتابة حرية، حصن نحتمي به ونطلق عبره نكاتًا تحط من قدر الطغاة، ورغم هذا يكرموننا ويقلدوننا النياشين والأوسمة، ونمر من تحت أنوفهم دون أن يفطنوا لسخريتنا من ديكتاتوريتهم، لأننا خضنا غمار المجازات فقلنا ما لا يقال دون أن نقوله حقًّا، ففهمنا الجميع ولم يفهمنا الجميع. والكتابة كذلك عبودية، نخر لها سُجدًّا ونكتب ما تمليه خاشعين، مُخدَّرين وقانعين بالمقصلة.
والكتابة تجعلنا جائعين لكل شيء، تغرس فينا توقًا متوحشًا للجديد، تجعلنا راغبين في الانطلاق إلى كل بُعدٍ، منفتحين للاحتمالات والقرارات كافة، مؤمنين أن الخطوة القادمة مهما كانت ستعلمنا ما لا ننسى.. تملي علينا البحث الأعمى عن الخبرات والتجارب، وتصنع منّا وحوشًا نهمة وطماعة وجشعة، تفتش عن الفكرة الجديدة، والصياغة المبتكرة، والتراكيب المميزة. الكتابة هي البدايات الخاطفة، والنهايات التي تعلق بروحك كنقشٍ فوق حجر، والطموح الأعمى لغايات لا تُدرك ولا تُمس.
والكتابة كالحمل والولادة، تتشابه أعراضها دومًا، لكننا لا ندركها مهما تكررت. هي شرود ساهم، وتيه في أفكار غائمة، واشتهاء عميق لمجهول، وحملقة حائرة في السقف، ورحلات بلا معنى إلى المطبخ، ووقفة بلا هدف أمام الثلاجة، وجوع ينهش الروح والأمعاء. هي التقلب على جمر الفراش متأرقين، ثم عشرة فناجيل قهوة في ساعتين، وملف وورد خاوٍ، وموسيقى أليفة تبث في الأجواء سكينة، ثم انفجار عظيم في عقولنا، تتشكل بعده أكوان من الجمل والعبارات، فيبدأ المخاض الطويل، قبل أن ننعم بالخلاص ونلج الملكوت.
هي الكتابة، شفاء الروح، وتجلي الأحلام، ومنتهى الكمال، فسلامٌ على من سهر ليكتب، فأنجب جمالًا نفخ فيه من روحه، عالمًا أننا -ببساطة- وُلِدنا لنكتب، وكتبنا لنحيا.
أوَّاه أيتها الكتابة! كيف اتسعت قلوبنا لكل هذا الحب!
.
آية عبد الرحمن
22 مارس 2017
نُشر بمجلة "عالم الكتاب"، عدد مايو 2017
لماذا نكتب؟ لماذا نضيّع أعمارنا في خلق حيواتٍ، وحياكة عوالم، وطبخ حواديت غير منتهية؟ وماذا نكتب حين نكتب عن الكتابة؟ كيف نفسر لغيرنا سحرها القاهر الذي يجري منا مجرى الدم، ويدفعنا لأكثر القرارات جنونًا لحماية شغفنا، مضحين في سبيله بالوظائف المرموقة، ومقدمين أنفسنا على مذبح أكثر التجارب إيلامًا وقسوة، فقط لنجيد تقمص شخصياتنا.
الكتابة تجربةُ ألوهية، تجعل منا أربابًا للعوالم التي تسكن عقولنا، وشخصياتنا الشريرة، وتلك المستسلمة لأقدارنا، والأبطال الذي يقاوموننا، ويفرضون أنفسهم علينا فيكتبوننا كما نكتبهم، ولأننا خلقناهم بأنفسنا نستطيع أن نتفهمهم، ونفهم من يشبههم في واقعنا. في الكتابة نستشف فلسفةً تساعدنا على التأقلم مع لا منطقية الحياة، وغرابة الحكمة التي تُسيِّرُ الوجود.
الكتابة لعبة سحرية، ترينا الاحتمالات الأخرى التي كانت لتكون لو لم نفعل كذا وكذا، هي كاشف خطير عن حقيقتنا، وما نكنه في صدورنا ولا نواجه به حتى أنفسنا، لهذا قد يكره الكاتب شيئًا كتبه، لأنه يريه من نفسه ما يكره، أو يريه شخصيته القديمة الساذجة الحمقاء، فيحتقر في روايته ما لا يجرؤ على أن يحتقره في نفسه.
في الكتابة خلقٌ لمعانٍ لم يحط بها أحد علمًا قبلنا، وهي ترينا الجمال في كل قبح، والبهجة في كل بؤس، وتكسبنا خبثًا بريئًا في التعاطي مع المحيطين بنا، نستلهم من أحزانهم أحداثًا تمس قلوب قرائنا، ونخلد مشاعرنا نحوهم في شخصيات نصادقها خلال كتابتها، فنعيش لذة استكشافهم والوقوع في حبهم مرتين، كما تمنحنا سلاح الانتقام البارد الخفي، فنكتب سطورًا حارقة تجعل أجيالًا كاملة تلعنهم معنا إلى أبد الآبدين.
الكتابة حرية، حصن نحتمي به ونطلق عبره نكاتًا تحط من قدر الطغاة، ورغم هذا يكرموننا ويقلدوننا النياشين والأوسمة، ونمر من تحت أنوفهم دون أن يفطنوا لسخريتنا من ديكتاتوريتهم، لأننا خضنا غمار المجازات فقلنا ما لا يقال دون أن نقوله حقًّا، ففهمنا الجميع ولم يفهمنا الجميع. والكتابة كذلك عبودية، نخر لها سُجدًّا ونكتب ما تمليه خاشعين، مُخدَّرين وقانعين بالمقصلة.
والكتابة تجعلنا جائعين لكل شيء، تغرس فينا توقًا متوحشًا للجديد، تجعلنا راغبين في الانطلاق إلى كل بُعدٍ، منفتحين للاحتمالات والقرارات كافة، مؤمنين أن الخطوة القادمة مهما كانت ستعلمنا ما لا ننسى.. تملي علينا البحث الأعمى عن الخبرات والتجارب، وتصنع منّا وحوشًا نهمة وطماعة وجشعة، تفتش عن الفكرة الجديدة، والصياغة المبتكرة، والتراكيب المميزة. الكتابة هي البدايات الخاطفة، والنهايات التي تعلق بروحك كنقشٍ فوق حجر، والطموح الأعمى لغايات لا تُدرك ولا تُمس.
والكتابة كالحمل والولادة، تتشابه أعراضها دومًا، لكننا لا ندركها مهما تكررت. هي شرود ساهم، وتيه في أفكار غائمة، واشتهاء عميق لمجهول، وحملقة حائرة في السقف، ورحلات بلا معنى إلى المطبخ، ووقفة بلا هدف أمام الثلاجة، وجوع ينهش الروح والأمعاء. هي التقلب على جمر الفراش متأرقين، ثم عشرة فناجيل قهوة في ساعتين، وملف وورد خاوٍ، وموسيقى أليفة تبث في الأجواء سكينة، ثم انفجار عظيم في عقولنا، تتشكل بعده أكوان من الجمل والعبارات، فيبدأ المخاض الطويل، قبل أن ننعم بالخلاص ونلج الملكوت.
هي الكتابة، شفاء الروح، وتجلي الأحلام، ومنتهى الكمال، فسلامٌ على من سهر ليكتب، فأنجب جمالًا نفخ فيه من روحه، عالمًا أننا -ببساطة- وُلِدنا لنكتب، وكتبنا لنحيا.
أوَّاه أيتها الكتابة! كيف اتسعت قلوبنا لكل هذا الحب!
.
آية عبد الرحمن
22 مارس 2017
نُشر بمجلة "عالم الكتاب"، عدد مايو 2017
Published on September 06, 2017 04:44
•
Tags:
آية_عبدالرحمن, طباخة_الحواديت, مقالات
No comments have been added yet.