من أين تأتي الأفكار؟

لا شيء يبقيك مطلعاً على ما يجري حولك من تطورات علمية وثقافية وتجارية مثل القراءة، خاصة إن كنت ترغب في معرفة أكثر مما تمنحك إياه بضع كلمات في تغريدة! لكن مع تزايد متطلبات الحياة ومسؤوليات الفرد خاصة أرباب الأسر، إذ بالكاد يقسم الإنسان وقته بين عمله وبيته وضروريات الحياة الأخرى كالأكل والشرب والرياضة وقبلها علاقته بربه. فلا يجد المرء وقتاً للقراءة الجادة كما كان متاحاً أيام الجامعة والعزوبية، فينتابه نوع من الإحباط.


لحسن الحظ ظهرت بعض البدائل التي قد لا تكون لها نفس أثر القراءة تماماً، ولكنها يمكن أن تساهم في ردم الفجوة، وفي استغلال الأوقات المهدرة، فشكراً للتقنية! فالكتب السمعية باتت متوفرة بكثرة والتي يمكن تكون خير رفيق للطريق بدل الأغاني الرديئة والبرامج السخيفة التي تبثها الكثير من الإذاعات التجارية. وهناك أيضاً بديل آخر أكثر مواكبة للتطورات وأقصر زمناً، وهو البودكاست والذي مازال غير مستخدم بفعالية كبيرة في المنطقة العربية مقارنة بمناطق أخرى في العالم.


إحدى هذه الأخيرة التي اكتشفتها بالصدفة كانت بعنوان How I built This)) أو “كيف صنعت هذا” وهي من شبكة npr


الإذاعية في أمريكا، والتي تستغرق الحلقة الواحدة منها ما بين ثلاثين دقيقة إلى ساعة، وهو الوقت الذي تحتاجه لأي مشوار تقريباً في مدينة مزدحمة مثل جدة! وبالتالي فيمكن تخصيص هذا الوقت المضجر وسط الزحام والاختناقات المرورية للإستماع لها. في هذه السلسلة يقابل المذيع غاي راز الرياديون ورجال الأعمال ممن بدأوا بفكرة بسيطة تحولت في ما بعد إلى منتجات عالمية تخطت حتى حدود بلدانها. فسنجده يقابل مثلاً بن كوهين وجيري غرينفيلد مؤسسا شركة (بن آند جيري) المتخصصة في صناعة الآيسكريم بنكهات غير مسبوقة، و الأمر نفسه أصحاب مواقع وخدمات الإنترنت الشهيرة مثل انستغرام وموقع تأجير السكن الشخصي Airbnb، وستاربكس، وأحذية تومس، ومطاعم الوجبات السريعة فايف غايز، وغيرها من الشركات التي قد تكون بعضها أكثر شهرة في أمريكا منها خارجها.


من بين الحلقات المميزة التي تابعتها المقابلة مع جو غيبا أحد مؤسسي Airbnb، خاصة وأن الفكرة التي بدأت من سان فرانسيسكو تمكنت في وقت قياسي من الانتشار حول العالم، حتى وصلت إلى بعض مدن المملكة. وقد استفاد عدد من أفراد عائلتي من هذا التطبيق في استئجار مساكن راقية بأسعار مميزة في دول كبريطانيا والسويد.


الفكرة نفسها ليست جديدة كلياً، فمنذ قديم الأزل والناس تؤجراً منزلها بشكل كلي أو جزئي للآخرين للحصول على مردود إضافي. وكوني انحدر من عائلة مكية، فلطالما حكت لي أمي عن كيف كان يقوم جل أهل مكة حتى زمن قريب بتأجير أجزاء من بيوتهم للحجاج القادمين من كل فج عميق. وكيف كانوا يعيشون معهم بالأشهر، فيتحقق الانسجام والتواصل الذي أراده الله، ولذلك نجد أهالي مكة المكرمة والمدينة المنورة من بين أكثر أهالي الجزيرة العربية انفتاحاً وتقبلاً للآخر، فالتأثير في مثل هذه الأحوال لا يكون تجارياً فحسب.


الجديد فيما قام به جو غيبا ورفاقه هو أنهم وفروا منصة تمكن المؤجر والمستأجر من التواصل مع بعضهم والاتفاق على المدة الزمنية ونوع الخدمة وشروطها ضمن إطار قانوني واضح يحمي الطرفين، ويسمح للسائح أو المسافر ليس فقط بالحصول على مسكن بسعر أرخص من الفنادق (ولو أن هذا الأمر لم يعد بالضرورة صحيحاً في بعض المدن)، ولكن بتجربة الحياة كمواطن أو مقيم في ذلك البلد، وليس كسائح يسكن غرفة يمكن أن تكون في جدة أو دبي أو لندن أو نيويورك، بدون أدنى فارق كما هو الحال في سلسلة الفنادق العالمية. فللبعض من المغري جداً أن تجرب العيش في بيت عاذلة يابانية أو أمريكية أو نروجية أو انجليزية، فلكل ثقافة طابعها الخاص الذي يظهر في مساكنها وطعامها وآدابها.


الطريف أن الفكرة بدأت تلبية لحاجة معينة، استشعرها المؤسسون أنفسهم، الحصول على غرفة بسعر جيد لحضور مؤتمر محلي، وانتهت إلى موقع شاكل يستفيد منه السواح ورجال الأعمال والمسافرون بشتى أنواعهم.


بعد سماعي للقصة الممتعة، والتي فيها الكثير من التفصيلات التي لا يتسع لها المجال هنا، خطر على بالي عبارة أن الحاجة أم الاختراع، وكيف أن الأفكار الجيدة قد تأتي بها الصدفة ولكن الذكاء وحسن التدبير يكون في كيفية استغلالها على الوجه الأمثل للخروج بمنتج قد يغير حياتنا وحياة من حولنا.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 20, 2018 06:38
No comments have been added yet.


مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.