الكتابة بغمزة

بدلة الغوص والفراشة
الكتابة بغمزة!
تخيلوا معي أن أحدهم أراد أن يكتب كتاباً، لكنه كان مشلولاً، ليس مجرد شلل في إحدى يديه أو نصفه الأسفل، لا، بكل كامل جسده، بعد حياة مليئة بالسفر والحفلات الراقصة والملذات التي لم يمنعها شيء. في عامه الثالث والأربعين أصابت "جان بُوبي" جلطة!، وهو كاتب صحفي ومحرر مجلة موضة شهيرة. عندما أفاق من الغيبوبة بعد نحو ثلاثة أسابيع وجد أن "متلازمة المنحبس" قد نالت منه، ولا يستطيع أن يحرك أي عضو في جسده سوى رمش عينه اليسرى.. فقد السيطرة على جسده بأكمله، فقط يستطيع أن يرمش.. فقط! "غمزة مجردة"، رمشة بسيطة غير ملاحظة، ربما قد لن تبعد ذبابة بائسة حطتْ على عينه.
لكن عقله كان سليماً، لم يتضرر أدنى ضرر، ورغم أنه لم يفكر بجديّة في تأليف كتاب من قبل، لكنه بمجرد أن أدرك ما حدث له قرر أن يؤلف كتاباً! نعم كتاباً كاملاً، وأن يحرره بنفسه أيضاً.. أي شغف هذا، بالكتابة وبالحكايا وبالحياة؟ أي قوة كانت تسكن هذا الشخص وأي قدرة كانت مُعينه في إكماله لهذه الفصول الجميلة.
بعد فترة من مرضه الذي وصفه بأنه أشبه بأن تقبع في بدلة غوص بينما روحك طليقة كفراشة، تجول وتختار ما يناسبها لتعيش وتحيا بكامل الإرادة، بكامل الأمل والحريّة، قامت "كلود ميندي بيل" وهيّ مساعدته-وهي التي دوّنتْ الكتاب ولولاها لما نُشر- بترتيب الحروف وفقاً لطريقة معينة، وتقوم بقراءتها له بصوت مسموع، ثم يرمش عند الحرف المقصود، وبهذه الطريقة تكونت كلمة ثم جملة ثم كتاب.. يا للألم والصبر والمثابرة، بهذه الطريقة كتبت 121 صفحة في ترجمتها العربية الصادرة من دار مسكلياني في تونس، وترجمها الرائع شوقي برنوصي، الذي أضاف لها الكثير عبر الهوامش، الهوامش التي قربتني كثيراً من جان بوبي وجعلتني أفهم جزء من شخصيته التي كانت واضحة عبر اختياراته للموسيقى أو الأفلام أو الحقب الزمانية التي أحبها و نوعية الفنون التي كانت تروق له وإنطباعاته عنها، وأنا بطبعي أحب الهوامش، وأهتم بها.
ولج بنا عالمه عبر مشهد وصفي ساحر"خلف ستارة القماش المتآكل بفعل العثّ، يعلن الضوء اللبنيّ إقتراب بواكير الصباح، أحسُّ بوجع في كعبيّ، رأسي مثل السندان وجسمي كما لو أن بدلة غوص تقيّده بالكامل...". اسأل نفسي: كم يا ترى إستغرقت هذه الجمل الأولى من كتابه، كم رّفة رمش؟ كم نظرة عالقة بين الفهم وعدمه؟ كم من الحيرة بين نهاية الكلمة وبداية الأخرى؟ كم من الحياة والأمل وُلد هناك في تلك الرمشات المتتالية، التحدي في هذا الكتاب كبير، خصوصاً عندما تعيش معه تفاصيل مرضه وإعاقته، والتي تغلب عليها بالسخرية أحياناً، فمثلاً وسط كل الأمنيات التي يمكن أن يتمناها من في موضعه، سخر من نفسه قائلاً "ماذا لو أطلقت أمنية بأن أتحوّل إلى علجوم!؟". أو هنا عند الحمّام: "في يوم بعينه، يبدو لي مضحكاً أن صرت وأنا في الرابعة والأربعين أُحمّمُ، وأُقلبُ، وتُمسح عنيّ الأوساخ، وأُقمّط مثل رضيع، بل وقد يشعرني ذلك –في ارتداد طفولي كامل- بلذّة محيّرة، ثم يأتي الغد فيبدو لي كلّ ما سلف (مدعاة للشقفة) وتختلط دمعتي برغوة الحلاقة".
خلال كل فصول الكتاب اعتصرني الألم، ألم عجزه وألم قوته التي عبرها بعد 21 عاماً من وفاته تواصل مع العالم، العالم الذي حكى عنه بمحبة كبيرة وافتتان، العالم الذي عبارة عن حروب وبحار ومأكولات ومشروبات وفنون وريف فرنسي حالم وأفلام وموسيقى وشراب بأنواع مختلفة وفتيات جميلات كنّ يفترشن أرجله في هونج كونج، والسيارات BMW الفاخرة، كتب كل ذلك بعاطفة نديّة صادقة كأنما أمامه ألف عام ليحياها من جديد، وبلا أدنى درجة من الندم، الندم الذي شعرتُ به لأول مرة خلال كتابه في صفحة 96 عندما ذكر أن كتب اميل زولا وشاتوبريان وسينيكا وفاليري لاربو يقبعون جواره، يفصلهم عنه نصف متر من العجز، خمسون سنتمتراً فقط.
وفوق كل هذا توفى جان دومنيك بُوبي بعد ثلاثة أيام من نشر الكتاب، ثلاثة أيام فقط! كان يحيى كل يوم لأجل هذا الكتاب إلى أن أنهاه. تاركاً فراشته البيضاء طليقة، كما كانت منذ الأزل.
في العام 2007 تحوّل الكتاب إلى فيلم سينمائي من اخراج جوليان شنابل، وقد رُشح للأوسكار وفاز بالعديد من الجوائز مثل أفضل إخراج في مهرجان كان.
عندما حدثني عنه صديقي الشاعر رمزي بن رحومة ملأني الحماس، ووضعته في مقدمة أولوياتي، لكني ندمت على تأخري في ذلك، منذ نوفمبر الماضي، وكلما وضعته على قائمة القراءة أجد نفسي استبدله بآخر.. دون أسباب واضحة، لعلها متلازمة من نوع آخر أصابتني -لا يعلم بها غيري!
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 07, 2018 01:36 Tags: رواية
No comments have been added yet.