الإقلاع
في صباح الثلاثين من شهر فلوريال من العام السادس (19 مايو 1798) انطلق المدفع معلنا بدء الرحلة التي مازلنا نجهل وجهتها. تحركت السفينة فرانكلان التي أنا على متنها مع عدد غير صغير من العلماء الفرنسيين الذين لهم اسهامات يشهد لها تاريخ هذا الوطن. كان الأسطول مكون من أربعمائة سفينة حربية تحركت في موكب مهيب خارجة من ميناء طولون وكانت لوريان – سفينة القائد العام بونابرت – هي آخر سفينة تخرج من الميناء إلى عرض البحر الواسع.كانت السفينة من الكبر أن القبطان اضطر أن يقوم بمناورات عديدة نتيجة معاكسة الريح لها. وأخيرا وفي الساعة السابعة والنصف كانت لوريان قد خرجت من الميناء وبدأنا الإبحار في عرض البحر. كانت هذه هي أول مرة لي كما هي بالنسبة للكثير من الجنود في ركوب البحر فقد كانت كل حملاتنا العسكرية على مدار السنوات الماضية تدور في قلب القارة الأوروبية ولم يتخيل أي منا أن يتجاوز خيال بونابرت حدود هذه القارة، ولكن الطموح لا حد له. كان مشهد هذه الزرقة الممتدة إلى مالا نهاية خلابا وكان منظر الأشرعة الممشوقة القوام، المنتصبة في مواجهة الريح، الممتدة على مدى البصر مغطية الأفق ببياضها وكأنها مدينة عائمة عملاقة ممتدة كما باريس. سوف ذات سواري عملاقة كما الأبراج الشاهقة في السماء وأما لوريان فحدث ولا حرج سواريها وكأنها أبراج كاتدرائية تشق طريقها إلى السماء لتعلن عن عظمتها وعظمة من على متنها.
تحلّقنا جميعا على ظهر السفينة نتأمل هذا المنظر الأخاذ والذي أعاد إلى أذهاننا القصص التي سجلها التاريخ عن الحملات الصليبية والتي عبرت إلى أورشليم عبر نفس البحر الذي تقطعه سفننا الآن. خرجنا جميعا تاركين زوجاتنا وأبنائنا لمساندة بونابرت كما خرجت الجيوش من كل أنحاء أوروبا لمناصرة الصليب المقدس. كان الكل سارحا في أبعاد أخرى. فيما كانوا يفكرون؟ في المجهول الذي يقبلون عليه؟ أم في الوجهة التي يجهلونها؟ أم في وطنهم الذي تركوه خلفهم؟ كم سيدوم الفراق؟ أسئلة كثيرة تدور في خلدنا ولا نملك لأي منها ردا شافيا.
كانت الحيرة والفضول تنتاب الجميع بخصوص الوجهة التي نقصدها. ما الداعي لكل هذا التكتم وهذه السرية؟ وعلى الرغم من ذلك كانت التوقعات كلها تحوم حول الهند لضرب الإنجليز في مقتل وتوجيه ضربة قاسمة لهم. كان بونابرت قد خطط وجهز العدة إذا ولم يكن شخص سواه وبعض القادة المقربين له يعرف الوجهة الحقيقية.
كانت الرحلة شاقة علينا جميعا خاصة وأننا لم نركب البحر من قبل فأصيب أغلب الجنود بدوار البحر في الأيام الأولى من إبحارنا. حتى الأطباء المرافقين لنا لم يسلموا. لا داعي أن أذكر حجم المعاناة التي نمر بها كل يوم ومشقة ركوب البحر، فمنذ ثلاثة أيام وأنا لم أعرف للطعام أو الشراب طريقا من شدة الألم حتى أن النوم يكاد يكون مستحيلا. كثرت نصائح المتمرسين والمعتادين إلا أن أيا منها لم يجد. أحاول جاهدا أن أنام لأتناسى أوجاعي ولكن نومنا دائما مضطرب نتيجة صياح البحارة طوال الليل وأصوات المناورات ولكن أيضا من هيئة الأسِرّة التي ننام عليها؛ فهي مصنوعة من قماش مربع الشكل ومعلق إلى خشب المركب عن طريق حبلين مما يجعلها تتأرجح بشدة لكل حركة تقوم بها وكل هزة تتعرض لها السفينة. ولكن أكثر مايعذبني ليس رداءة الطعام الذي شكله منفر وطعمه مقزز ولكن رائحة الماء العطنة الذي نضطر إلى شربه. ولعل قذارة الطهاة وعاداتهم المنفرة من إلقاء التبغ الذي يمضغونه أو يدخنونه في أواني الطبخ التي يعدون فيها وجباتنا من أكثر المشاهد الصادمة لي والتي تضيف أوجاعا إلى أوجاع البحر.
ولا أحدثك عن طاقم السفينة وأشكالهم المريبة والمنفرة وهم أنصاف عراة ليلا أو نهارا …وعند هدوء العواصف يبدأ فصل جديد من الأوجاع ولكنه عالم جديد وغريب عليّ، فتبدأ الصراعات حيث يطالب الجنود مضاعفة كمية الطعام في كل وجبة، ثم يبدأ البعض في لعب القمار وكان منهم من يخسر في ربع ساعة فقط أكثر مما يمكنهم أن يجنوا في حياتهم كلها. وبعد النقود، يأتي دور الساعات. عند هبوط الليل يبدأ العزف الرديء على الكمان وغناء أكثر رداءة والحكي عن بطولات الجنود ومغامراتهم في معارك أغلبها من نسج خيال أسكره النبيذ.
زوجتي العزيزة، حياتنا على متن السفينة لا تعرف طريقا إلى الرفاهية بل في الحقيقة فإن كل شيء هنا يعيد إلى الأذهان مشاهد البؤس والتعاسة التي طالما سمعنا عنها. فها أنا أحياها كل يوم وأعيش في الجحيم الذي طالما سمعنا رجال الدين يذكرونه ويرهبون الناس منه. فجحيمي أصبح محصورا في مساحة هذه السفينة اللعينة وفي البحر الشاسع الذي يتلاعب بها ويزيد أوجاعنا ومعاناتنا يوما من بعد يوم.


