معتقل مفعم بالألم ، في ليلة رأس السنة الميلادية …

هوامش على دفتر الثورة-14-


 معتقل مفعم بالألم ، في ليلة رأس السنة الميلادية  …


أحمد خيري العمري



في كل سنة من السنوات الثلاث الماضية ، كنت أعيد نشر مقال لي كتبته عن "مسلم حزين ليلة رأس السنة الميلادية"..


وكنت كل سنة أكتب تعليقا مصاحبا لإعادة النشر ، لم يتغير شيء..


لكن مسلما بلغ منه الحزن أبلغ مدى ، أحرق نفسه قبل رأس السنة الماضية بشهر  أو أقل قليلا فتغير كل شيء من لحظتها ،أكتشف الباقون أنه لا مجال للغرق في الحزن أكثر ،لأنه سيؤدي بهم إلى أن يحرقوا أنفسهم أيضا..بطرق مختلفة.


ثم كان ما كان..مما تعرفون ، مما أصبحنا جميعا جزء منه ،بدرجات متفاوتة في السبق والشرف..


***************


هذه السنة ، شهدت ميلاد رؤوس جديدة كثيرة ، ولادتها جاءت من رحم المستحيل ، من غيابت الجب، من أقاصي اليأس..


كثيرون راهنوا على استحالة ولادتهم لأنهم تصورا أن الأمة قد جدبت وأصبحت عاقرا ، لكن ، كما جاء إسماعيل على الكبر ، كما جاء إسحاق كمعجزة ـ ولد هذا الجيل الجديد من عود ثقاب بدا للحظة أنه إشارة ليأس نهائي..فإذا به ينشق عن أمل لا حدود له…


هذه الرؤوس التي ولدت ، عبر الأشهر الماضية ، هي ما يمكن أن نراهن عليه ، هي الكنز الحقيقي لأي أمة..


تخيلوا إمراة ولدت أبنها الوحيد بعدما تصورت أنها بلغت سن اليأس..كم ستكون حريصة على وليدها..كم سيكون حبها وخوفها عليه..كم سيكون "كنزها" الذي لا يماثله شيء..


كذلك تلك الرؤوس التي ولدت خلال الأشهر الماضية.. أنها الكنز الذي أنتج قبضات حديدية تطالب بحقوقها ، وحناجر تصدح بحق حرمت منه لقرون ، وأقدام تسير الدرب الوعر نحو الحرية..


كانت سنة استثنائية جدا..شهدت ولادة استثنائية لجيل جديد..جيل كان قد ولد "بيولوجيا" منذ فترة، تزيد أو تقل عن عقدين أو أقل أو أكثر..


لكن شهادة ولادته الحقيقية ..لم تصدر إلا الآن..


كتبها بنفسه ، طفل المعجزة ذاك ، اختار اسمه بنفسه..ولم يرض باختيارات الآخرين ،  ترك توقيعه عليها بدمه ، بروحه..


**********************


تغير ذلك المسلم الحزين ، كثيرا ، بين رأسين متتالين للسنة الميلادية يمران بضجيج واحتفالات، ورأسين متتالين للسنة الهجرية يمران بصمت وسكون ..


لا يزال هناك بعض الحزن ، لكنه لم يعد الصفة الأغلب.


كان حزنا يشبه حزن إمراة عاقر وهي تراقب أطفال النسوة الأخريات وأفراحهن..


اليوم حزنه مختلف، ..


حزن هو جزء من مشاعر وأشياء كثيرة مختلفة، من صورة أكبر، في الصورة صار الأمل ، والعمل ، صار هناك التغيير ، والألم ،ووحشة الطريق أحيانا ،والفرح  بالإنجاز، ..صار هناك من يبصر النصر على بعد خطوات، وقبل ذلك لم يكن سوى السراب…


وهناك أيضا الحزن: حزن الفراق الذي لا بد منه..حزن الشعور بالظلم..حزن الشعور بالغبن عندما ترى سكوت الآخرين..


وهناك الغضب.الغضب.الغضب..


مسلم اليوم ، ليلة رأس السنة ، اختلف كثيرا ..(بالتأكيد ليس الكل ، فهناك لا يزال غارق تماما في  خدر الفرح في أفراح الآخرين)..لكن مسلما جديدا ، مسلما "نوعيا" ، ولد بين رأسي هاتين السنتين..


******************* 


أكتب عن "رأس السنة" وفي رأسي مسلم واحد ، يمكن له أن يكون رمزا لكل الرؤوس التي ولدت بين راسي السنتين..


أعتقل قبل ثلاثة أيام، وسيكون على الأغلب معتقلا ليلة رأس السنة ، وأغالب نفسي بصعوبة كي لا أذكر أسمه الصريح كاملا ، كي لا يكون ذلك "تهمة" تضره..


رأيته أول مرة في معرض كتاب الربيع،  ثم أثبت لاحقا أنه واحدا من أنقى ثمرات الربيع العربي ، أو هكذا أتصوره أنا ، هو ورفاقه الذين هم جزء من  أرقى وأنبل ما عرفت حتى تاريخه،..


في معرض الربيع ذاك ، كان هناك من اقترب ليسألني-وأنا جالس خلف منضدة كما لو كنت "الاستعلامات!!- " أين التواليت من فضلك؟"..


وكان هناك من اقترب ليسألني عن طريق الخروج من كل ما نحن فيه..


وكان هو من "النوع الثاني" ..


سؤال يجعل السائل والمسئول معا في خندق واحد ، حفرا،تنقيبا، بحثا عن الجواب…عن ثقب في الجدار العالي ، يدخل منه شعاع من الضوء، ليكون فيصلا بين النور والظلمات..


*********** 


ذلك الحموي المتدفق حمية و حيوية وإيجابية ، هو "جمّار" الشباب..والجّمار هو قلب النخلة الأبيض الناصع البياض ، النخلة صلبة وقوية ، لكن قلبها أبيض ونقي…كذلك هو ورفاقه ، أنهم "جمّار" الثورة.."جُمّار" هذه الثورة التي ستعيد رسم بلدهم ، وتساهم في إعادة رسم المنطقة ، ثبات كثبات النخلة ، وقلب أبيض.. كقلب النخلة..


************** 


لم التق به كثيرا ، لكن كانت الكيمياء بيننا على أتم ما يمكن وعوضت عن كثرة اللقاءات، عندما بدأت الثورة ، وانطلقت مظاهرات الفرح في مدينته تدك حواجز الخوف وتلقيها أرضا وتمرغ بها التراب، اتصلت به ، كانت هذه هي المرة الأولى التي اتصل به من حيث أنا الآن ، لم يرد..كان الرقم مجرد رقم مجهول..لكنه حدس أنني المتصل (علما أنني أسكن في دولة الجالية السورية فيها ضخمة جدا)..ترك لي رسالة على الفيس : أنت المتصل؟..وقال أشياء أخرى كثيرة..


************* 


ذات ليلة ، والثورة في أيامها الأولى الصعبة ، فكرت به وبرفاقه وأخوانه ، دعوت لهم قبل أن أنام ، مروا في بالي كبريق يجعلك تنام مطمئنا ، كأذكار المساء،.


تذكرته، بالذات تذكرته في صورة جمعته مع شقيقيه ووالدتهم..صورة وضعها هو أو احد أخويه على الحائط في الفيس..


صورة جميلة جدا : يحيطون بها بحب وتحوطهم هي بحب ، يبتسمون معا لا للكاميرا ، بل للمستقبل..نظرة الفخر والحب في عيني أمهم (الرائعة ما دامت قد أنجبتهم ) كانت شديدة السطوع ، لم يكونوا متفوقين دراسيا فحسب، كانوا أكثر من ذلك..


ليس المستقبل المشرق هو ما ينتظرهم فحسب..بل المستقبل المشرق هو ما يصنعونه أيضا..(كلي ثقة أنها تقرأ ما أكتب الآن وهي تردد المعوذتين،أرددهما معها ، ورددوهما معها)


تذكرت الصورة ، وتمتمت شيئا في سري..ثم غفوت..وأفقت بعد قليل وانتابني وسواس الفيس ، فقمت لأتفقده ، فوجدت رسالة منه ..انبثق منها الضوء..


******  


الليلة، يمر رأس السنة عليه وهو معتقل ..أغمض عيني فأراه بوضوح، شامخا كنخلة ، عريقا كناعور على العاصي، نقيا كنورس مهاجر ، قويا كحجر الصوان ، بل مبتسما أيضا ، أراه مبتسما كما هو في كل صوره وكما أذكره، مبتسما ساخرا من سجانيه ومن قضبان السجن..إيجابيا مثل آيون موجب لا يمكنه إلا أن يكون موجبا..


كانت عبارة "حيّوا إيجابية" واحدة من عباراته المميزة..


أسمعه اليوم بوضوح ، يقف في الزنزانة رغم كل شيء ، وبيني وبينه الآف الكيلومترات ، ليقول :"حيّوا إيجابية"..


وأرد  "حيّينا"…


ردوا عليه : "حييّنا"…


*********** 


في كل ليلة رأس سنة ميلادية ، يأكلني هم مزمن ، عن تدهورنا التاريخي الذي جعلنا نحتفل بأعياد الاخرين، أو على الأقل نستعمل تقويمهم حتى لو لم نحتفل..


ليس ذلك "تشبها" بالمعنى المباشر..بل هو دلالة عميقة على هزيمتنا الحضارية ، على شعورنا بالنقص تجاه من نحتفل برأس سنته ، وهو شعور أعمق بكثير من أن يكون مجرد شعور..بل هو قناعة مبنية على واقع شديد التردي ، والانحطاط..


هذه الليلة، ليلة رأس السنة الأولى بعد أن ولدنا من جديد ، أهمس في أذني صديقي ورفاقه من "جُمّار الشباب" ، أنهم إنما يعبدون الدرب نحو أن يأتي يوم فيحتفل العالم برأس السنة الهجرية ، يضع "النخلة " والسعفة ..ويتمثل تلك الهجرة نحو عالم أكثر عدالة..


نعم..درب ذلك بعيد جدا، وربما لن يحدث إلا بعد رحيلنا جميعا ، وعبر طريق شديد الوعورة..


لكن ما يفعلون اليوم، يمّهد لذلك..


أن يكون رأس السنة الهجرية ، عيدا كونيا لكل الشعوب ، حتى غير المسلمة ، احتفالا بمنجزات حضارة تصنعون اليوم خميرتها…


أخجل قليلا من أن يكون كلامي هذا في هوامش على دفتر الثورة ، فالهوامش لا تليق بك يا صديق، أنت ومن معك في المتن..في الصفحة الأولى من دفتر الثورة..انتم الثورة ، وأنتم الأمل..وأنتم العمل…


أنتم من يكتب دفتر الثورة حقا.أنتم من يصنعها..ومن يعيد للعالم بهاءه ..وللهواء أوكسجينه..وللإنسان "وظيفته الأصلية"..


******** 


كنا اتفقنا أن يصمم غلاف كتابي القادم.فهو مصمم مبدع أيضا بالاضافة لكل صفاته الأخرى..لا أدري الآن إن كان هذا التصميم سينفذ فعلا ، لكني أدرك تمام ، أن اسمه إن لم يكن على غلاف الكتاب ، فسيكون في مضمون الكتاب ، حتى في عنوانه..


عندما يكون عنوان الكتاب "سيرة خليفة قادم"(وهذه أول مرة أعترف باسم الكتاب) فان صديقي المعتقل المفعم بالأمل ، هو جزء حتما من ذلك الكتاب…


 


 


 


 


 


 


 

4 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 31, 2011 11:55
No comments have been added yet.