أربعون يوماً من الحظر
اليوم –لحظة البدء بكتابة هذه السطور- يكون قد مضى أربعون يوماً على تعليق الدراسة في السعودية بسبب فيروس كورونا الجديد، أربعون يوماً منذ آخر
مرة تجولت فيها بأمان وراحة بال في شوارع منطقتي، وأنا أقود سيارتي العتيقة لأوصل ابني الصغير إلى مدرسته ومن ثم انطلق إلى عملي.
ومع أن الحظر الحكومي كان تدريجياً، إلا أنه بالنسبة لي فمنذ تعليق الدراسة وحتى الآن (مرحلة حظر التجول الكلي) لم أخرج سوى بضع مرات لمنزل أهلي أو لشراء المستلزمات الغذائية الضرورية.
أربعون يوماً؟! من كان يظن بأن كورونا ستوقف حياتنا إلى هذا الوقت وكأننا امرأة تكابد فترة النفاس المتعبة؟!
بل ويبدو أن مرحلة النفاس هذه قد تتحول إلى عدة أرملة تمتد لعدة أشهر ما لم يكشف عنا رب العزة والجلال هذه الغمة.
أربعون يوماً تغيرت فيها تفاصيل حياتي الصغيرة..حتى أوشكت أن أنسى كيف كان شكل يومي القديم..
ما أذكره أنه كان يوماً بسيطاً..استيقظ فيه صباحاً، اتجهز للخروج ثم أوقظ ابني في معركة صباحية منهكة، ثم نركب السيارة معاً، نردد المعوذات وأذكار الصباح، وأحاول ألا أقتل سائقاً مجنوناً غيظاً أو ألا يصدمني سائق أرعن!
أوصل معن إلى مدرسته في وقت الذروة، ثم أسأل نفسي إن كانت لدي محاضرة في تمام الثامنة؟ فإن كان الجواب نعم، أخذت نفساً عميقاً، واستدرت لأخوض معركة الوصول إلى بوابة شطر الطالبات دون أن أفقد أعصابي أو أن أبدأ يومي بسيل من الشتائم التي لن يسمعها غيري!
وكم أكون سعيدة حين يكون الجواب أحياناً.. لا اليوم تبدأ المحاضرات بعد التاسعة!
فذلك يعني بأنني غير مضطرة للعودة إلى مضمار السباق والاختناق مرورياً عند بوابة الطير (أظنها كانت في الأصل مشروع كتاب..تحول بقدرة قادر إلى طير) بل بات باستطاعتي الانتظار حتى ينقشع غبار المعركة!
سأنطلق إلى مكاني المفضل بالقرب من عملي. سأوقف سيارتي وابتسامة عريضة تكسو وجهي لأنني وجدت موقفاً فارغاً أمام الباب. سيستقبلني صاحب المقهى الخلوق، أو البائعة اللطيفة بابتسامة وقد اعتادا رؤيتي، سأطلب قهوة مع ساندويتش تونة بالخبز الأسمر أو لبنه أو ربما خطر في بالي استبدالهما بحبة كرواسان سادة.
وريثما يجهز طلبي سأجلس في مقعدي المفضل بجانب الجدار، على طاولة صغيرة لا تتسع سوى لشخصين، لكن الشخص الذي يجلس قبالتي هي حقيبتي التي أحملها معي يومياً لثلاث سنوات أو أكثر، ليس من السهل عليَّ التخلي عن مقتنياتي، إذ تتوطد بيني وبينها علاقة حميمة، فلا استبدلها غالباً إلا حينما تبلى.
وبعد جلوسي أخرج جهازي المحمول وابدأ بتصفح بريد العمل ومن ثم الرد على ما يحتاج إلى رد، والانتهاء من الكثير من المهام التي اعتبرها إدارية أو مستعجلة. أو ربما أخذتها فرصة لمراجعة محاضرة اليوم، أو تصحيح واجب أو امتحان. فكرة أن أكون في المقهى في السابعة والنصف أو قبلها ممتازة جداً، تسمح لي بكل التركيز الذي احتاجه، فالمكان يخلو تقريباً إلا مني أو لمن جاءت لنفس هدفي. ولكن ما أن تدق الساعة التاسعة حتى يكون المكان قد امتلأ بالزوار، فأعرف بأن الوقت قد حان للرحيل فلم يعد هذا المكان مناسباً للعمل.
حين انطلق عندئذ، وبعد انتهاء ذروة التوصيل للمدارس والجامعات ما بين السابعة والثامنة، تكون الشوارع المحيطة بالجامعة جميلة وشبه خاوية، أقود باستمتاع كبير، افتح الإذاعة واستمتع إلى برنامج خفيف أو تطرب أذناي لأغنية لطيفة.
أجلس على مكتبي، وأظل أعمل حتى ينتهي دوامي ويحين وقت انصراف ابني، يستقبلني بحضن كبير حتى حين أتأخر عليه، نتحدث في طريق العودة، نتوقف عند البقالة الصغيرة بجانب بيتنا في حينا أو نعود أدراجنا مباشرة. نقضي بقية اليوم في الأكل والمذاكرة واللعب ومشاهدة التلفزيون، ومن الأحد إلى الخميس نذهب عصراً لحلقة التحفيظ في مسجد حينا المبارك.
بعدها يأتي وقت النوم، وندخل في مطاردة جديدة، نقرأ كتاباً أو اثنين، نقرأ المعوذات، نغني بعض الأغاني الجميلة ما بين عربية (كطلع البدر علينا) وانجليزية ك(oh diddle diddle).
وحين أتأكد بأن صغيري قد غفا أقفز كطفلة سعيدة بانتهاء فروضها المدرسية، فلدي ساعة أو اثنتين الآن لي وحدي!
كنتُ أحياناً أجدها فرصة للاسترخاء والقراءة، أو للكتابة أو لمشاهدة برنامج أو تصفح الانترنت دون مقاطعة، وفي أحيان كثيرة كنت أجدها فرصة للانتهاء من واجباتي المنزلية، وبذلك لا تعود ساعة الاسترخاء ساعة استرخاء! كنت اذهب حينها إلى غرفتي ضجرة من يومي الطويل الممل!
وما دار في بالي وقتها، ولو بنسبة ١٪ بأنني سأشتاق إلى ذلك اليوم بشوق يوازي الشوق إلى رحلة صيفية أو إجازة ربيعية. كما قال أحدهم.. بتنا نفتقد حياتنا الروتينية التي لم تكن تعجب أحداً منا.. ورحل يوم الأحد الذي لم يحبه أحد..وترك لنا خميساً ممتداً بلا نهاية.
لكن لأننا بشر..ولأن الله أعطانا ميزة التكيف مع الصعاب والتأقلم مع الظروف، فقد تقبلنا واقعنا الجديد، وبتنا نحاول أن نعيش أيامنا بأفضل طريقة ممكنة حتى تُزال الغمة، ويُرفع الحظر، ويعود لأيامنا شكلها الأول.
فيروس كورونا ذلك الذي غير وجه العالم، ومس حياة كل واحد منا في كل بقعة تقريباً من الكرة الأرضية. فماذا تعلمتُ منه؟
تعلمتُ بأن حياتنا الحاضرة هشة أكثر بكثير مما كنتُ أتخيل، أنا التي تخشى المستقبل، وتحب التخطيط والنظرة البعيدة. أكره الانتظار، ويقلقني مضي الوقت دون إنجاز أو يذكر أو تحقيق الأمنيات، كنت أشعر لا سيما وأنا قد دخلت للتو عقداً جديداً من عمري، بأن دقائق حياتي محسوبة عليَّ، وعلى أن أسابقها قبل أن يخلص عمري، لذلك من الطبيعي جداً أن أعمل كل شيء بسرعة دون وعي مني!
ولعله من الطريف أنني أكتب هذه التدوينة وأنا أقرأ في كتاب (خاتم سليمان) للكاتب الشهير أونوريه دي بلزاك والتي تتحدث عن صفقة بين شاب والحياة بحيث تعطيه ما يريد مقابل أن تنقص من عمره.
بداية الحظر شعرت بأن علي أن أستغل هذه الأيام وكذلك ابني، وضعت جداول محددة، وقائمة بالمهام والرغبات. في هذه الإجازة القسرية ينبغي عليَّ أولاً مواصلة العمل عن بعد كأستاذة جامعية، وتدريس ابني عن بعد، والاهتمام بشؤون المنزل التي لا تنتهي (لا يوجد لدي مدبرة منزل وإنما كنت أستعين أسبوعياً بعاملات من شركات النظافة المرخصة)، مع الكثير والكثير من الأمور الأخرى التي “لا بد” أن تُنجز في هذه الفترة.
في البداية كادت الخطة تنجح، كانت نسبة الالتزام كبيرة ثم بدأت الهمة تضعف والملل يتضاعف، والقلق يتزايد، والشعور بأن ثمة وحش خيالي يركض خلفي ملحاً عليّ أن انتهي من كل شيء حددته لنفسي، وهنا قررت أن أصرعه قبل أن يقتلني!
بنهاية الأسبوع الخامس، قررتُ بأن ابني قد أخذ ما يكفي من التعلم المنزلي وهو الذي لم يبلغ السادسة بعد، فتوقفت الدروس وحل الواجبات التي لا تنتهي. وهذا لا يعني أنني سأتوقف عن تعليمه لمدة أربعة أشهر أو تزيد حتى عودة الدراسة في الخريف المقبل، ولكنه يعني ببساطة أنني سأتبع خطتي أنا، وليس الخطة المدرسية التي وجدتها – رغم الاجتهاد الذي أشكر مدرسته ومعلماته عليها – كانت خلال فترة الحظر أحياناً غير واقعية.
كما قررتُ فيما يتعلق بعملي أن أنجز ما يجب إنجازه بلا تأخير كالمحاضرات والتصحيح، أما الأشياء الإضافية ستحدث حينما يتسنى ذلك، فإن حصلت كان ذلك أمراً طيباً، فلا أحد يتوقع مني أن أخرج بما خرج به نيوتن من قوانين فيزيائية يوم أن عزل نفسه بسبب الطاعون.
أما منزلي فسأبقيه في الحد الأدنى المقبول به من النظافة والترتيب، سيكون نظيفاً لكن ليس لامعاً، الملابس ستكون مغسولة ورائحتها جميلة لكنها ستنسى شكل المكواة حتى حين. سأطبخ اليوم لأنني أتحرق شوقاً لتجربة هذه الوصفة، أو لأنني أشتهي أكلة معينه وستكتفي العائلة غداً بأي شيء مجمد أو متاح. وكنت قد توقفت تماماً عن أية طلبات خارجية هذه الفترة خاصة بعد الأسبوع الثاني.
باختصار قررت بأن أهم ما علىّ فعله في فترة الحظر هو مراعاة صحتي العقلية والنفسي، فكل ما يعزز ذلك سيفعله، حتى لو كان مجرد إمضاء يوم كامل فارغ من أي مهمة إلا الأكل والشرب والصلاة والتفاعل مع ابني، ولمن يعرفني، فترك جدولي فارغاً والتمدد وعدم فعل شيء هو أمر صعب جداً علي، وهذه ليست ميزة أو عيباً. هكذا فقط هم بعض البشر، بعضهم لا يقوى على الحركة، وبعضهم لا يقوى على الراحة وهذا أمر مرهق ذهنياً قبل كل شيء.
أيضاً قررت تعزيز علاقتي بأسرتي وخاصة ابني، الذي يشكو دائماً بأنني مشغولة طوال الوقت ولا ألعب معه، وهو كأي طفل يريد من يشاركه اللعب.
الشيء الذي قررتُ ألا أوقفه في فترة كورونا هو محاولة الخروج منها بكل العظات الممكنة، بتذكر كل النعم التي كانت لدينا ولم نحصيها أو ندرك قدرها بالشكل المطلوب:
نعمة الخروج من المنزل بلا خوف من وباء أو انعدام أمن..
نعمة المساجد والصلوات..
نعمة وجود الحرمين الشريفين بالقرب منا ..
نعمة توفر كل ما نريد وقتما نريد..
نعمة وجود أهل نزورهم وأصدقاء نلتقيهم..
نعمة الترفيه البريء مثل غداء في مطعم أو جولة على الكورنيش أو لهو مع الصغار في مدينة ألعاب..
نعمة السفر أو حتى التخطيط للسفر..
ونعمة الاستقرار النفسي والتخطيط للغد بلا خوف..
نعمة أن لدي دخل ثابت لم يتأثر بالحظر..
إن الحياة – كما أخبرنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم – ليست دائمة ولا مضمونة ولا ثابته، وهذا الكون برمته، وهو في عز تقدمه الحضاري والتقني في ٢٠٢٠م ، بين اصبعين من أصابع الله. وأنه لا فرق بين دولة غنية ولا فقيرة، بالله قادرٌ على أن يبدل من حال إلى حال، فوجدنا إيطاليون يطلبون تمديد إقامتهم في السودان، وعرب يفرون من أمريكا!
كم أتمنى لو أسأل أولئك الذين يعتقدون بأنه يجب على كل بلد أن تقفل بابها على نفسها وألا تهتم سوى بمواطنيها، هل أدركتك اليوم بأن العالم في هذا العصر لا يمكن أن يكون إلى مفتوحاً للجميع؟
هل فهمتم معنى أن كل واحداً منا غير جيد لوحده، وأننا معاً نستطيع أن ننقذ هذا الكوكب، الذي فيه من الخيرات الكثير بحيث أنها لو أديرت بشكل جيد، ووزعت بشكل عادل، لما بقي على سطح الأرض فقير ولا مات طفلٌ من جوع؟
ولعل من محاسن كورونا أن غياب البشر في بيوتهم سمح للبيئة بأن تتجدد وأن تعيد بناء توازنها الذي خربه الإنسان، فلقد عاد الأوز والدلافين والأسماك إلى شوارع مدينة فينسيا العائمة بعد أن غابت عقوداً طوال، كما انقشع ضباب التلوث بسبب توقف المصانع في الكثير من المدن الصناعية، فاستنشق الناس عبر نوافذهم هواء نظيفاً، وبات بالإمكان رؤية خط الأفق من جديد.
هل استشعرتم يا بشر كيف أنه اليوم، ومع حركة السفر والطيران والمصالح المشتركة، فإنه يستحيل أن تمرض دولة لوحدها، أو يحاصر وباء في قارة بعينها؟
مرضت الصين فمرض العام..
وللأمانة في البداية كنت من شدة غضبي وتأثري بمأساة مسلمي الإيغور على أيدي النظام الصيني المجرم، غير مكترثة بأن تصاب الصين عن بكرة أبيها، ثم أدركت الحقيقة متأخراً، وهي أن هذا النوع من الابتلاءات لا يمس قوماً دون آخرين.
لكن لعله عقابٌ إلهي للبشرية جمعاء التي تكابد اليوم بتضجر إغلاق دول بأكملها لأنه سكت خلال السنوات العشر الماضية على فظائع كثيرة، بعضها لا يزال مستمراً للأسف.
فأنت يا من كنت تقول بأن هذا الأمر بعيد عني، تلك مأساة غيري وليست تعنيني، هل أدركت الآن بأن كل شيء مرتبط بكل شيء؟
ستنتهي الأزمة وقد تغيرت عاداتنا، تعودنا على أكل البيت، وسنتحفظ كثيراً على أكل المطاعم، تعودنا على الوحدة، تعودنا على السلام من بعيد، تعودنا على أشياء كثيرة، بعضها سنتخلص منه بانتهاء الحظر، والبعض الآخر ربما لازمنا إلى الأبد، ولا بأس بذلك إن كان ذلك إيجابياً.
إيمانياً، كورونا قربتني من الله أكثر، ورققت قلبي للمهمشين والمحتاجين أكثر من أي وقت مضى، فحاولت أن أتلمس احتياجاتهم وأعينهم ما استطعت. ويبدو أن الله تعالى في كل مائة عام يعيد تذكير البشرية عبر أصغر مخلوقاته، بعزته وجبروته، لعلهم يتذكرون ويرجعون. آيات قرآنية عديدة استحضرتها في زمن كورونا..
( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ )
سورة البروج
(وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم)
سورة محمد
لا يوجد شر مطلق، ولا يجري على الإنسان شيء بلا عبث، مازال أمامنا وقت طويل حتى تنتهي الأزمة على ما يبدو، ورمضان على الأبواب، وسيكون مختلفاً بلا مساجد ولا عمرة ولا أحباب.
ستمر الأيام القادمة طويلة وثقيلة، ولكن سنظل نتذكر دائماً أن هذا الوقت سيمضي، ولن تبقى سوى ذكراه، التي سنجتهد في أن تكون لائقة بآية من آيات الله، ولعلنا ننجح في جعلها تكون نقطة تحول تقربنا من رب العزة والجلال وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog
- مرام عبد الرحمن مكاوي's profile
- 36 followers

