نموذج لفعل الشك .. ابن تنباك وقصة الوأد عبدالله المط...



نموذج لفعل الشك .. ابن تنباك وقصة الوأد 
عبدالله المطيري* جريدة الوطن 
العدد: 1762 التاريخ: 27/07/2005 الصفحة: 20 القسم: الرأي

يولد الإنسان محاطا بكثير من المقولات والأفكار الراسخة والمستقرة في أذهان الأفراد وفي الذهن الجمعي للجماعة. لا يخلو تجمع بشري من هذا الأمر. الغالب على البشر أن ينخرطوا في عملية التداول لهذه الأفكار والمقولات والقصص والحكايات بوصفها حقائق لا تحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة وفحص بحكم أن مصادرها موثوقة لديهم ولأنها لم تعرض لهم إلا على شكل حقائق وفي الغالب تكون داعمة نفسيا وشعوريا للجماعة. إلا أن القلة من الناس هم من يخرجون عن هذه القاعدة ويشذون من خلال عمل الشك الذي يدعوهم إلى التوقف عن السير مع القطيع والتنحي جانبا للشعور بالفردية و استعادة الذات من الجماعة ومن ثم إعادة التفكير والنظر في قضايا يختلف الأفراد في الشجاعة لمواجهتها فمنهم من يصل بحدود مراجعاته إلى كل شيء تقريبا ومنهم من يتوقف عند قضايا معينة لا يتجاوزها.
 
من أبرز الأعمال التي تندرج ضمن هذا الإطار أي ممارسة الشك فيما قد استقر في الأذهان والتخلص من هالة القدم والرسوخ كتاب الدكتور مرزوق بن تنباك الأستاذ بجامعة الملك سعود بالرياض" الوأد عند العرب بين الحقيقة والخيال " يقول الدكتور مرزوق بن تنباك في مقدمة الكتاب " ... كنت أبحث عن أسباب الوأد عند العرب، ولماذا وأدوا بناتهم، ولماذا اختاروا الدفن لهن وهن أحياء، ولماذا لم يقتلوهن بطريقة غير الدفن. كانت هذه هي الأسئلة التي أردت البحث عنها بادئ ذي بدء ولم يخالجني شك في صحة رواية الوأد وحقيقتها معتمدا على ما دار في التراث العربي من روايات ترددها المصادر التي جعلت حدوثها أشبه بمسلمة لا تقبل الجدل. ولكن عندما بدأت أجمع الروايات والنصوص والآثار التي تحدثت عن القضية بكاملها من مصادرها الأساسية، بدأت تظهر في أسانيد الروايات ومضامينها كثير من الملاحظات التي لفتت النظر وبدأ الشك يراودني حول صحة ما جاء في الأقوال التي سجلت بداية الوأد...". نلاحظ هنا أن الباحث قد انطلق في البحث على اعتبار أن رواية الوأد من المسلمات التي لا تحتاج إلى مزيد من بحث وتحر بل لا تحتمل تشكيكا ولا نقدا. ولكن الباحث لا يلبث مع البحث والتدقيق أن يتسلل الشك إلى عقله وتبدأ المسلمة تفقد قيمتها شيئا فشيئا . وهنا نتساءل هل الدكتور مرزوق هو أول من بحث هذه القضية؟. بالتأكيد إنه ليس الأول ولكن الفرق هو أن الجماهير من الباحثين السابقين وقعوا في أحبولة المسلمة فحجبت عنهم تلك الثغرات والفجوات في أسانيد وروايات القصة وظروفها التي أنتجتها حتى جعلتها في عداد المسلمات. بينما تحرر الدكتور مرزوق من هذا الأمر وراح يبحث القضية على ضوء منهج لا يعبأ كثيرا بما سلّم به بل بما تثبته الوقائع والأحداث وبما يتسق مع العقل والمنطق. هذه المواجهة مع المسلمات ليست مضمونة العواقب ولكنها شديدة الوقع ومحفوفة بالمخاطر. وقد جس الدكتور مرزوق نبض المستمعين في محاضرة قريبة من الموضوع ألقاها في أحدية الدكتور راشد المبارك ولاحظ ردة الفعل العنيفة مع أن المستمعين كانوا مما يمكن تسميته افتراضا طبقة المثقفين فما بالك بالفرد العادي.
المواجهة الحقيقية للباحث في هذه القضية، كما يتبادر للذهن ، هي مع النص القرآني، فقد وردت آية (وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت) في القرآن وأصبح من المسلم به أن الموؤودة هي البنت الصغيرة التي كان العرب يقتلونها خشية الفقر و العار. إلا أن الباحث يؤجل الحديث عن الآية و يبدأ بمناقشة الجانب التاريخي للروايات التي ورد فيها ذكر الوأد.
في البداية يورد الباحث روايات الوأد كما نقلتها المصادر العربية والإسلامية ثم يبدأ في مناقشتها وكشف الثغرات الموجودة فيها. معتمدا على مدى معقولية هذه الروايات فحين تذكر الروايات أن قيس بن عاصم أحد سادات تميم هو أول من وأد. وأنه قد بدأ بوأد بنته التي رفضت العودة إلى زوجها بعد سبيها واختارت البقاء مع من سباها مع أن قيسا قد أدرك الإسلام ومات في البصرة سنة سبع وأربعين للهجرة ولم يذكر أنه من المعمرين مما يعني أنه من غير الممكن أن يئد أكثر من ثماني بنات، كما ورد في الروايات، لأن عمره قبل الإسلام لا يتسع لذلك. كما أن قيسا عرف بمكانته عند قومه وحكمته وحلمه وورد أنه حرم الخمر قبل الإسلام مما يجعل إقدامه على الوأد غير متفق مع هذه الخصال الإنسانية الراقية كما أن أعداء قيس وهم أشداء لم يستغلوا هذه الحادثة في هجائه رغم أنهم لا يتورعون عن ذكر أي منقصة فيه مما يعني أن قصة الوأد مختلقة عليه. كما أنه من المستبعد أن يبدأ فرد واحد عملاً تشمئز منه النفوس وينتشر بين الناس بهذا الشكل السريع مما يصورهم كوحوش متعطشة للدماء. ويورد الباحث على تلك الروايات سبعة طعون أخرى. ثم يعود لنقائض جرير والفرزدق ليلاحظ أن الفرزدق قد ادعى أن جده صعصعة بن ناجية أول من أحيا الموؤودات بقوله :
ومنا الذي منع الوائدات و أحيا الوئيد فلم يوأد
وكان من المدهش أن جرير لم يتعرض لهذه القضية في ردوده على الفرزدق رغم أنه لم يدع أمرا حقا كان أم باطلا لينتقص به الفرزدق إلا ذكره إلا هذا الأمر. ولتفسير صمت جرير عن هذا الادعاء يفترض الباحث عدة افتراضات فإما أن يكون الفرزدق قد اختلق هذه القصة ولكنها لم تشع وتنتشر حتى تصل إلى جرير أو أن النحاة والمفسرين قد نحلوا هذا الشعر ليفسروا به آية الوأد. بعد ذلك يرى الدكتور مرزوق أن الخيال الشعبي قد بنى على روايات الوأد حكايات وأساطير خرافية مما ساهم في رسوخها في الأذهان أكثر وأكثر.
بعد ذلك ينتقل الباحث إلى آيات القرآن التي ورد فيها النهي عن قتل الولد ويذكر أنه لا موجب لتخصيص الولد بالأنثى لأن لفظة الولد تدل على الذكر والأنثى وقد وردت لتحريم هذا الأمر ولا يعني ذلك وجوده فعليا من مثل قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ...) ولا أحد يقول إن العرب كانت تستحل ذلك قبل الإسلام. ولكن آية (وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت) تتحدث بصيغة التأنيث مما يجعل الأذهان تنصرف إلى أن المقصود هو البنت التي يدفنها أهلها وهي حيّة. بينما يرى الدكتور مرزوق أن المقصود بالموؤودة في الآية هي النفس البشرية التي تولد من علاقة غير شرعية ويتم التخلص من العار بقتلها والتخلص منها وهذا أمر موجود في كل الحضارات ولا يزال وإن تغيرت الطريقة بحيث أصبح يوضع المولود غير الشرعي ذكرا كان أو أنثى عند باب مسجد أو في مكان عام. والآية تندد بهذا العمل لأن هذه النفس المولودة لم تجن ذنباً تستحق عليه العقوبة وبالتالي فإن الآية لا تدل على وأد البنت خشية الفقر أو العار مما يعني أن الاستدلال بهذه الآية على وأد البنات هو حرف لها عن معناها الظاهر والذي لا يجب العدول عنه إلا بموجب لذلك.

لا شك أن هذا العرض لا يقدم صورة مكتملة ولا حتى واضحة عن تلك المحاجة التاريخية والعقلية التي ساقها الباحث في هذا الكتاب ولكن مقصود هذا المقال هو التعرّض لفلسفة الكتاب المنطلقة من لحظة الشك المنهجية التي تزيح عن عقل الباحث تلك الغشاوة المتلبسة بملبس المسلمة والبديهية والمبدأ. 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 28, 2020 07:08
No comments have been added yet.


عبد الله المطيري's Blog

عبد الله المطيري
عبد الله المطيري isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow عبد الله المطيري's blog with rss.