«وادي إبراهيم»… استعادة المكون العتيق لمنابع الحنين

[image error]


بقلم / سلمان السليماني


حكاية (الفتى) ليست نسجاً درامياً لمفردة الظلم والاستبداد، وليست – بطبيعة الحال – مواكَبَة لطوفان الربيع العربي، أو استلهاماً لهذا الغرض الكتابي، إن ما تقوله رواية «وادي إبراهيم» للروائي صلاح القرشي، أعمق من ذلك بكثير، وأعرق من مخيلة معارضة الحدث أو النسج حوله.


عندما تقرأ عمل صلاح القرشي الروائي، والصادر حديثاً عن دار أثر، لا تملك إلا أن ترتقي نحو رمزية المكان، الذي يشي بها ظاهر الجوهر وباطنه. تستعيد المكون العتيق والأصيل، لمنابع الحنين والالتحام بكل ما هو أصيل، وبكل ما هو متجذر. تحلق نحو المنبع الغائر في أعماق النفس البشرية، التي تسمو لتعانق الروح بالتصاقها بمكوناتها الأولى، وبحالة البدء والنشوء. إذ تفيض من حولك الحكاية بوميض الكينونة والوجود، فلا تحسن معها إلا الإنصات لِما لم يقله النص، لذلك المخبوء في وتيرة الحكي الصاعدة، التي تستنفر طاقة الحلم في مخيلة القارىء لتواكب تصاعد الحدث مع كل إشراقة في ضوء النص.



إذن، كانت حكاية الفتى في وادي إبراهيم، بعيدة كل البعد عن إطارها السردي، ذلك الذي استعار رواية سرد الظلم والاستبداد، الحرية والانعتاق، عبر نثر قصة الوالي وظلمه وفساده، بحيث كان هذا الإطار لا يعدو عن كونه تقنية سردية، أو إن صح لنا التعبير، كان بمثابة الواجهة أو الجدار، الذي تختبىء خلفه اعتمالات الحكاية الأم، الحكاية التي تنبىء ببزوغ روحٍ فلسفية عميقة، تبشر بأسئلة غاية في التعقيد والصرامة، تبحث في أصل الحنين، ومن قبله نشوة البدء والنشأة، مصطحبة معها – هذه الأسئلة – كل مكامن التأثير في قابلية القارىء، وسبل تلقيه الفريدة، التي تنشأ مع تتالي السرد، الذي يحجب أكثر مما يظهر.


ففي جنبات السرد الروائي لحكاية (الفتى) تُشرع نوافذ خفية، تظهر تارة وتختفي تارة، تغري القارىء على ولوجها والنظر عبر عوالمها السحيقة، التي تسبر أغوار النص المكتنز بدقائق الشعور ولطفها وخفتها، وما إن تنجح بصيرة القارىء في فك طلاسم هذه النوافذ، حتى تتبدى مجاهيل النص وتفوح أسراره، تلك الأسرار التي تفتّق الوعي على منظومة الحس الإنساني الغائر، لتحل اشتباك مصدر هذه النزعات الإنسانية الأصلية، وتنجح في مقاربتها مع عوامل انفجارها، مما يحيط بها من محرضات، يغفل عنها الكثير ممن يقاسون هول هذه المشاعر، ولا يطيقون حِمل فك رموزها، أو محاولة تفسيرها.


يبحث صلاح القرشي في هذا النص، عن معنى الحنين المتجذر في الروح الإنسانية، الحنين للحظات الأولى، الحنين للحالة الأولى، والمكان الأول. كل ذلك ينطبق على ما سواه من تمثل للحنين، سواء كان ذلك على مستوى الروح أو النفس، أو المكان، كل أشكال الحنين ومن دون استثناء، وهذا ما يبرز من خلال التصاق سمة التأمل والشرود بالشخصيتين الرئيسيتين في الرواية (الفتى) و(علي بَو)، وفي تصوري لا يتعذر على أداة النقد أن تدمج بين الشخصيتين وإحلالهما في مكون واحد، يتحرك في سُبل النص، من دون انفصام. إن ما يميز هاتين الشخصيتين، هو الشرود والتأمل والصمت، الذي يسميه العامة بلهاً وجنوناً، بينما هو في عوالم هاتين الشخصيتين، مكون فريد، يصوغ مخيلة الذات، ويصبغها بالأمان.


إن هذا الهروب الذي يتجلى من خلال الشرود والتأمل والصمت، هو المنفذ لحالة النشوء الأولى، لسبب الحنين التالي في عمر الإنسان، الحالة التي تزود الروح بالعدة للرجوع للمنبع الأول، قبل أن تختلط النفس بهوامش الحياة وملوثاتها، عندما كانت أقرب للطبيعة وللأشياء في حالتها الأولى. وليس استحضار الحرم المكي، والكعبة، ومنظر الطائفين، إلا دلالة على ثبوت هذه الحالة، فالكعبة هي أول بيت وضع للناس، وهي رمزية جلية في الدلالة على الثبات، وعلى اكتناز القيمة التي لا تتغير، وكأن الكعبة المشرفة، حال تأمل (الفتى) و(علي بَو)، تحيلهما للأساس في كل شيء، وتبتكر لهما ملجأ بعيداً عن التبدل والتشوه، وكأن الكعبة فيما بعد، تمدهما بالطاقة اللازمة للثبات على الحالة الأولى، حالة التخفف من أدران الحياة الدنيا، وتمرغها باعتبارات السلطة والوجاهة، وحب الدنيا والجمع لها، وقد ألمح إلى ذلك الكاتب في نافذته الأخيرة، وكأنه يختتم المشهد السردي بهذه الحقيقة.


تظهر في نص صلاح القرشي الروائي، مسألة غاية في الدقة والعمق، وهي علاقة المكان بروح العيش، بمكمن فاعلية الحياة لدى الأفراد، المكان الذي يشيّد بنيانه الروحي في صميم النفس، فيملي عليها بواعث حركتها وشعورها وعواطفها، وكيف أن المكان قد يسهم في تبديل (المزاجية)، وأقصد هنا بالمزاجية، المصطلح النفسي العميق، الذي يرتبط بالمادة والرمز، فنجد أن ارتباط (الفتى) بحالة الصمت، كان مجاوراً لجزئية المكان، واعتمالها في كيانه وروحه.


وهنا تبرز مسألة نفسية غاية في التعقيد، تبحث في ارتباط المكان بالسلوك، وقد تتجاوز هذه المسألة هذا الشأن بكثير، حين تبحث في ارتباط المكان بالقدسية، وبمجاورة الحرم، ولقد كان صلاح القرشي واعياً لهذا الأصل كامل الوعي، إذ استهل الرواية بالآية 37 من سورة إبراهيم (ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)، وأورد الروائي أيضاً مقطعاً من مزامير داود عليه السلام، ومقولة لابن هشام تقول: «أخبرني أبو عبيدة أن بكة اسم لبطن مكة، لأنهم يتباكون فيها، أي يزدحمون». كل هذه الإحالات، تنبىء عن غاية الكاتب في تتبع هذا المصدر الشفيف للضوء النابع من أصل المكان، وارتباطه بالنفس، وبحركتها وانفعالها.


لم يكن هذا السرد الذي يبحث في خصوصية المكان سرداً تاريخياً أو جهداً للوصول إلى الغاية والمعنى، بل كان إسقاطاً بارعاً في ربط الحالة الإنسانية الراهنة، ومحاولة معالجتها من خلال دراسة مكون المكان ومعناه، إذ انحرف السؤال انحرافاً إيجابياً نحو قضية الحنين، وبواسطة هذا الحنين، انفتحت للكاتب الخيارات ليسائل جزيئات هذا الحنين، التي تحوي زوايا عدة، تكون قادرة على أن تلج لمساحة أرحب في تفكيك القلق الإنساني، من جوانب متفرقة، تبدأ من الحنين للحالة الأولى الجنينية، إلى أن تصل لحالة الصفاء والتخفف من أعباء الحياة الراهنة، التي تعج بالمكدرات والملوثات الإنسانية التي تُذهب حالة الكينونة الأولى، التي يكون فيها الإنسان أقرب ما يكون للمكان وقدسيته، وثباته وتجليه.


لقد نجح صلاح القرشي بحق في ابتكار نص عميق، نفتقر حقاً لمثيله في ساحتنا الأدبية، هذا النص الذي يبحث في الأعماق، ويؤجج الأسئلة الكبرى، التي تشحذ فكر وهمة القارىء والمتلقي، للاستزادة من النصوص الجادة التي تترفع عن المبتذل من حكايات العالم الهشة، التي لا تضيف لسردنا الضعيف إلا أثقالاً تهبط به لدركات الإسفاف والسطحية.


من خلال سرده الممتع، استطاع صلاح القرشي، أن يسائل عصر القلق، وخفوت القيم، واختفاء المعايير، وذلك باستنطاق مكونات الثبات من حولنا، ومنابع القيم الباقية. لقد وجه القرشي، أسهمه نحو الهدف بعناية، وذلك بسرد غاية في الرقة، ولعل أكثر ما يميزه هو هذا الانسياب البليغ، الذي يستعير روح الحكواتي المتمرس، القاص بالفطرة، إذ تشعر وأنت تقرأ الرواية بأنك تستمع لحكاية ذات مغزى عميق، ولكنك تستمع لها وأنت في طريق متجه صوب غاية ما، لذلك تقع منك هذه الحكاية في مكمن البلاغة والتأثير، وهذا في تصوري استثمار ناجح لتقنية السرد في إيصال هذه الفكرة العميقة والمؤثرة، التي تحتاج إلى التنقيب حتى يسهل الوصول لقعرها.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 03, 2012 22:10
No comments have been added yet.