أب عبدو ، يا غريب حمص…


viagra payday loans


أب عبدو ، يا غريب حمص…


د.أحمد خيري العمري







لا تكتمل الجرائم قط..


فقط صمتنا عنها ، يجعلها تقترب من الكمال…


والصمت قد يكون لأسباب ودوافع كثيرة..


لكنه في النهاية ، وبغض النظر عن دوافعه الأولى ، فإنه يتحول ليصير تواطئاً مع المجرم..


قد يكون السكوت خوفاً من تكرار الجريمة..


لكنه في الحقيقة يقوي المجرم على التكرار..


قد يكون خوفاً من الفضيحة..


لكن الأمر سيتكرر ليصبح ظاهرة ، بعدما كان في البداية حالات معدودة..


قد يكون حرصاً على “الوحدة الوطنية”..


لكنه في هذه الحالة يبنيها على محض أوهام.


لكل جريمة عدة شركاء فيها.


الساكت الخائف أحدهم.


أما المتفلسف المروج للصمت ، فهو يتعدى مرحلة الشيطان الأخرس.. إلى ما بعدها..


******************************


عندما كان الصهاينة يرتكبون مجازرهم في القرى الفلسطينية ، كانوا يتعمدون ترك بعض الناجين الذين رأوا كل شيء..


كان هؤلاء يفرون إلى القرى المجاورة ، طلبا للنجدة .. أو فقط تمسكا بالحياة..


وكانوا  طبعا يروون ما حدث..


وكان هذا أحياناً كفيلاً بجعل سكان القرى المجاورة  يفرون خوفاً من تكرار ما حدث في القرية الأولى.. خاصة أنهم كانوا يتأملون مجيء الجيوش العربية التي ستنهي ما كان يسمى آنذاك “إسرائيل المزعومة!!”…


كانوا يرتكبون مجزرة في قرية واحدة ، ويتركون ناجياً ليروي ما حدث.. فتهرب ثلاث قرى..


******************************


الناجون من مجازر النظام الأسدي ليسوا من هذا القبيل…


لم تكن نجاتهم أمراً متعمّداً كي يرووا الفظائع ويرهبوا الآخرين.. فالفظائع تنتشر بكل الأحوال..


كانت نجاتهم قدراً  وتتزامن مع  إهمال ارتكبه مرتكبو المجزرة ، أو إسراعهم بالخروج .. أو عدم تأكدهم من موت الجميع..


هؤلاء كانت نجاتهم تحدياً للصمت الذي يلف جثامين الضحايا… كانت نجاتهم خنجراً لقطع كمامات الصمت التي تحيط بأفواهنا ، كان بقاؤهم على قيد الحياة ممزِقاً للخيوط التي تخيط الشفاه ، وتخرس الألسنة..


لقد عاشوا لحكمة مختلفة ، لا لكي يهرب الآخرون هذه المرة..


بل كي لا يتكرر الأمر كله.


********************************


أب عبدو الحمصي واحد من هؤلاء.


إنه شخص عادي جداً.. بسيط جداً.. لا يمكن أن تتخيل سبباً واحداً قبل هذا الحدث لكي يكون مادة لمقال أو ضيفاً في لقاء على فضائية..


لكن هذا بالذات ، كونه بسيطاً جداً ، وعادياً جداً ، هو ما يجعله فعلاً أهلاً ليكون مادة المقالات وضيفاً في الفضائيات..


هذا الرجل البسيط ، الحمصي جداً حتى النخاع ، عامل البناء الذي يعمل بأجر يومي نجا من إحدى مجازر  النظام الأسدي في حمص ، في حي كرم الزيتون تحديداً..


ولقد نجا ليروي لنا ، بالتفصيل ما حدث.


********************


أعرف اسمه الحقيقي وهو اسم محمّل بالمعاني، لكنه رفض أن أفصح عنه.


وفضّل أن يكون “أب عبدو الحمصي”..


كما لو كان ممثلاً عن أهل حمص كلهم أجمعين.


“أب عبدو الحمصي” هو.. مثل الآلاف من أهل حمص..


وهو اليوم ، يحدثكم بالنيابة عنهم جميعاً..


وبطريقة ما ، بسبب رمزية حمص ، وارتباطها بتاريخ عميق عريق ، فإنه يتحدث بالنيابة عن أكثر بكثير من أهل حمص فقط..


******************


عمره 42 سنة… مثلي بالضبط. مواليد 1970…


ولدنا ، أنا وهو ، بعد ثلاث سنوات من الهزيمة التي توجت الضياع الرسمي لكل فلسطين ، والتي تم  تسميتها تخفيفا بالنكسة ، كي تستمر الأنظمة التي تسببت فيها بالحكم وبالاستمرار في كل ما أدى إلى الهزيمة..


مرّ جيلنا ، في عموم الوطن العربي ، بظروف متشابهة.. مع استثناءات نادرة…


لكن التشابه بين ما مر به جيلنا في العراق وسوريا كان حتماً أكبر من أي تشابه آخر ، ليس فقط لوجود “تشابهات عضوية” في نسيج المجتمعين (اللذين يمتلكان امتدادات متداخلة كما هو معلوم ) وهي تشابهات تتوضح أكثر عندما يمر النسيح الاجتماعي بأزمة ، أكثر مما تتوضح في أوقات الاستقرار – إن وجدت !..


التشابه كان أيضاً في ابتلاء المجتمعين بنظام عسكري استند على توليفة من الأيدلوجيات الهجينة على النسيج الاجتماعي الأصلي ، وعلى بعضها البعض أيضاً ، وهي التوليفة التي جعلت حزب البعث العربي الاشتراكي مثل حذاء الطنبوري (كله رقع !) (يتشابه في ذلك مع تيارات سياسية وفكرية أخرى كثيرة عموما، فأحذية الطنبوري رائجة جدا بفضل قوة الدعاية المصاحبة لها..).. وقد كان ذلك كله مجيَّراً لصالح هيمنة عشائرية –مناطقية في الحالة العراقية ، و هيمنة طائفية مناطقية في الحالة السورية..


كل هذا يجعل من “أب عبدو الحمصي” ، ومن نجاته من  المجزرة ، بمثابة حدث “شخصي” يخص كل من في جيلي ، بل كل من عاش تحت ظل نظامي “الأخوة الأعداء” في سوريا والعراق ، خاصة أن الوضع الحالي في العراق ، يقترب أكثر من الوضع في سوريا ، من ناحية التحالفات الإقليمية والهيمنة الفئوية..


أب عبدو الحمصي ، لم ينج بنفسه فقط ، بل نجا بنا جميعا.. نجا ليقول إن “الجيل كله” تعرض ويتعرض لمجزرة ما..


نجاته لم تكن صدفة، حاشا لله.


بل لإيصال رسالة ما..


أحاول الآن  صياغة ما تيسر منها..


******************************


لم يكن أب عبدو ناشطاً مهما في الثورة ، لم يكن قد انضم للجيش الحر… كان يكره النظام مثل أغلب السوريين الشرفاء، ويؤيد إسقاطه مثل أغلب الحماصنة… كان قد ساهم في عدة مظاهرات على ما تيسر.. وساهم في مساعدة بعض الناشطين في بعض الفعاليات.. لا أكثر، ولم يطلب منه أحد أكثر… لم يكن من واجبه في تلك المرحلة سوى أن يعبر عن رأيه وتأييده للثورة..


ما الذي حدث؟..


كيف حدثت المجزرة التي نجا منها أب عبدو ؟


************************************


يسكن أب عبدو في حي النازحين ، وهو جزء من حي كرم الزيتون في حمص.


حي النازحين هو حي آخر تتمثل فيه مآسينا المتداخلة… إنه حي سُمِّي بهذا الاسم أصلاً لأن النازحين الفلسطينيين سكنوا فيه ابتداءً..


2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 16, 2012 13:51
No comments have been added yet.