قصة قصيرة كتبتها 1992 منشورة في كتابي"تلابيب الكتابة" الذ...

قصة قصيرة كتبتها 1992 منشورة في كتابي"تلابيب الكتابة" الذي صدر عن دار الهلال .1994

الفسخاني

تلفت حوله في قلق وتوتر لم تستطع أقراصالمهدئات القوية المختلفة أن تخفف من حدّته حتى تلك الحبوب الممنوعة التي أرسلتهاإليه صديقته الشقراء المتصابية من بيروت. إستدار لينظر من النافذة ليطمئن أنأوامره تم تنفيذها وتأكد أن خادمه العجوز المسكين قد غسل سيارته الفارهة. إنه حريصعلى نظافة كل شئ يراه أو يمسه؛ يتملكه وسواس النظافة بما يلفت نظر كل من يقابلهولو لبرهة، يده ممسكة دائما بالقطنة المبللة بالكولونيا ينظف بها زجاجة مكتبهوأدواته وقطع الزينة المرتبة فوقه بعناية ولا ينسى أن يمسح الهاتف: القاعدةوالسماعة بدقة وتمهل وعلى وجهه هلع يشبه هلع زوجة ماكبث وهي تحاول غسل يديها منبقع دماء وهمية تتصورها ثابتة لا تزول منذ شاركت في إخفاء جريمة زوجها قاتل الملكالذي نزل ضيفا بمنزلهما. إنه الشعور بالخزي والضعة وبالإثم، الشعور بأن ثمّة قذارةما داخلية في نفسه لا تزول ولا يجدي معها الغسيل والمسح والتنظيف الدؤوب بقطعةالقطن المبللة بالكولونيا.

من تحت الصفر بدأ. ذاق الجوع والحرمان والعريوضغط الحاجة وفراغ اليد، كما ذاق الإهمال والإنكار، وتعذب كثيرا من النظرات الفوقيةالتي كانت تراه كمّا مهملا لا يستحق الإلتفات، الآن يبدو وكأن كل ماتمناه قد تحققفلقد إتبع سياسة الدودة الزاحفة على بطنها يتماوج ظهرها في إنكماش وانبساط مع كلزحفة من زحفاتها البطيئة الحريصة؛ تخوض الوحل والنفايات، تلملم النجاسة برأسها ثمترفعها ليجف بللها وتكون طبقة حماية ثم ترتاح قليلا لتواصل بعدها الزحف. في مراحلكانت لديه قفزات: فمن ركن صغير في العراء كان يبيع الفسيخ على ناصية حارته، يضعصفيحتين صدئتين على مسند خشبي يجلس وراءه في البرد بجلبابه المرتق، إلى كشك مسقوفيحميه من الأمطار والعواصف حيث إستطاع أن يخبئ إلى جانب صفائح الفسيخ ممنوعاتيروّجها خلسة لتحقق له الربح الأسرع الذي لم يكن ممكنا أن يحققه بيع فسيخه في ذلكالمدى القصير، واستطاع بهذا أن ينتقل من الحارة إلى الشارع العريض، ومن كشك الفسيخإلى سوبر ماركت يزخر بمعلبات السردين والتونة والأنشوجة والرنجة بالإضافة إلىالفسيخ، لكنه صار حريصا أن يلتقطه البائع بقفاز نايلون ويضعه في أكياس بلاستيكيةمنمقة حتى لا تفوح الرائحة النتنة وتذهب عبثا الرائحة العطرة التي يطلقها كل صباحمن بخاخات العطر المتنوّعة. وألف سكان الشارع العريض السوبر ماركت الجديد المتخصصفحسب في بيع فواتح الشهية من المخللات والفسيخ المتطوّر، وأعجبتهم هيئة صاحبالسوبرماركت المتأنقة الحريصة على لبس المستورد باهظ الثمن ووجهه الأبيض المستديرالذي يبرز منه أنفه بفتحتيه الكبيرتين، وأقبلوا على التعامل معه بثقة ومودة بل لذلبعضهم الصعود إلى مكتبه بالجزء العلوى من السوبرماركت الذي تتكثف به رائحة العطرحتى لينسى الزائر أنه زائر لفسخاني خاصة عندما تتجوّل عيناه في أرجاء الغرفةالمجلدة بمكتبة أنيقة لا تبدو محتوياتها من وراء الضلف الخشبية المغلقة، وكان كلزائر يتساءل في نفسه تُرى ماذا يمكن لهذا الفسخاني أن يقرأ؟ وأي كتب يمكن أن تكونوراء تلك الضلف الخشبية المحكمة الغلق؟ لكن الزائر كان ما يلبث أن يعود لينظرمنبهرا إلى المكتب العريض اللامع المصفوفة عليه الأدوات بعناية ويتابع بإبتسامالقطنة المبللة بالكولونيا التي لا يكف الفسخاني عن تنظيف الأدوات النظيفة بهاكأنه يمسح زفارة لا تزول.

لكن أمر الناس لم يستمر على حاله إذ لاحظوا عوارض تسمم تنتابهمبعد تناولهم أي قدر من فواتح الشهية تلك التي يجلبونها من السوبرماركت رغم نظافتهالبادية، وقال قائل: البضاعة فاسدة ويبدو أنها مخلفات مجموعة مخازن لبضاعة تالفة لمتعد صالحة للإستعمال الآدمي!

 أدار أهل الشارعظهورهم للسوبرماركت ومع ذلك إستمر فاتحا أبوابه واجهة بيع لأشياء لا تُباع؛فالفسخاني في مكتبه يفتح مكتبته كل ليلة عندما يحل الظلام ويستخرج منها بضاعتهالحقيقية التي يأتيها زبائنها خلسة في مواقع متفق عليها تظللها الخفافيش، وتمتلئخزائنه بالملايين.
 شيئ واحد ظليؤرق الفسخاني؛ فهو كلما نظر إلى المرآة يرى وجهه منعكسا: لاشئ سوى خنزير أبرص!


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 22, 2014 13:34
No comments have been added yet.