سفربرلك: في الحاجة إلى تاريخ مختلف
سفربرلك: في الحاجة إلى تاريخ مختلف
عبدالله المطيري
أشاهد، كما يفعل كثيرون، مسلسل سفربرلك الذي يتطرق للفترة الأخيرة من حكم الدولة العثمانية في المدينة المنورة والشام وغيرها من المناطق. سفربرلك هنا تعني القرار السياسي الذي اتخذته السلطات العثمانية سنة ١٩١٤ بالتجنيد الإجباري لكل المسلمين للمشاركة في الحرب العالمية الأولى. ضمن هذه الأحداث حدث حصار المدينة الشهير وما ترتب عليه من ترحيل ومجاعات وكوارث إنسانية عصيّة على الحصر. ما أود التساؤل عنه هنا هو سبب عدم تحوّل حكاية حصار المدينة وما ترتب عليه من كوارث إلى ذاكرة شعبية في السعودية؟ أقول أن هذه الحكاية لم تدخل الذاكرة الشعبية بالإشارة للحال التالي: كثير من الناس من جيلي أو ممن بعدهم لم يسمعوا عن هذه الأحداث إلا مؤخرا وكثير لم يسمع عنها أبدا ومن سمع عنها سمع بشكل عام لا تفصيلي. لا أتحدث هنا عن المؤرخين ولا ذوي الاهتمام الخاص بالتاريخ ولكن أتحدث عن المجموع العام من المواطنين. حتى أنني تواصلت مع بعض الأصدقاء من مناطق مختلفة من الحجاز للسؤال عن الذاكرة الشفوية التي نقلت تلك الأحداث ولم تكن الاستجابات تشير إلى حالة من الثقافة الشعبية المحفوظة والمتداولة. أعلم أن بحثي شخصي ومحدود ولكن الفكرة الأساسية هنا أن الأحداث الكبرى تصل بالعادة للذاكرة الشعبية بشكل مباشر من خلال الثقافة العامة وتمثلاتها في الآداب والتعليم والإعلام. مؤخرا بدأنا في الدخول إلى هذه الحالة المختلفة بشكل بسيط من خلال أعمال أدبية عن أحداث سفربرلك والحصار وبعض المحاضرات التاريخية وهذا المسلسل الذي يمثل دخولا مهما للفن الجماهيري وهو عامل أساسي ومؤثر في التعاطي مع الذاكرة الشعبية. يصبح السؤال إذن مالذي حدث مؤخرا ليفتح مثل هذه النوافذ؟ بالتأكيد أن الأسباب متعددة ولكن أحد الأسباب الأساسية هو أن النافذة على التاريخ انفرجت بعد تراخي القبضة الأيديولوجية عليه. أقصد بالقبضة الأيديولوجية هنا رؤية غير تاريخية للتاريخ تدفعها مواقف انحياز دينية أو سياسية. ما تفعله مثل هذه القبضة الأيدويولجية هو أن تحجب الحدث الأول: الجوع والموت والرحيل القسري. الأسر التي مُزقت والذوات التي تم شحنها للمشاركة في حرب لا تعلم عنها شيئا. تغطي القبضة الأيديولوجية كل هذا لتبقي في المشهد ما تراه هي مهما فقط. في حالة سفربرلك كان المهم أن الدولة العثمانية كانت دولة الإسلام وأن الخروج عليها كان خروجا على الحاكم الشرعي وبالتالي انتقل الحديث لصراعات ثيولوجية تبتعد عما حدث مع كل جملة جديدة يُنطق بها. هناك في المقابل تاريخ مختلف يتمثل في عودة لما حدث لا لتبريره أو لوضعه في سياق أعم بالضرورة ولكن للاقتراب أولا مما حدث. للخبرة الأولى، للناس والحيوانات والأشجار. للحدث الأول الذي يسبق الفهم والتفسير. لا يعني هذا بالضرورة أن هذا التاريخ لا علاقة له بالسياسة ولا بالأيديولوجيات فكل عمل تاريخ مرتبط بالضرورة بكل هذا ولكنه يعني أن هذا التاريخ سابق على كل هذا أو على الأقل أنه يدرك أنه لا يمكن استغراق ما حدث بالتأويلات الأيديولوجية. وبالتالي فهو يتجاوز أهداف الأيديولوجيات كذلك من خلال عمله على العودة للخبرات الأولى وللحكايات في حدوثها الأول قبل أن تكون مفهومة أو ذات دلالة واضحة. الوقع الأول الذي يسلب الوجود كما كان الناس يعرفونه ليفتح وجودا جديدا بلا ملامح. هنا يلتقي التاريخ بالفن والفلسفة والأدب. على مستوى التجربة الأولى التي تكشف الشرط الإنساني ومعضلة العيش. هذه النافذة المختلفة على التاريخ ليست محصورة في المآسي الإنسانية الكبرى كحصار المدينة وسفربرلك ولكنها ممتدة للحياة على اتساعها المتجاوز للأطر الأيديولوجية. هنا يكون لدينا تاريخ الفنون والأزياء والكلمات والأطعمة والألوان والنكهات. تاريخ للسامري والدحّة والخطوة والقلطة والعرضة. تاريخ للكبسة والمنتو والهريس وقرص البرّ المدفون في الجمر. تاريخ للشماغ وعصبة الراس وسلالات الإبل. تاريخ للكلمات وللسيول والنباتات والعمران. تاريخ لأغاني البحارة والفلاّحين وتراتيل البدو الرحّل ودموع المتهجّدين. تاريخ للطرق القديمة وللسيارات وللعطور ولتسريحات الشعر ولموضات الشباب وزبرقات السيارات والسياكل. تاريخ للنخيل والسدر والرمث وللأودية والمياه التي حفرتها عبر القرون. تاريخ للعلاجات الشعبية، للسعوط والحلتين والمرّة. للكوي والأساطير الشعبية التي حملت معها آمال الشفاء. تاريخ لتهاويد الأطفال ونداءات الباعة. تاريخ لبلل السقّاء وليد الحطّاب ولأقدام الفلّاح وحسابات الدكاكين. في كل هذا تتحقق الحياة السابقة على فلترة الأيديولوجيا. هنا تعيش الذاكرة الشعبية وما يدخل فيها من تصور الناس لذواتهم وحياتهم وعلاقتهم بالأرض والناس الذين سبقوهم عليها. نلاحظ انفراجات بسيطة في هذه النوافذ على التاريخ ويبدو أننا معها بحاجة إلى مساحة أوسع للدراسات التاريخية المنطلقة من تصورات واسعة للإنسان والحياة والوجود البشري. دراسات تتجاوز السرد الموجّه للأحداث السياسية إلى الحياة بمعناها الأوسع. لمثل هذا التاريخ أثر مهم في علاقة المجتمع بالطبيعة والتاريخ والأرض. هذه العلاقة التي يُراهن عليها في تقوية أواصر الانتماء والحب والعطاء كما أنها كفيلة بالعمل في الاتجاه المضادة لنزعات الانحيازات الذاتية والانغلاقات العنصرية والعصبية. في هذه المساحات من التاريخ مشترك إنساني جوهري يعوّل عليه كثيرا للترحيب بزوار هذه الأرض الجدد سواء من الزوّار أو من الأجيال الجديدة التي تولد كل يوم. من مهام كل جيل أن يرحّب بالقادمين الجدد وليس الترحيب إلّا أن تكون الذات صلة بين القادم الجديد وبين المكان بكل ما فيه من حكايات وتاريخ.
Published on April 16, 2023 11:07
No comments have been added yet.
عبد الله المطيري's Blog
- عبد الله المطيري's profile
- 15 followers
عبد الله المطيري isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

