إعدام مؤلف – مسرحية من فصل واحد – لـ عبدالله خليفة

المشهد الأول

تتقدم المذيعة إلى مقدمة الخشبة وهي تحمل الميكروفون وتقول :

ـــ يسرني أيها السيدات والسادة تقديم المؤلف البارز الأستاذ حمدون الأعرج ، وهو مبدعٌ غنيٌ عن التعريف ، فقد ملأ الآفاق بصوته ، وجلجل في الفضاءات باسمه وبشخصياته وبرواياته ، حتى إستحق العديدَ من الجوائز وصال وجال في الأقطار !

هل يمكن يا أستاذ حمدون أن تلخص لنا مشاورك الأدبي ولو بكلمات موجزة ونحن واثقون بأن هذا التلخيص لن يستطيع بأي حال من الأحوال أن يطفئ ظمأ المشاهدين ، أو أن يحيطَ بكل إبداعاتك الخصبة ؟

ـــ حمدون: في الواقع لقد كانت انطلاقتي الأولى من خلال حرب العصابات ، أو بالأحرى من خلال الدعوة لحرب العصابات ، وكنتُ متحمساً بشدة في ذلك الوقت لإزالة عوالم الظلم بقوة السلاح ، فأنا لم أؤمن مطلقاً بأن السادة الجالسين على خزائن الفضة واللؤلؤ والزيت يمكن أن يتنازلوا للفقراء بهذه الجبال من الأطعمة والقصور والمعادن ، وانطلقنا بقوة . .

ـــ المذيعة: أين انطلقتم يا أستاذ حمدون في جبال الجمهورية أم إلى أمكنة اللهو والشراب ؟

ـــ حمدون: بل انطلقنا في الكتابة يا أختي ، إن المسألة لم تصل إلى مستوى الرصاص الفعلي . دَعونا ، ونَشرنا المؤلفات ، وتخاصمنا ، وتضاربنا في البارات، والحارات ، والنقابات ، لكن لحسن الحظ لم نطلقْ رصاصةً واحدة ، وكل الذي حدث أنه في التدريب أطلق علي أحد الرفاق – لا بارك الله فيه – رصاصةً على ساقي فأصبت بعرجٍ ولهذا سُميت بذلك ، وكان اسمي مختلفاً . . فقد كان اسمي حمدون النبيه ، وذلك يعود لا للنباهة بل لأني من مواليد جزيرة النبيه صالح !

ـــ المذيعة: وبعد ذلك هل واصلت التدريب الأعرج ، أقصد التدريب على عرجٍ ؟

ـــ حمدون: لحسن الحظ قام رئيس الجمهورية السابق ، حفظه الله ، بل أسكنه فسيح جنانه ، بحركةِ هجومٍ سريعةٍ علينا ، وتم إلقاء القبض على كل تلك المجموعة التي لم تقاتل إلا باللسان . وتم تنقيعنا في المحابس المختلفة ، فبعضنا سكن قممَ الجبال المغطاة بالثلوج ، في عز الشتاء ، وآخرون تم إلقائهم في صحراءِ جهنم ، المعروفة في جنوب بلادنا ، العامرة بكل ألوان الطيف العقابي.

ـــ المذيعة: وهل كانت المعاملة حسنة وحصلتم على هدايا عيد الميلاد والحج؟

ـــ حمدون: كانت المعاملة في منتهى الشكل الحضاري ، فقد كنا نأكل ونكتب ونقرأ الكتبَ وننام مع حبيباتنا ونشربُ العصائر المختلفة ونذهب ليلةً واحدة إلى أفضل فنادق خمس نجوم في البلد و(.. هامساً : كل ذلك في الحلم !) . . و . . نكتب رسائل مفتوحة إلى أهلنا ، ونتعشى في الساعة الرابعة عصراً ، ونصادقُ العدسَ مصادقةً أبدية.

ـــ المذيعة: وبعد هذه المعاملة الحضارية هل واصلتم دعوتكم المتطرفة إلى حمل السلاح ، أم قلتم وداعاً للسلاح؟

ـــ حمدون: في الواقع أن رئيس الجمهورية كان في منتهى الذكاء والطيبة والمرونة والحنكة السياسية ، فاستدعانا جميعاً وراح يحدثنا بلغةِ أهل الفكر والعلم ، فسألنا : هل قرأتم كتاب (رأس المال) لكارل ماركس؟ فأجبنا جميعاً : أننا لم نقرأ كتاب رأس المال ، وقال بعضنا همساً لم يصل إلى أذن الرئيس المعطوبة : كيف نقرأ كتاباً يحضُ على جمع المال ونحن ضد المال؟ فقال الرئيس: كيف تريدون أن تحطموا دولة رأسمالية دون أن تقرأوا رأس المال؟ لهذا فأنا أعطيكم مهلةً تاريخية لتعودوا إلى بيوتكم وتقرأوا هذا الكتاب وتصارعوننا بعلم ودراية لا بجهل وقلة رباية ، على شرط أن توقعوا تعهداً بالتخلي عن درب السلاح الذي لم يضر سوى زميلكم الأعرج وحده!

فقلتُ لرئيس الجمهورية بشموخ: بما أنني الوحيد المتضرر من هذه الحرب الأهلية فإنني سوف أوقع على هذا التعهد وأمتنع كلياً عن استخدام السلاح ضد دولتي الحبيبة ووطني الغالي!

وعانقني رئيسُ الجمهورية بقوةٍ وحب أبوي وفتح لي أبواب العمل والمجد! ومنذ ذلك الوقت كتبنا الروايات والمقالات وتركنا حرب العصابات!

المشهد الثاني

(المؤلف يفتحُ بابَ شقته الواسعة وحين يشعل الضوء يفاجئ بهجوم واسع النطاق تقوم به مجموعة من الشخصيات الغريبة الأشكال ، ويجد زوجته مربوطةً على كرسي وفمها مغلق بقطعة من الستارة الممزقة).

المؤلف: ما هذا يا سادة ؟ كيف دخلتم إلى شقتي؟ ليس معي (cash many) هنا ولكنني مستعدٌ لكتابة شيك على مصرفي ، بل شيك على بياض كذلك ، ولكن أرجو أن تزيحوا قبضاتكم الثقيلة عن جسمي!

الرجلالضفدع: (وهو يجره إلى وسط القاعة) لا يا سيد نحن لسنا من اللصوص ولا القتلة ، بل نحن شخصيات مهمة في هذا المجتمع ، ولنا وضعنا الأخلاقي والقانوني الكبير ، لولا بعض التصرفات غير اللائقة التي قام بها أحدُ الأفراد المحسوبين على النخبة المثقفة !

المؤلف : تصرفاتٌ لائقة أو غير لائقة ما ذنبي أنا أن تمسكني من عنقي وتمنع الهواء عن رئتي . .

المرأة الحية: (وهي تتقدمُ زاحفةً على الأرض) كيف . . وأنت ذلك الشخص المقصود ؟ ! أنت من أجرمت بحقنا !

المؤلف : يا سيدتي الزاحفة أنتم ربما أخطأتم في المنزل أو المنطقة أو القارة ربما فأنا لم أشتغل أبداً في برنامج الأسلحة الكيمائية أو الجرثومية ، ولم أساهم أبداً في تصنيع القنبلة النووية العربية.

الرجلالضفدع: هل هي إهانة جديدة توجهها إلينا أيها السيد المؤلف ، هل تتصور إننا بقايا حرب جرثومية ما ، أو نتاج قبلة مجنونة من إرهابي ، لا! أيها السيد المؤلف نحن ضحاياك!

المرأة الحية: نحن نتاجُ قبحِكَ الروحي!

الرجل التابوت: (وهو يمد رأسه بوهن) نحن ثمرة خيانتك!

المؤلف: ما هذا ، ما هذا؟ تقتحمون بيتي وتسدون فم زوجتي الذي لم يُسد أبداً رغم كل محاولاتي في عدة سنوات ولو لمرة واحدة ، فهل أنتم مندوبو مسرح حديقة الحيوان التي سحبتُ نصي منها حيث لا يمكن أن أقبل بأقل من خمسين ألف دولار أمريكي ، ولهذا أرسلتكم كمسوخٍ وبقايا الحيوانات النافقة والمتضورة جوعاً والتي أعلنتْ الإضرابَ عن الطعام أكثر من عشر مرات احتجاجاً على الوساخة وعدم دفع الأجور وتشغيل حيوانات من بلاد أخرى ، لأجل اختطافي وتوقيع العقد بالقوة وتحت تهديد إغلاق الأفواه؟!

الرجل الضفدع: أنظرْ! أنظر! (وهو يقربه من وجه المرأة – الحية) تمعنْ في هذه المرأة جيداً ، ألم ترها من قبل؟

المؤلف: آه . . نعم . . نعم . . رأيتها مرةً واحدة في كابوسي الأول عندما كنتُ في السجن ، نعم أنها أم الخضر والليف وعشيقة الأخطبوط.

الرجل الضفدع (وهو يضغطُ عليه بشدة) تمعنْ فيها ، أنظرْ إلى جمالِها الذي كان هنا ولم يُعدْ موجوداً ، أليستْ هذه هي حصة بنت بلال ، التي كانت جميلة القد ، هيفاء ، ذات طلة بهية ، ونظرة أقحوانية ، وخلفية عربية ، وكانت راحلة بعيداً فغازلها الشابُ الوسيم ابن البلد الشعبي ، الذي أغتسلَ في زيتِ تشحيم السيارات ، وتطهرَ بطمي الحارات ، وأنشد أجمل البيانات ، فهجرتْ أوربا الخضراء وجاءت إليه تسعى ، واستراحت في صدره ، أليست هي؟!

المؤلف: يا سيد أنا لا أتذكر . . أيُّ مسخٍ هذه ، أنا صنعتُ آلاف الشخصيات ، مدينةً كبرى ، فمن أتذكرُ ومن؟ ثم كيف يُعقلُ هذا كله؟

الرجل الضفدع: تطلعْ إليها ، هذه التي كانت غضةً بريئة ، نجمةً وردية في السماء ، ثم حولتَ زوجَها الرائع الذي لم يستطع أن ينضم إلى هجمتنا هذه ، بسبب انتحاره بغاز الأعصاب ، إلى مدمنِ هيروين بلا أي منطقٍ وبلا أي تبرير فني أو موضوعي ، وتحولت الخليةُ الشعبية التي كان من الممكن أن تتحولَ إلى الأساسِ الصالح للمجتمع إلى نزيفٍ يومي ، وعراكٍ بالنعال وعلب الطماطم وبزجاجات الكحول الفارغة لحسن الحظ ، وبدلاً من تلاقي الخضرة الأوربية والأرض اليابسة العربية ، صارا جرادتين متعاركتين على قشور الفول السوداني بعد كلِ سهرة تصلُ إلى الفجر ، فكان يغرزُ فيها أظافره وكلماته حتى صارت بهذا التشوه ، أإلى هذه الدرجة قمتَ بتشويهها وهي . . التي كانت . . والتي حصلت على ترشيح لمسابقة جمال الكون!

(تحاولُ زوجةُ المؤلف أن تتملص من قيودها وتصدر أصوات : ما . . ما . . ، لكن المؤلف الذي يتطلع إليها ، يبعد نظره عنها ، ويتكلم).

المؤلف: الآن بدأتُ أتذكر . . ثم غدت مثل الليمونة التي تــُركت في الشمس عشر سنوات ، فتغضن وجهُهُا وصارت مثل الساحرةَ التي تركبُ المقشةَ ، ولكن الأهم ما فيها هو حبها الهائل للنقود والجوائز والبيوت ، وللرجال الذين يهربون منها كما يهربون من الجدري والسرطان! أتذكرها الآن . . يا رجل قلْ أنها أم أحمد . . ملكة الموت في قصتي (الشريدة) ، لماذا هذا اللف والدوران؟

المرأة الحية: (صارخة) أهكذا يصورون النساءَ يا حقير؟ أليس لديك أية رحمة؟ أهكذا تفعلُ بي وتتركني وتقطعُ التسلسلَ المنطقي العقلاني في القصة ولا تترك الرجلَ الذي هامَ بي يقبلني ويضمني في آخر لقطة؟ كنتُ أتحرق شوقاً لتلك القبلة واللمة يا ظالم!

الرجل الضفدع: أنظرْ . . ومن تلك المأساةِ الرهيبة نتجت هذه المرأةُ ، هذا المسخ . . كان أفضل لمكانتك الأدبية أن تــُطبقَ على عنقها وتخمد أنفاسها!

المؤلف: الحق معك في هذه الجملة.

الرجل الضفدع: وأنا . . ألم تنتبه إلى شخصي . . أنظرْ ماذا فعلتَ بي؟

المؤلف: ماذا بك أنتَ أيضاً؟ أرى رجلاً ذا عنقٍ طويل وفمٍ واسع وله عينان جاحظتان مكتنزتان بالمعنى والعمق.

الرجل الضفدع: ألم تبصرني جيداً ؟ أنا كنتُ رفيقك في حربِ العصابات المأسوف على شبابها ، نزحفُ معاً ، ونقبلُ البنادقَ كحبِ أمٍ لأطفالها ، وكنا نهاجمُ معاً الصالونات الأدبية بالطماطم الخائسة والجملِ الملتهبة ، ونقدمُ الحارات الجائعةَ على أطباقٍ من لهب ، ونسحبُ شخوصَ العتالين وباعةَ الخضار المتنقلين والحمارين إلى قصورِ السادة وأفران المطابع ، ومخادع الملكات المتوجات بالعملة الصعبة ، فتجرجرنا الشرطةُ الثقافية وترمينا في الزنزانات والبلاعات الفائضة بالجثث المقتولة من أهل الحارة ، ويضعون في آذاننا الرصاصَ السائل فيطلع عصافيرَ وورداً ومنشورات.

ألا تتذكرنني؟ أنا رفيقك في المطبعة ، وفي زقاقِ الهتاف ، رفيقك في الجوع الدائم ، حيث السنارات الممتدة في بحرٍ بخيل ، وحيث السرطانات تأكلُ أصابعَنا ، والأشباحُ تحرقُ أوراقَنا ، ألا تذكرنني أنا الذي حميتُ ظهرك في البرد وفي الظلام.

المؤلف: وماذا بعد دوختني يا أخي؟!

الرجل الضفدع: بعد كل هذه الرفقة النضالية العظيمة تحولني إلى آلةٍ حيوانية ، إلى حصالةٍ نقودية ، إلى نقنقةٍ ورقية ، ليس لدي سوى أن أمضغَ الورقَ وأخرجه ، أمضغُ الورقَ وأحوله إلى ورق ، فأنا جالسٌ في بركةِ وحل واسعة ، وأنق ، أمد يدي وآخذُ النقود ، شحاذ مائيٌ ضفدعي ، الورقُ يطلعُ بلا توقف ولكلِ حرفٍ ثمن ، ولكلِ كلمةٍ شيك ، ولكلِ عبارةٍ سهم ، ولكل كتاب صك ، وأنا لا أشبع من الورق الذي لا يُشبّع ولا يُؤكّل ، جائعٌ دائماً ، معذبٌ للغذاء الطبيعي ، كلُ لوزة تتحول إلى ورقة ، وكلُ موزةٍ تغدو قرضةً ، وكلُ تمرةٍ تصيرُ غصة ، وكلُ قبلةٍ تصيرُ قرصةً، وآه من القرصات ، فكلُ فقيرٍ يمر يقرصني ، وكل شاعر حقير يرفسني ، وكلُ كلبٍ ينبحُ يبولُ في البركة ويُظمئُني ، وأنا لا أتوقف عن النق ، والدق والرتق للورق ، أحسبُ كلَ صفحةٍ سوف تصفحُ عني فإذا بها تصفعني ، وأرى كلَ بياضٍ كالسماءِ فإذا هو برصٌ يلبسُني.

فآه يا خالقي وصديقي وقاتلي كيف حولتني إلى ضفدع وأنا مشروع بلبل؟!

(يبكي فتظهر دموعٌ ورقية كثيرة) .

المؤلف: أنا . . أنا . . صدقني لا أعرف ، هذا هو سر الإبداع ، يأتيك من حيث لا تدري ، ويُشعلُكَ وأنت في عز الحر ، ويوقظك في عمق الليل ، ويطيحُ بعقلك ، ويفجرُ براكينك الخامدة . .

الرجل الضفدع: لكن أنا . . أنا كنتُ فكرةً نارية ، أركبُ رصاصةً منطلقة إلى النجوم ثم أصيرُ دودةً في تفاحة عفنة ، كيف ؟ !

المؤلف: (يخاطبهُ هامساً وبحذر) لقد أعطيتكَ حريةً ، قلتُ لك تعلمْ ، تحركْ ، أخلقْ، أمشِ على الأرض الحقيقية بهضابها وحفرها ، أنا لم أُرد أن تكون آلةً بيدي ، بل شخصيةً من لحم ودم ، فرحتَ أنت تزحف على بطنك وتتلقى الركلات والعملات ، لا يهمك سوى إرضاء زوجتك التي لا تشبع من الفساتين والعشاق والرحلات وصرتَ حتى لا تشتهي أن تراها ، عجّزت وقبحت وغدت ثرثارة مجنونة ، فاتسعت عيونك من البحلقة في التقارير والوجوه والأزقة ، واتسعت آذناك للصمت المرهف ، ونسيتَ حفيف الأشجار وموسيقى العصافير . . !

الرجل الضفدع: أنا . . ألم تكن أنت الذي تسكتُ عن أخطائي ؟ ألم تكن أنت الذي أبتكر فكرةَ الحيلة ، وقلتَ أن الأدب حيلة ، والفكر حيلة ، والشعر حيلة ، والزواج حيلة ، والحياة كلها حيلة ! وأنك من الممكن أن تعيش في مغارة اللصوص وقلبك مع علي بابا ، أن تأكلَ العيش الأصفر في قصر يزيد وروحك مع الحسين ؟ !

المؤلف : نعم قلتُ ذلك ، ولكن الحيلة التي لا تحولك إلى وحل ، وأن يجثم المقاوم الخفي داخلك ، وأن تظل أسلحتك فاتكةً رغم تراكم الغبار عليها ، وأن تعرف متى ترقصُ ومتى تقرص . .

الرجل الضفدع: (مقاطعاً) ومتى تهرب ومتى تسكت والمذابح وسيول الدماء تنهمرُ حولك ومتى تختفي كفقاعة وتظهرُ كبالونٍ ملون في السماء ، ينفجر من قرصةِ ظفرِ طفلٍ ، حتى ظن الناسُ إنك شبح وكاتبٌ أجنبي مترجَّم . .

المؤلف: (منزعجاً) . . ! ؟

الرجل الضفدع: تعلمتُ هذا منك بجدارة ، اختفيتُ ، تواريتُ ، توحلتُ ، متُ ، توحدتُ بالورق ، أنا كنتُ أيضاً أحتال ، راكمتُ ورقَ البنكونت ، تحايلتُ ، مدحتُ الفئران والسعالي والكلاب وكلَ من يضع في جيبي ورقة ، ولم تكن تشتمني ، أو تريني شيئاً آخر ، تحتضنني ، تفتح ذراعيك لي ، تدعني أراقبُ الناسَ ، أكتب الورق عنهم ، حتى اتسعت عيناي وصارتا حفرتين من الرماد !

المؤلف : هذا اختيارك أنت ، ليس لي دخل بقراراتك وانهيارك ، كانت فيك خصالُ الضعف منذ البداية . .

الرجل الضفدع: وأنت استغللتَ هذه الخصال ، استثمرتها ببشاعة ، تحايلتَ على روحي ، تعكزتَ على ضعفي ، فرحتَ بخلقي ، وتشوهاتي ، وتطوراتي ، التي حصرتها في جاذبيتك ، حاربتُ عنكَ حروباً لم تخضها ، وكل لحظةٍ أحاول فيها الخروج من ثيابك تعيدني إلى حصارك  . . لم تجعلني مرةً واحدة أثور ، أخرج من البيت ومن سيطرة زوجتي وأهاجر ، لم تجعلني مرة واحدة أحتفي ببطل حقيقي . . (ملتفتاً  إلى الشخصيات الأخرى) أنظرْ . . كل هذه الشخوص الآلية ، والمعطلة ، والمنسحقة ، والمنسحبة ، والمنفلشة ، كل هؤلاء المجانين ، وضاربي الودع والإبر، وأعضاء جمعيات الكيف . أنظر ْ . . هذا شخص يرتعش طوال الحياة ، يهتز بلا توقف ، به مسٌ  كهربائي فلا هو يضيء ولا هو يحترق . . كلُ هؤلاء نتاج عقليتك العظيمة ، مملكةٌ كلها معطلةٌ من الفعل والخلق ، مجرد آلات تتحرك قليلاً ثم تتوقف، جذوع نخلٍ تمدُ سعفاتها اليابسات في الطرق وتتسول الرطب . .

وأنظرْ خاصةً إلى ذاك ، تعال يا سالم غانم !

الرجل التابوت: إن مأساتي كبيرة يا صاحبي ، فقد بدأتُ حالماً كبيراً ، وكانت بي طاقة هائلة على الصدق والفعل ، لم توجد مظاهرة لم أشترك فيها ، غيرت الكثيرين من أهل حارتي ، الذين غدوا شجعاناً ، لكن هذا الرجل المؤلف بذر في نفسي بذرة سيئة ، لا أعرف كيف تسللت وانغرست ونمت حتى أكلتني فصرتُ من خشبٍ . إنها بذرةُ الكذب . يقول أكذب ، فعملنا يتطلب الكذب ، أعترف للشرطة فلا يهم ذلك ، والمهم أن تخرج مناضلاً نظيفاً ، المهم أن تصْدقَ مع رفاقك فقط ، قلْ للشرطة ما يحدث فلا يهمنا ذلك ، فرحتُ أكذب وأناضل وأعترف وتكدست الاعترافات ، وأناضل ، وأكذب ، أقبع في الزنازين وأخرج كأني لم أفعل خطأً ، أعود إلى أهل حارتي وأنا البطل المنتفخ ، وتنتشرُ القصائد والأغاني عني ، يصنعون لي تماثيل ، يجري الأطفالُ من طريقي إذا دخلت الزقاق ويقف الرجال ، وأنا محشو في داخلي بالتبن ، عملاق أسمر يسير في الشوارع كمارد ، ومرة واثنتين وعشر ، حتى اعتادت الزنازين على لحمي ، وتغذت طيورُ السجن من عظامي ، مات أهلي ، تشرد ربعي وهو يقول لي أكذب ! أدخلُ وأخرج والمنشار يحفر عقلي ، ويذيبُ لغتي وضميري وكلماتي ، هرب الناسُ مني ، ولم يعد لي أصدقاء ، وهو يقولُ لي أكذب ، اختفت المواعينُ والأسماك والطيورُ والقطط من بيتي ، وقبضاتُ الشرطة تدقُ الباب ، ورحتُ ارتعب ، أزحفُ تحت السرير ، وأرى الأحذيةَ القوية ، ويصدمُ رأسي بالجدار ، وأختفي في الدولاب ، أتغطى بالملابس ، أكتمُ أنفاسي وأنا أسمعهم يتقدمون لاعتقالي ، أكادُ أختنق من الحر والغازات ، وهم يتقدمون ، ويدقون على دولاب الثياب ويهمسون : أين القطة الحلوة ؟ أين العفريت الصغير ؟مشيتُ ، تعريتُ ، تظاهرتُ بالجنون ، وهم لا يتركونني ، نزلتُ البحرَ عارياً وهم لا يتركونني ، وهو يقول لي أكذب ، حملتُ دولابَ الملابس فوق ظهري ، كلما سمعتُ صفارةً وضعته واختفيت فيه ، حتى حولته إلى تابوت !

الزوجة: ( لا تزال تمأ مىء وتضطرب ) . . آ . . آ . .م م م م . . !

الرجل الضفدع: أزيحوا الستارة عن أسنانها قليلاً !

الزوجة: (وهي تنفجر) وأنا . . أنا لا تعطونني فرصة لأشرح خيبتي مع هذا الرجل، تزوجني وأنا وردة ، طفلةً تحبو على رمل الشعر ، كتب فيني أجمل الكلمات ثم حبسني في البيت ، ملأ المنزل بالعيال ، صرتُ آلة ، في كل سبعة شهور أنجب ولداً ، وهو يغيب كل ليلةٍ في الحانات ، وكل شهر في سفر ، ولقاءات دائمة مع المعجبين والمعجبات ، وتوقيع الكتب والقبل ، والجلسات مع أصدقاء الفكر والمزة والمعسل ، ثم صار عنيناً  ! . . .

الرجل الضفدع: أغلقوا فمها ، فلا نريد فضائح عائلية .

المشهد الثالث

 (تنطفئ الأنوارُ كليةً ، يحدثُ ظلامٌ دامس ، تظهر عينان مضيئتان ، تبصبصان في كل الاتجاهات ، يتحركُ الجسمُ الكثيف السواد في المكان ، تــُضاء الأنوارُ فجأة وتضبطُ الرجلَ – الفأر وهو يمسك مخطوطةً !

المرأة الحية:  من هذا ، أي حيوان غريب  . . ؟

الرجل الفأر: (وهو يرتعشُ) أنا حيوان . . يا بنت آوى . .

الرجل الضفدع: ماذا تفعل يا كريم الآن ؟ أهذا عملٌ جديد لك ؟ !

الرجل الفأر: (وهو مذعور) كلا ، كلا !

الرجل الضفدع: ولكنني أرى عملاً جديداً لك ، لماذا تخاف ؟ أنت مبدعٌ كبير وصاحب إنجازات . . (يلتفتُ إلى المؤلف) هذا ضحية أخرى من ضحاياك ، كتلةٌ من الأعصاب المهتزة التي تعيش في الغيران ، هناك الضوء الشحيح لها ، هناك تخطُ كلماتها برعبٍ ، وهي تلتفتُ في كل لحظة ، مثل عصفور يحطُ من فوق جدار على سطحٍ مليءٍ بالأولادِ الأشقياء ، وهو شديد الجوع ولا توجد سوى كسرة خبز .. لكن العصفورَ يحطُ ويتلقى الحصى والبصاقَ ، ويخطفُ الكسرةَ ، ويعود العصفورُ فأراً في غاره ، جسدهُ دامٍ ، ويروحُ يخطُ ويتلفتُ ، يغرسُ كلمةً ، ويتلفتُ . .

(يتقدم نحوه) حدثنا عن تجربتك يا كريم ، قلْ قصتك مع المؤلف . .

الرجل الفأر: أنا أتحدث ؟ أقول قصتي . . ؟ ما هذا الهراء ! أنا ليست لي أي قصة ، أنا مواطن  مسالم ، لا أتعدى إشارات المرور ، أذهب إلى عملي بانتظام ، كل رؤسائي يشكرونني ، لا أكتب أي شيء ، أنام منذ الساعة التاسعة ، ولا أحلم ، لا أشارك في العرائض . .

الرجل الضفدع: لا أحد غريب هنا يا كريم ، فأنظرْ إلى هذا الرجل ، ألا تعرفه ؟ ألا تشعرُ بشيءٍ تجاهه ؟

الرجل الفأر:  (يحدقُ بخوفٍ وكره نحو المؤلف ويدمدم !) .

الرجل الضفدع: هيا دعْ روحك تنطلق . خففوا الأضواء يا سادة ، ركزوا عليه وكأنه يعيش في غاره وحيداً ، وليطلق شحناته الكهربائية !

الرجل الفأر: كنا صديقين حميمين ، كان يشعر تجاهي دون مخلوقاته الأخرى بودٍ عميق ، كان يحضرُ إليّ في قلبِ حارتنا المليئة بالصغار الشياطين ، لنناقش فوق السطح كيفيةَ الاستيلاء على المدينة ، وكيف نحررُ خزائنَ البنوك من الأنانية والوحدة ، كان يعطيني بعضَ المنشورات لأوزعها في الحارة ، وهو يعرفُ إنني أموتُ من الخوف ، وبعد أن أُلقي بضعَ أوراق في مزبلةٍ أو فوق جدارٍ وأهرب هرباً سريعاً ، أتجمدُ على سريري وأتقلب ، كلُ دقةٍ أحسبها قدوماً للشرطة ، وكل نفخة هواء أظنها هجوماً عسكرياً ، ومرةً كنت أمشي في ممر مظلمٍ وأردتُ أن أسربَ منشوراً من شقِ نافذةٍ خشبية قديمة ، فإذا بها تــُفتح وأرى رجلاً ذا وجه ضخم وشوارب بحجم مكنسة هائلة ، تجمدتُ برعب وحركت المنشور قليلاً قليلاً حتى أدخلته في فمه المفتوح ، وبعدئذ تبخرتُ . .

المؤلف : هذه واقعة لم أعرفها من قبل . . كيف تخفي عني الوقائع هكذا ؟

الرجل الفأر: كنتُ أرتعش في حضوره ، أكاد أنطقُ بالكلمات وأصيحُ : يا سيدي أنا رجلٌ جبان ، لكن حين أراه وأسمع كلماته أقطع شريطي الداخلي . يقولُ : لا تخفْ أبداً ، الشجاعة لم تــُصنع معنا منذ طفولتنا ، بل نصنعها نحن بمواقفنا الصغيرة المتراكمة ، تنمو معنا ، مع ازديادِ غضبنا وتساؤلاتنا وتحدياتنا ، تتشكلُ بين الجدران وفي الظلام وفي التعذيب وفي الحب وفي الإيمان ، شجاعتنا تزدهرُ مع لغتنا ، مع الضوءِ الذي نتوجه إليه ، مع المستقبلِ الذي نخرجهُ من الأفق كشمسٍ كبيرة عظيمة . مع الأطفال الذين ندافع عن حليبهم غير الملوث . كنتُ أحبُ هذه الكلمات ، كنتُ أتطلعُ إليه مبهوراً .

وذاتَ يومٍ قال لي: لك موعد تجريبي مع الشجاعة . اليوم ستولدُ . ووضعَ في يدي كيساً . أرتجفتُ . لكنني تماسكتُ . قال: هذه قنبلة ، أضربْ مركزاً للأعداء ! ارتعبتُ ، كدتُ أموت ُ ، صعقتُ . . نمت . . صحوتُ . . شرقتُ بالماء . . تنبهتُ إلى موعد إلقاء القنبلة . . تنملَّ جسمي ، مددتُ يدي إلى الكيس ، لم أجده ، فرحتُ ، لكنني وجدتُ أكياساً عدة تحت سريري ، تحسستها ، أخذتُ واحداً وأنا أهتز ، وضعتُ قدمي في نعلِ أمي ، سرتُ ، أتذكر كلماته وهي تدفعني : الشجاعة تعلمٌ وموقفٌ وتراكم نفسي ، أضيعُ بين الأزقة ، أجدُ الخبازَ أمامي لا مركز الشرطة ، يسألني الخباز : ماذا تريد يا كريم ؟ ألم تأخذ أمك الخبز قبل قليل ؟ ! فأقول : بل أريدُ زجاجةً من هذه العجائن الفارسية البحرية الشهية ، فيناولني زجاجة تضاف إلى زجاجتي ، فأتخيلُ نفسي أسبحُ في بحرٍ واسع عميق وأنا مرفوع بعدة زجاجات فارغة ، والموجُ يتلاطمُ حولي . .

وأخيراً وجدتُ مركز الشرطة أمامي ، والظلام يلفهُ ، ولا توجد سوى هسهسة الجنادب ، ووأوأة العصافير النائمة ، وصحتُ في نفسي : لتكن الشجاعة اليوم وليس غداً ! وألقيتُ الزجاجةَ التي انفجرت وأصدرت روائح رهيبة ، وتراكض الناس ورائي وهم يسدون أنوفهم ، حتى ألقوا القبض علي . .

تخشبتُ في الزنزانة ، جثمتُ أياماً لا أتحرك ، لا أشرب ، لا أتبول ، لا أعرف ، اعترفتُ ، كتبتُ كلاماً كثيراً يملأ غرفةً ، منذ أن ولدتني أمي ، كيف سرقتُ أول فلس ، كيف نظرتُ لبنتِ الجيران ، كيف ضربني المعلم ، كيف كنتُ أتبول في فراشي وضربات أمي ، وعجزي عن ملامسة أي امرأة ، وحبي للظلام ، ولكني لم أتكلم عنه ، عن معلمي الكبير ، أخفيته في ظلمات خوفي ، أحسستُ  إنني أقوم هنا بفعلٍ عظيم ، رغم إنني وُضعتُ في قبرٍ لمدىً طويل ، وفي كلِ تلك اللحظات الطويلة المرهقة لم يسأل عني أبداً . .

المؤلف: كيف أسألُ عنك ، أين ضوابط العمل السري ؟ !

الرجل الفأر: خرجتُ متهدماً ، كلُ ظلٍ أعتبره شرطياً ، كلُ نأمةٍ أحسبها كبسة ، أكتبُ ، أكتبُ كثيراً ، ولا أعرف ماذا أقول أخفي أفكاري عن أفكاري ، وألاحظ عيني وهي تراقبُ رأسي ، رِجْلٌ تمشي في اليمين ورجل تمشي في اليسار ، عدة أشخاص يتصادمون في جسمي ، أنا ثائرٌ على الثوريين ، صاخبٌ على النائمين ، في هذه اللحظة وأنا حطام ، أجثم في غرفة فيها بعض الضوء ، جاءني وقال : دعنا من الماضي ، إن الثوريين لا ييأسون ، بعد فشل الثورة العاشرة يفكرون بالثورة العشرين ، فصرختُ فيه : أنا بعد سنين من السجن لم يبق لي شيء ، لا أعرف عملاً ، ولا مدخرات لي ، وبيت الأهل القديم بعته وسددتُ ديوني ، وليس لي سوى هذه اليد تكتب ، هذه العروق الأخيرة تتحدى الجوعَ والظلام والحزن ! فقال: لندعها تكتب ، لندعها تستغل إمكانياتها ، أكتب وأعطني وأنا أنشر . . أجبته: لكنني لا أكتب . . قال: أحضرْ خربشاتك وأنا أعدلها . لا تخفْ ! صحتُ : ليس ليّ خربشات ! أعطيته وورقي ، وصار يظهرُ باسمه ، وانتظر نقودي بلا فائدة ، اتصل به فيقول ليس لديك حتى الآن حساب في البنك ، ويضيف : أين القصة التي وعدتني بها ؟ يحضر رجلٌ من الوطاويط ، يدقُ على باب غرفتي ، يقول : ماذا تفعل يا كريم ، أتكتب ، ماذا تكتب ؟ أجيب: أقسم بالله العلي العظيم إنني لا أكتب . تتسللُ يداه إلى ثيابي ، فيظهرُ ورقٌ ، تتسللُ إلى جلدي فتقفز قصةٌ ، أختبئ تحت السرير فأرى وطواطاً مسترخياً يبصُ في عيني ، أحفرُ في  الجدار ، أصنعُ سرداباً ، أحفرُ الكلمات: فيأتيني صوتُ المؤلف الذي لا يؤلف: ماذا تفعل عندك يا كريم ؟ !

الرجل الضفدع: والآن نقدمُ لكم الضحية الأخيرة المعاكسة ، المرأة – البالون !

المرأة البالون: (حين تتقدم تنفجرُ بالوناتٌ عدة) أيها الحضور الكريم يطيبُ لي أن أتقدم مدافعةً عن هذا الكاتب المغبون ، الرجل الذي وقف مع النساء دائماً ، فأنا على سبيل المثال لا الحصر ، كنتٌ كاتبةٌ غضة ، مبتدئة ، لا اعرف شيئاً من فنون الكتابة ، فأخذ بيدي على سلمِ المجد ، قدمني إلى الصحافة والتلفزيون ، كتبَ نقداً بناءً عن أشعاري ، عرضوني في الندوات ، طبعوا لي طبعات فاخرة ، نلتُ جوائز كبيرة ، عملتُ مقابلةً مع أمرئ القيس ، ومقابلةً مع أبي نواس رغم أنه لم يكن مهتماً بي كثيراً دون أن أعرف الأسباب ، حين أذهب إلى المهرجانات الجميع يلتفُ حولي ، صار الكثير من النقاد يكتبُ عني ، وأنا أقول إنني لا أستحق كل هذا المديح ، فأنا امرأة موضوعية عصرية ، صحيح إن جمالي وأنوثتي البارزة تلعبان دوراً كبيراً في ذلك ، لكنني أوجهُ النقادَ إلى الاهتمام بالجانب الفني الحقيقي ، وأنه من الضروري أن يبتعدوا عن المؤثرات الشخصية ، حتى جاء أحدُ المسعورين الحاقدين وزعم إن ما  أكتبه ليس سوى هراء نثري ، ورفع قضية على المجلس الثقافي لدينا لكثرة إرسالي ضمن الوفود الثقافية ، وترشيحي لأكبر جائزة أدبية دولية ، ولطباعة كتبي العديدة ، وجعلي سفيرة دائمة للثقافة ومندوبة الدولة الفكرية في الأمم المتحدة ، لكن كل هذه الحملة المسعورة من الناقد المذكور ، (والسبب إن زوجته شمطاء ، وعبرَّ لي مراراً عن وده ، لكنني لم أعطه وجهاً) ، لم تستطع النيل مني ، بفضل هذا المؤلف العظيم الماثل أمامكم ظلماً ، فهو الذي تقدم للدفاع عني ، بعد أن راح يصنع المقدمات الجميلة لدواويني ويفاتحني بنقد مسبق حولها ، فصرتُ أتقدم بشكل مهول ، وأخرسُ كلَ الألسنة الحاقدة !

المؤلف: (يصفقُ بحماس . . لوحده) .

المشهد الرابع

(الصالة المنزلية تتحول إلى قاعة محكمة يرأسها أحدُ الأشخاص الجدد ، والمؤلف في القفص ، وثمة حضور من الكائنات المزدوجة: الرجل – الضفدع ، المرأة – الحية ، وأشكال أخرى متعددة من هذه المركبات البشرية – الحيوانية ، وثمة لغط وانتظار وتحفز.) .

القاضي: لقد أعطي المؤلف فرصة للدفاع عن نفسه فحضر أحد أهم الكتاب الباحثين للقيام بهذه المهمة .

الناقد الثعلب: لقد كانت كلُ الوقائع الاتهامية المقدمة عاجزةً عن التفريق بين الإبداع والحقيقة ، فالإبداع لا علاقة له بالحقائق والوقائع الدقيقة في الحياة ، بل هو خيالٌ والمؤلف يصور ما يجري ، وليس هو مسئول عن كون الشخصيات في الحياة كلها ساقطة ومبتذلة ومائعة أخلاقياً ، لقد انهار الناسُ وتدمروا ، والمؤلف الصادق مع نفسه يلتقطُ ما يجري فيهم ويصوره ، هل يخلقُ بشراً من الفراغ ؟ !

ولأكن صادقاً معكم فأنا نفسي كنتُ مخلوقاً من مخلوقاته الاجتماعية والفنية ، كنتُ أعيش في حارة مكتظةً بالناس ، نهاجمُ ساحلَ البحر ونأكلُ السمكَ الصغير والقواقعَ والمحار وأسماك القرش ، وكنا كلنا في ذاك الوقت مناضلين ، أشداء ، وكان المؤلف يزورنا في بيتنا المتداعي ، ويلمحُ فيني بذور النقد ، فأنا لا أبقي نقداً عند أحد ، فكنتُ أهاجمُ الخبازين وأسرقُ نقودَهم الصغيرةَ ، وأخدعُ الشحاذين القلائلَ الذين يمرون في الحارةِ فأقودهم إلى بيوت خالية وأهجم عليهم ، وكان الرفاق يقيمون لي محاكمة على الساحل الواسع في ذلك الحين ، فكنتُ أدافعُ عن نفسي بخطب جعلت المؤلفَ يعجبُ من سحر بياني .

ومن ذلك الوقت أخذ يوظفني في تقريض أعماله ، فحين كانت تظهر له قصصه الأولى في الصحافة ، كنتُ أسارعُ بنقدها ، فأشرشحها شرشحة مرة ، وبطبيعة الحال من خلال اسم غير اسمي ، ويكون لهذه المقالات صدى مدوٍ ، لأنها كـُتبت بطريقة النقد الذاتي الضعيف المهلهل ، ثم أقوم بعد عدة أيام بالرد على نفسي ، ومن خلال اسمي هذه المرة ، وعبر النقد الرزين فاكشفُ الأخطاءَ الكبيرة التي تعمدتُ بناءها ، ليصمت ذلك الناقد إلى الأبد ، ويختفي كفقاعة.

وبعدئذٍ يكون للمؤلف صيته الواسع! كما تكون لي دعوة على سهرة عامرة  وأشياء أخرى.

بطبيعة الحال لم تعجبني دعوة المؤلف لحرب العصابات ، خاصة أنها واكبت ظروفاً غير مؤاتية ، فكنتُ موظفاً متطلعاً إلى منصب مهم في الوزارة ، كما أن جبالنا كلها أشبه بتلالٍ تافهة ، لا توجدُ فيها مغارات ، ولهذا فقد قطعتُ الخيوطَ مع كتاباته وسيرته ، في الظاهر ، أما في الباطن فكنتُ أعلن حبي له خاصة لأصدقائه المقربين جداً . وأقول لعله يكون له شأن في يوم من الأيام ، فلماذا أعاديه؟ خاصةً إن حبي له لا يمنع كتابة أطروحة الدكتوراة عن شعراء المجون في العصر العباسي.

وبعد أن خرج ، وأحتل موقعه في الوزارة ، تغير نقدي من الاهتمام بالشعر إلى الاهتمام بالنثر ، ومن قضايا المجون إلى قضايا الثورة ، وهو لم يبخل علي بإهداء مجموعاته وكتابة إهداءات شعرية حميمة ، وحينئذٍ في الواقع رأيتُ موهبة فذةً صقلتها معاناة التجربة المؤلمة ، وأنضجتها نوافذُ الانفتاح والإطلاع.

سيدي القاضي هنا كان عليه أن يعري الحياة التي رآها ، وتلك الشخصيات المحبطة المهزومة التافهة ، هي نتاج خياراتها ، نتاج بذور الضعف مثلي أنا ، الذي أعترف بأنني كنتُ ضعيفاً ، ونفس المؤلف صورني وعراني فغسلني .

 بطبيعة الحال لديه عادة خاطئة كبيرة ولا تغتفر لكنه بشر . وأضربُ مثالاً واحداً وهو إنه يقرأ النقد أولاً وقبل النشر ، ويصحح فيه ، وعدة مرات كتبه بنفسه ، وأحياناً يلكمني بقسوة نظراً لبعض الهفوات . لكن كان كريماً ففي كل ندوة وفي كل سفرة كنتُ أحد المدعوين.

القاضي: في الواقع إن كل مزاعم الشخصيات بجناية المؤلف تعتبر باطلة حسب قوانين النقد والإبداع ، ولهذا أنا لا أجد أمامي متهماً ولا قضية!

الرجل الضفدع: ما هذا الحكم ، هذه مؤامرة ! إن في الحياة نماذج فذة ، مثلي أنا الذي تم تشويهي بشكل صارخ ، ولم يقم النقاد المأجورون بفضح ذلك ، بل كانت تقام حفلات ودعوات سفر فيكتبون تقريضاً عظيماً لقبحنا وتفاهتنا ، وربما يكون حتى هذا القاضي مؤامرة مدبرة من وزارة الإعدام!

القاضي: يجب أن تتحلوا بالصبر والشجاعة لتعترفوا بأنكم كنتم شخصيات متعفنة بشكل موضوعي ، خائسة منذ طفولتها ، ولم يفعل المؤلف شيئاً سوى أن ترك لها مجال التبرعم والأزهار الشرير.

 المرأة الحية: أتعرفون من هو هذا القاضي أنه بطل قصته (الحصان) الذي حكم المدينة وأخرس أصواتها ، وراح يسربُ النملَ والضفادعَ إلى الأسواق والمنابر!

القاضي: أسكتِ أيتها الشريرة ، سوف أطلق عليكم النار جميعاً!

الشخصيات كلها تندفع بذيولها وخزاناتها ووطاويطها وصرخاتها نحو المؤلف لتخنقه وتتحول إلى زهر وعصافير ونوارس تنطلق في كل اتجاهات المسرح.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 25, 2025 17:42
No comments have been added yet.