في خصائص اللون الأصفر على مرّ العصور

باسم سليمان 2 سبتمبر 2025

أُلقي القبض على أوسكار وايلد في لندن في أبريل ١٨٩٥! وفي اليوم التالي، نشرت صحيفة “وستمنستر غازيت” اللندنية عنوانًا رئيسيًا: “اعتقال وايلد، وبيده كتاب أصفر”. كان أوسكار وايلد قد أدين سابقًا بتهمة الفحش في كتاباته من قبل المحاكم! والآن مع ما عنونت تلك الصحيفة في صفحتها الرئيسية، ثبتت التهمة على وايلد أمام الرأي العام، فأي رجل شريف سيتجوّل في الشوارع علنًا حاملًا كتابًا أصفر؟ لا تتعلّق النظرة السلبية للكتب الصفراء بذلك الوصف الذي نصبغه على الكتب القديمة التي أصفرت أوراقها بسبب الزمن، وأنّها لم تعد تسمن ولا تغني من جوع معرفي! وإنّما جاءت هذه البدعة من فرنسا، فلقد كانت الأدبيات الشهوانية، منذ منتصف القرن التاسع عشر، تجلّد بأغلفة صفراء زاهية، لتلفت الانتباه! فهل كان الكاتب إدغار آلان بو محقًا بذمّها: “التفاهة الأبدية للكتيبات ذات الغلاف الأصفر” مع أنّ بو كان متمردًا على الكتابة الكلاسيكية ورائد الكتابة البوليسية، التي صنفت هي الأخرى ككتب صفراء!                                                                                                  لقد كان اللون الأصفر بالنسبة لبعض الكتاب والرسّامين في أواخر القرن التاسع عشر رمزًا حداثيًا وجماليًا وانتفاضة على المفاهيم الفيكتورية المتزمّتة، لذلك كان الكتاب بالغلاف الأصفر رمزًا للثورة، حتى أنّه أطلق على العقد الأخير من القرن التاسع عشر: “التسعينيات الصفراء” بسبب كسرها للتقاليد  الفيكتورية. لقد خصّ الشاعر الإنكليزي “ريتشارد لو جاليان” مقالة مطوّله عن أهمية اللون الأصفر الثورية قائلًا: “حتى عندما يفكّر المرء في الأمر، يكاد لا يدرك كم من الأشياء المهمة والممتعة في الحياة صفراء”. يعدّ اللون الأصفر، بحسب الدراسات العلمية من الألوان التي تلحظها العين بسرعة، حتى عند السير بسرعات عالية وهو يرى أيضًا من مسافات بعيدة. ولربما أفضل شرح ممكن لهذه الحقيقة العلمية يكمن في إشارات المرور حيث يتوسّط اللون الأصفر بين الأحمر/ المنع، والأخضر/ السماح، فهو لون التنبّه والحذر والاستعداد. ولربما من هذا المنطلق لجأت بعض الانتفاضات الشعبية إلى اللون الأصفر تعبيرًا عن غضبها. ففي هونغ كونغ 2014 تصاعدت الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية، وأمام قمع الشرطة ورشّ المتظاهرين بسائل الفلفل الحار، عمد المتظاهرون إلى رفع مظلات صفراء بوجه سائل الفلفل الحار، وإعلانًا بأنّ حركتهم الاحتجاجية تُسمع أصداؤها وتُرى في كل البلاد. وعلى نفس المنوال كانت حركة: “السترات الصفراء” في فرنسا عام 2018 التي يرتديها العمّال من أجل التنبّه لهم وهم يقومون بأعمالهم الخطرة، والتي قامت احتجاجًا على الضرائب التي فرضتها حكومة الرئيس الفرنسي ماكرون على الوقود. امتدت هذه الحركة من المناطق الريفية إلى عاصمة الأنوار، حيث ظهر المحتجون وهم يرتدون سترات صفراء في مواجهة بذلات الشرطة السوداء. خرج آلاف المتظاهرين التايلانديين في عام 2020 إلى شوارع بانكوك مطالبين الملك “ماها فاجيرالونغكورن” بالتنازل عن السلطة، وقد حدث أثناء قمع التظاهرات أن لجأ بعض المتظاهرين إلى نفخ طائر بط أصفر مصنوع من البلاستيك، لحمايتهم من رشاشات المياه القوية التي تطلقها الشرطة باستخدام سيارات إطفاء الحرائق. رويدًا رويدًا تبنّى المتظاهرون البط الأصفر رمزًا لثورتهم على الملك. إذن لم يكن رسامو وكتاب القرن التاسع عشر مخطئين برؤية اللون الأصفر كأسلوب احتجاج وثورة.  بالعودة إلى قضية وايلد، فلقد اقتحم الجمهور الدار المسؤولة عن ذلك الكتاب الأصفر الشنيع الذي شوهد بيد أوسكار وايلد محاولين منعها من نشر الفسق. وللحقيقة كان ذلك الكتاب هو “أفروديت” رائعة الكاتب الفرنسي بيير لويس!

اللون الأصفر لون قديم وقوي منذ أن أشرقت الشمس على الأرض، فالشمس هي النجم الأصفر الذي منح سوبرمان قوته ومنح الأرض الحياة، فليس غريبًا أن تكون المغرة الصفراء هي اللون الذي صبغ به ذلك الحصان البري في كهف لاسكو في فرنسا، والذي يعود إلى أكثر من سبعة عشر ألف عام قبل الميلاد. كان اللون الأصفر من الألوان المفضلة للفراعنة في صبغ جدارياتهم، في الأهرامات وداخل المقابر، فقد وجدت في قبر: “توت عنغ أمون” علبة تحوي المغرة الصفراء، أليست الشمس هي الإله: “رع/ أمون” خالق كل شيء في اعتقادات الفراعنة الدينية، فهو صاحب تلك الصبغة التي وجدت في قبر الملك. الأصفر لون الذهب لدى الفراعنة وهو المعدن الذي لا يفنى، حيث كانوا يعتقدون بأنّ جلود وعظام الآلهة من الذهب، ولربما من هنا جاء المثل العامي، بأنّ شخصًا: “عظامه من ذهب”. كان الرومان مولعين بالذهب، فمدينة بومبي التي دفنها بركان فيزوف برماده، قد حفظت الكثير من الجداريات المليئة بالرسومات المصبوغة بالمغرة الصفراء.

قلنا بأنّ العلم منح اللون الأصفر خصائص مهمة من حيث وضوح رؤيته، لذلك استخدم كإشارة تنبيه عالية الجودة، فأصبحت أكثر سيارات الإطفاء وباصات المدارس وتكاسي الأجرة صفراء، بالإضافة إلى الآلات في المصانع ومعداتها. خلال فترة ما بعد القرون الوسطى في أوروبا، رسّخ اللون الأصفر كإشارة لخيانة يهوذا الإسخريوطي للسيد المسيح، على الرغم من أنّ الكتاب المقدّس لم يذكر ملابسه قط. لربما يرجع وصف يهوذا باللون الأصفر إلى الملك ميداس اليوناني الذي كان مولعًا بالذهب الأصفر، فطلب من الآلهة أن تمنحه يدًا تحول كل ما يلمسه إلى ذهب. ولا يختلف يهوذا عنه، فقد خان السيد المسيح بمقابل ثلاثين قطعة من الفضة. ومع أنّ الفضة ليست صفراء لكن ميداس ويهوذا مغرمين بالمعدنين الثمينين. ومن هذا المنطلق، ارتبط اللون الأصفر أيضًا بالحسد والغيرة والازدواجية وبالمرض، فلقد كان ينظر إلى المرض قديمًا، بأنّه انعكاس للروح، فالروح الجيدة تمتلك جسدًا سليمًا والروح السيئة تعيش في جسد مريض أصفر باهت. واستتبع ذلك تقليد في عصر النهضة يقوم على تمييز الغرباء من غير المسيحيين، مثل اليهود، باللون الأصفر، وقد حدث الأمر ذاته في عصرنا بأن أجبر اليهود في الزمن النازي على خياطة نجمة داود صفراء على ثيابهم. وعندما أراد الغرب التأفّف من هجرة الشعوب الشرق آسيوية إليه أطلق على هذه الهجرة: “الغزو الأصفر”. وفي إسبانيا في القرن السادس عشر، كان المتهمون بالهرطقة والذين رفضوا التخلّي عن آرائهم يُجبرون على المثول أمام محاكم التفتيش الإسبانية مرتدين عباءة صفراء. كذلك ارتبط اللون الأصفر تاريخيًا بمقرضي الأموال، حيث يصوّر شعار مقرضي الأموال بثلاث كرات ذهبية معلّقة على قضيب، في إشارة إلى أكياس الذهب الثلاث التي يحملها القديس: “نيكولاس” شفيع مقرضي الأموال. بالإضافة إلى ذلك، يوجد رمز الكرات الذهبية الثلاث في شعار عائلة ميديشي، وهي سلالة إيطالية شهيرة من المصرفيين والمقرضين للأموال في القرن الخامس عشر، بالإضافة إلى ما سبق، فقد كانت من أهم العائلات الإيطالية الراعية للفنّ الذي صبغ عصر النهضة الأوروبية بجمالياته.

تعدّ الصين بلد الشعب الأصفر، حتى أنّ أول إمبراطور أسطوري صيني، يسمى الإمبراطور الأصفر، ويحكى أنّ آخر إمبراطور صيني في القرن العشرين كان يُدعى “بوئي 1906- 1967”. هذا الإمبراطور كان محاطًا باللون الأصفر في صغره، وذلك لأنّ اللون الأصفر بالنسبة للصينيين هو لون السماء والآلهة. لم تصفُ الحياة للإمبراطور الأخير الذي انتهى بستانيًا قرب قصره يعتني بالزهور المتنوعة الألوان ومنها الصفراء، بعدما تم تأهيله سياسيًا من قبل الشيوعيين بقيادة الزعيم ماو تسي تونغ.

لا يمكن أن يكون الأصفر أصفر من دون الرسّام فان غوغ الذي كان مولعًا به. وفي رسالة لأخته عام 1888 كتب لها: “ننعم الآن بطقس جميل ودافئ وهادئ، وهو مفيد جدًا لي. الشمس، ضوء لا أستطيع وصفه إلّا باللون الأصفر” رسم غوغ الكثير من اللوحات مستخدمًا اللون الأصفر من لوحات عباد الشمس، إلى الغرفة الصفراء، وحقول القمح، والكتب الصفراء، وكأنّه يثور بطريقته على زمنه وعلى تقاليد الرسم القديمة. وجاراه في ذلك بول غوغان عندما رسم لوحة للسيد المسيح وأطلق عليها اسم: “المسيح الأصفر”، دلالة على ثورة المخلّص في زمن المادة.

إنّ وصف الكتب السيئة الصيت بالصفراء، استمر مع الصحافة المليئة بالإشاعات، والتي تتصيّد مشاهير هذه الأيام، يرجع وصف هذه الصحافة بالصفراء إلى أوائل مجلات الكوميكس، التي نالت هذا اللقب  عام 1895 وكان ذلك بسبب أنّ أشهر الشخصيات فيها فتى يدعى: “الفتى الأصفر” نسبة لقميص النوم الأصفر الذي كان يرتديه، عند قيامه بمغامراته الهزلية. تعدّ بيجامة بروسلي أشهر بيجامة في العالم وبها غزا عقول الشباب في الشرق والغرب، حتى شباك تذاكر السينما التي كانت تخصّص لنجوم هوليوود فقط. لربما لبس تلك البيجامة لأمر في نفسه وقد تكون تطبيقًا لمقولة قديمة عن غزو الشعوب الصفراء. وكعادة المخرج الكبير كوينتن تارانتينو في التقاط اللاشعور في المجتمعات الغربية، استخدم في فيلمه الحركي “اقتل بيل 2003” اللون الأصفر، فقد ألبس بطلة الفيلم “أوما ثورمان” بيجامة صفراء.

ليست دلالات الأصفر السلبية متعارضة مع الإيجابية، فهو اللون الذي تنطبق عليه مقولة: “بأنّ الضد يظهر حسنه الضد” وما ضدّ الأصفر لون آخر، بل الأصفر ذاته؛ مات غوغ فقيرًا مدقعًا، والآن تباع لوحاته ذات اللون الأصفر بملايين الدولارات.

ليست هذه تناقضات في اللون الأصفر، بل جدليات، فهو لون الشمس، وكما أنّ ضوءها يبدّد ظلام الليل ويكشف المستتر، كذلك من ينظر إليها مباشرة تعميه، فالأصفر تارة يكون بيضة تُكسر أو حجرًا يفج، ومن يريد استخدامه كرمز في الحياة والفنون والآداب والمجتمع والاقتصاد والسياسة عليه أن يجيد اللعب بقطعة نقدية صفراء بقذفها إلى الأعلى متوقعًا على أي وجه ستستقر عندما تسقط على الأرض.   

باسم سليمان

كاتب من سورية

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2025/9/2/%D9%D9%8A-%D8%AE%D8%B5%D8%A7%D8%A6%D8%B5-%D8%A7%D9%D9%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%A3%D8%B5%D9%D8%B1-%D8%B9%D9%D9-%D9%D8%B1-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B5%D9%D8%B1خاص ضفة ثالثة    

 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 02, 2025 09:12
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.