أميركا في شهرها التاسع!
باسم سليمان 11 أكتوبر 2025 مقالي في ضفة ثالثة عن فيلم: One Battle After Another
تقف الثائرة السوداء “برفيديا /تييانا تايلور” بأعصاب فولاذية، في مشهد فائق الدلالة والمكر، سيحفر خطوطه في شبكية عين المشاهد وأحداث الفيلم فيما بعد، ببطن عارٍ ينبئ انتفاخه بأنّها حامل في شهرها الأخير، تحمل رشاشًا مطلقة النار منه بغزارة، جاعلة بطنها مرتكزًا لضبط اهتزازاته العنيفة والمتواترة! يذكرنا هذا المشهد بأغنية “ناتالي غاردون” عن الثائر العابر للقارات “تشي غيفارا” معبود اليساريين في العالم، وهي تحتضن طفلها إلى صدرها وتحمل باليد الأخرى بندقيتها، فالانشغال بالأمومة ليس عائقًا بوجه الثورة أبدًا. يعلّق الثائر الهيبي الأبيض “بوب/ ليوناردو ديكابريو” زوج برفيديا على تطرفها بإطلاق النار من رشاش: “هل تدرك بأنّها حامل؟”. تتراكم المشاهد الفارقة والمتباينة والأسئلة والأجوبة المخاتلة في الدقائق العشرين الأولى التي احتوت ظهور برفيديا في الفيلم إلى أقصى حدّ، فمن ناحية هي مقدامة لا تبالي بالمخاطر من أجل تحقيق أهداف ثورتها. ومن ناحية ثانية تشعر بأنّ هذا الحمل حجر عثرة في طريق ثورتها، وعندما تنجب تصاب باكتئاب ما بعد الحمل، وتغار من اهتمام زوجها بطفلتهما، إلى أن تنتهي برؤية زوجها مجرد ذكوري آخر يريد أن يتحكّم بحياتها، فتقرّر الابتعاد عن العائلة لتعود إلى ثورتها التي لا يقف بوجهها شيء، حتى لو كانت فلذة كبدها، مخلّفة وراءها بوب ليعتني بثمرة حبّهما العاصف والثوري.
يطل علينا المخرج الأمريكي المميّز بول توماس أندرسون بعد فيلمه التاسع “بيتزا العرقسوس لعام 2021” الذي نال عنه ترشيحات عديدة للأوسكار بفيلم جديد بعنوان: “One Battle After Another / معركة تلو أخرى لعام 2025″ الذي طرح في صالات السينما وسريعًا تصدّر شباك التذاكر وإعجاب النقاد والجمهور. يستند الفيلم الذي قام أندرسون بإخراجه وكتابة السيناريو وإنتاجه إلى وحي رواية “فينلاند” للكاتب الأمريكي “توماس بينشون” التي تتكلّم عن رجل هيبي وامرأة ثورية في خضم سنوات الستينيات والسبعينيات حيث تعالج حرب فيتنام والهجرة والاحتجاج ضد المجتمع الأمريكي، لكن من دون اقتباسها بالمعنى الحرفي من قبل أندرسون. يسرد الفيلم حكاية مجموعة ثورية تنشط على الأراضي الأمريكية تدعى: “مجموعة 75 الفرنسية” هذه التسمية لن تمر على ذهن المشاهد من دون أن يتذكّر أمّ الثورات؛ الثورة الفرنسية المتمثلة بمبادئ الحرية والمساواة والإخاء. تتألف هذه الفرقة الثائرة التي تتبنى مبادئ ثورية راديكالية عن الحرية والعدالة والمساواة وترى بالعنف حقّا مشروعًا لتغيير واقع الحال لأنّ الوسائل الأخرى أصبحت قاصرة وغير فعالة، من مجموعة متنوعة من الأعراق البشرية؛ من السود إلى المكسيكيين إلى الهنود الحمر وحتى البيض وإن كانت ثورتها ضد سلطة الرجل الأبيض وعنصريته، فهو في البداية -أي الرجل الأبيض- كان لاجئًا في أمريكا عندما كان ثور البيسون والهنود الحمر أسياد أمريكا قبل إبادتهم من قبله. تقوم المجموعة بعدّة أعمال كتحرير اللاجئين المكسيكيين من قبضة حرس الحدود وتفجير المباني وخطوط الكهرباء والسطو على المصارف، معلنة ثورتها على النظام الرأسمالي والعنصرية البيضاء الأمريكية. لا يحدّد أندرسون زمنًا معينًا، لكن كل شيء في الفيلم يشي براهنيته، وكأنّه صرخة بوجه الترامبية التي تعيد هيكلة أمريكا وفق أهوائها.
يبدأ الفيلم بالتحضير لهجوم الفرقة على معسكر اعتقال اللاجئين المكسيكيين، وخلال المداهمة لتحرير اللاجئين تقوم برفيديا بإهانة الضابط “لوكجو/شون بن” المسؤول عن المعتقل، بأخذ قبعته العسكرية ومسدسه وتقييده وسوقه أمامها كأسير، لكن في الوقت نفسه تعمد لإثارته لتأكيد سلطتها المطلقة عليه. لقد كانت برفيديا ثائرة على كل شيء، ففي لحظات المعركة تشتهي الوصال مع شريك حياتها. لم يكن لبرفيديا حدودًا، فلقد كانت سيلًا متدفقًا صنعه القهر والغضب والنقمة في وجه كل السلطات حتى الإيجابية منها. تتعاضد المشاهد في الدقائق الأولى للفيلم مركزة على تحوّلات برفيديا، فهي الحقل الذي سيبني عليه أندرسون عمارة فيلمه بعد اختفائها. كان الضابط لوكجو كارهًا لكل ماهو غير أمريكي أبيض، لكنّه ينجذب للنساء السوداوات! لقد أدركت برفيديا ذلك منذ اللقاء الأول، وعندما قبض عليها لم تتوان عن استغلال ذلك إلى أن التقيا في فندق عبّر كل منهما عن ما ينقصه؛ برفيديا للسلطة ولوكجو للإذلال! لكن في محاولة سطو على أحد البنوك تتصدّع عنجهية برفيديا بعد أن قتلت شرطيًا أسود، ولأول مرة نرى وجهها الذي كان يجمع الجليد والنار بكل توازن يذوب وينطفئ. يُقبض عليها، فيعرض لوكجو عليها صفقة بأن تشي برفاقها، لكي تمنح برنامج حماية الشهود، لكن عليها أن تختفي بعد ذلك. للأسف تشي برفيديا برفاق الثورة فيتساقطون كورق الخريف، ويهرب بوب مع ابنته الصغيرة ويتخفّى في بلدة بعيدة، وبعد ست عشرة سنة تكبر الصغيرة لتصبح “ويلا/ تشايس إنفينيتي” مراهقة ثائرة، على العكس من بوب الذي أصبح مدمنًا على المخدرات والكحول، فاقدًا لثوريته، مصابًا بالارتياب، يحاصر ابنته بعاطفته الأبوية.
هذه النهاية المبكّرة التي تظهر لنا في الفيلم، لا يلبث أن تشتعل من جديد ، فلوكجو الذي يريد أن ينتسب لمجموعة “مغامري حفلة عيد الميلاد” العنصرية لا بدّ من أن يطهّر ماضيه المنسي والسرّي جدًا، حتى يصبح مناسبًا بينه وبين نفسه للمنظمة البيضاء العنصرية، ويقطع الطريق على أي شكّاك بالغوص في ماضيه، لكن برفيديا قد اختفت نهائيًا، فما الذي يقلق ذلك الأبيض؟ إنّها ويلا! وهنا تبدأ مؤامرته للوصول إليها عبر اتهام مجموعات اللاجئين ومن هم من الأعراق الأخرى بالاتجار بالمخدرات والممنوعات، لتبدأ حملة مداهمات كان الهدف منها الوصول إلى ويلا. تستطيع مجموعة 75 الفرنسية إنقاذ ويلا وإبعادها عن عين الإعصار الذي يقوده لوكجو.
روب المنزل:
بوب الثائر الغارق في دخان الماريجوانا الذي يرتدي روب بيت كلاسيكي بشكل دائم، لم يستطع أن يسترجع كلمة السّرّ التي تجيب على السؤال التالي: “كم الساعة؟” لذلك لن يحصل على المساعدة من مجموعته القديمة في معرفة مكان ابنته. لقد كان بوب ضائعًا عن زمنه لقد فقد بوصلته منذ خيانة برفيديا، والأحرى أنّ ثوريته إلى حدٍّ ما، كانت مجرد احتجاج هيبي لا أكثر. رويدًا رويدًا يستعيد صلاته بمجموعته القديمة ليكتشف ذاته القديمة، وفي الوقت نفسه ابنته، التي كانت تبني شخصيتها المستقلة بعيدًا عنه، فلقد كان يمنعها من حمل الموبايل حفاظًا على حياتها، لكنها كانت تمتلك واحدًا، ورفاقها يعلمون بذلك وهي أيضًا منخرطة بأنشطة ثورية وكأنّ ذلك في دمها. ينطلق بوب مسابقًا الزمن ليصل إلى ويلا قبل أن تصل يد لوكجو إليها. وفي خط ّمقابل كانت منظمة مغامرو حفلة عيد الميلاد قد عرفت بتاريخ لوكجو، فكلفت من قام بتنسيبه إليها أن يحيّده، فهو ملوث وغير نقي. يصل لوكجو إلى ويلا ومعه جهاز لفحص الجينات ليتأكد هل ويلا ابنته حقّا؟
لم تخيّب شكوك لوكجو ظنونه، فويلا ابنته، فيعترف بحبّه لأمّها، لكنّه يريد أن يخدم هدفًا أسمى من الحبّ والأبوة، بأن يكون منتسبًا لمغامري حفلة عيد الميلاد، ومع ذلك لم يستطع أن يقتلها، فأوكل المهمة لهندي أحمر يعمل مرتزقًا، إلّا أنّه يرفض قتلها، لكنّه وافق أن ينقلها إلى عصابة تقوم بالعمل القذر، وفي لحظة صحوة ضمير يقتل الهندي رجال العصابة، ويموت في تبادل إطلاق النار معهم، فتهرب ويلا على أثر ذلك من قبضتهم. إلى أن ينتهي الفيلم وويلا تصرخ بأبيها بكلمات التعارف الثورية، لكن بوب يصرّ على أن يعرف نفسه بأنّه أبوها، أبوها فقط!
ما وراء الشاشة البيضاء:
يضعنا أندرسون تحت وطأة فيلم سريع الأحداث، مليء بالتشويق، كأنّه نهر هيراقليتس، فهو حقيقة من معركة إلى معركة أخرى، لكن المعركة الأساسية هي تفسير أحداث الفيلم. ولنبدأ مع برفيديا تلك الثائرة حتى النهاية التي تقع في شباك غواية السلطة التي تسعى إلى تغييرها، كأنّ مقولة نيتشه قد انطبقت عليها: “خذْ حذرك وأنت تقاتل الوحوش حتى لا تصبح واحدًا منهم”. هذا ما حدث مع برفيديا إلى أن جاءت لحظة الحقيقة عندما قتلت الشرطي الأسود، ومن ثم إلقاء القبض عليها ومفاوضتها بأن تنجز صفقة تجنّبها السجن. وهنا أدركت وحشيتها، فهي بمكان ما أصبحت مثل الضابط لوكجو، فالغاية لديها أصبحت تبرّر الوسيلة، فكما أراد إذلالها، فعلت المثل عبر إغوائه وتلويث نقائه العرقي، بأن حملت منه. والأدهى من ذلك، أنّها رفضت أمومتها من أجل الحرية. وعندما استكملت وعيها بما اقترفت يداها هربت لأنّها لم تعد تلك الثائرة أبدًا. وعلى نفس المنوال نرى مقدار التشابه بين برفيديا ولوكجو، ففي مشهد لاحق نراه يرفض أن يتحوّل إلى أب من أجل هدف أسمى، والذي سيقوده إلى حتفه من قبل ذات المنظمة التي يخطب ودّها. هكذا كانت برفيديا ولوكجو وجهان لعملة واحدة وإن ظهرا متناقضين لكنّهما في الجوهر متماثلين. أمّا بوب صاحب الألعاب النارية أيام الشباب، فينقلب من ثوري إلى كلاسيكي، وكأنّ خيانة برفيديا فضحت لا جذرية ثوريته، ومع ذلك استطاع أن يلعب دور الأب أكثر من الأم والأب البيولوجيين لويلا، بل إنّه استعاد ثوريته عندما ذهب لإنقاذها، أكانت من صلبه أم لا، لذلك ظهر بثوب البيت وما يرمز إليه من واجب الحماية، إضافة إلى أنّه يرفض التقسيم الجندري بين ذكر يعمل خارج البيت وأنثى تعتني بشؤون البيت الداخلية. أخيرًا نأتي إلى ويلا، فعلى الرغم من صغر سنّها والحقائق الصادمة التي اكتشفتها تبقى متزنة، وعلى ما يبدو أنّها استقت من أمها ثوريتها قبل أن تلوثها شهوة السلطة، ومن أبيها بالتربية عرفت معنى كيف تعقل الحرية بالحبّ والواجب. لم يكن بوب وبرفيديا مثاليين، بل مليئين بالأخطاء حتى أنّهما يقوضان بما انتهيا إليه كل رومانسية الأفكار الثورية، لكن ويلا تولد من رحم هذه الفوضى نقية كالأمل.
معركة تلو أخرى:
إنّ جوهر فيلم أندرسون لم يكن ليتحقّق معه، لولا العديد من الأدوات التي استخدمها بكفاءة عالية من موسيقى إلى سيناريو؛ وخاصة الكاميرا التي كانت تلتقط الأحداث المتسارعة اقتناصًا تاركةً المعنى يلهث خلفها. ففي مشهد في نهاية الفيلم يشكّل نموذجًا لكيفية إدراك المقاصد في أحداث الفيلم، يصوّر أندرسون مطاردة أطرافها: ويلا الهاربة، والعميل الذي ظن أنّه قتل لوكجو، وبوب الساعي لإنقاذ ابنته على طريق صحراوي متماوج كالتيار المتناوب، حيث يختفي الأفق ليعاود الظهور، ومن ثم يختفي، وكأنّ المعنى لا يتجلّى إلّا بالظهور والغياب المتناوبين. إنّ ما يريد أندرسون الإشارة إليه في فيلمه، بأنّ أمريكا حامل في شهرها الأخير، ولا يمكن قراءة حاضرها أو مستقبلها بين تجبّر السلطة و تخبط المعارضة، فالتاريخ كثيرًا ما تصنعه الحركات الارتجالية، مثلما تركت ويلا سيارتها في المنطقة الميتة من الرؤية على الطريق، ليتفاجأ بها العميل ويصطدم بها، وعندئذ تصرخ ويلا به بكلمات السرّ الثورية، فلا يجيبها، فترديه قتيلًا. لم يعد صالحًا لأمريكا اللون الواحد، ولربما نجاتها تكمن، بأن تنجب طفلًا خلاسيًا قادرًا على جمع تناقضات وتضادات الأسود والأبيض كويلا، وأي انزياح نحو تطرف هاذين اللونين سيكون وبالًا عليها، ومن الممكن أن يفرّق نجماتها المجتمعات على علم واحد.
باسم سليمان
كاتب من سورية

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
