ليلة مع ذات العينين الخضراوين
انقضت الليلة وكأن أحداثها قد ولت منذ دهر. انسلت الشمس من جوف الهة السماء، عبرت بوابات الليل ومراحلها الاثنتي عشرة. خرجت إلى السماء من مبعثها لتعود إلى الحياة من جديد تتجول فيها وتسير في كنفها مادة أذرع الخير إلى كل ما يحيط بها، تمنحهم بركة الإله وعطاياه في رحلتها اليومية إلى مرقدها لترتاح من عناء الإحسان والعطاء.
ومع ظهور الشمس تتوارى ذكريات ليلة بائدة كثرت أحداثها وكانت قطع الأثاث ولوحة الفنان الشهير شاهدة على وقائعها. أطلت علينا عذراوات وحيزبونات يتطلعن إلينا بفضول كبير وبنظرات ما بين الاستنكار والصدمة. هل حقا نرى ما نرى؟ هل وصل الحال إلى تعليقنا على هذا الحائط العريض، المرتفع عن الأرض أمتارا معدودات لنكون شاهدات على هذه المسخرة والبذاءات؟ تجلس العروس في المنتصف، تحيط ذراعها الأيمن بوالدتها الجالسة القرفصاء على أريكة عريضة، فاغرة فاها وكأن لسان حالها يقول هل هذا ما يجب أن أتوقعه من عريسي الليلة؟ إنه مشهد ولا مشاهد السيما.
نلتفت في عرينا الفاضح لنلاحظ الأنظار المسلطة تجاهنا والأفواه المفروجة. تطلعنا إلى بعضنا البعض متسائلين عما رأوه من أجسادنا التي أحسسنا أنهم ينهشونها بنظراتهم النهمة. ترى ماذا شهدوا من أفعالنا؟
قامت الخمر بعملها وأفقدتني كل ذكرى ولم تبق من هذه الليلة سوى اختبائنا من الأعين الفضولية، التي تنتهك خصوصيتنا وحميميتنا، سترنا عرينا يتتبعنا أربعة عشر زوج من الأعين العسلية النهمة، تكاد تتقافز من الإطار المحيط بهن، المقيد لوجودهن والملجم لحركة أجسادهن. إطار يعيق تواجدهم في عالمنا هذا الذي نسبح فيه ويحد من وجودهم في أكثر من بعدين لا ثالث لهما كتبهما عليهن الرسام بفرشته وبالقماش المشدود الذي يتلطخ بألوانه والذي تنهال عليه ضربات ومسحات فرشاته. وعلى الرغم من تأهبهن واستعدادهن للمغامرة والقفز من هذا الإطار الملجم لمجرد تتبعنا إلى وجهتنا الجديدة حيث يسترنا الليل ونوم الاخرين، إلا أن الدور الذي كان قد حدده الفنان لهن كان أقوى من أي إرادة. توجهنا إلى حيث تختفي الأعين، ويغيب الفضول، حيث راحة الأجساد التعبة وجموحها في الوقت ذاته. كيف لمكان واحد أن يجمع النقيضين؟ نبعث من جديد من المكان ذاته الذي يشهد إعادتنا إلى حياة سلبنا منها ساعات معدودات. نبعث من جديد مع ميلاد شمس جديدة ولكن هذا الصباح لا يشهد ميلاد كل منا على حدة كما جرت العادة، بل يشهد ميلادنا سويا كجسد واحد متحد القلب ينبض بدقات حب سرمدي لا ينزوي إلا بفناء أرواحنا.
استيقظت مخدرا بأثر هذا الحلم اللذيذ الذي سبحت في مياهه العذبة. هنا رقدت أميرتي، تلك الحسناء ذات العينين الخضراوين. هنا وضعت رأسها، لا تزال رائحة شعرها عالقة على الوسادة. هنا تقلبت حتى لامس نهداها العاريان صدري فأججت ناري وأيقظت بركاني الخامل فجرى مائي وتدفق من منبعه حتى صب في القنوات الموصلة لقمة الشهوة. أيقظت تأوهاتها حواسي التي كانت قد خملت.
لم يتبق منك يا أميرتي سوى عبقك، سوى طيفك الذي ملأ عالمي وغزا كوامني. لا أتذكر منك سوى آثار غزوتنا وحمحمة أفراسنا في موقعة لا تتشابه مع أي واحدة في التاريخ المسطور، حرب خرج
كلانا منتصرا فيها، لم يصب فيها أو يقتل نفر، لم ترق نقطة دم واحدة… خرجنا كلانا منتصرين، متواعدين على ملحمة جديدة نضرب فيها المثل لكيف تكون البطولة والشهامة، نعيد فيها تعريف ليس فقط التلاحم والتطاعن بل والأسر أيضا.
ها هي ذكريات هذه الليلة تتوالى علي … أتذكر الآن رائحة جسدك العطر، نعومة جلدك والتي لا ينافسها سوى ملمس الحرير، طعم شفتيك النهمتين اللتان احتوت شفتاي وأذاقتهما الشهد وأطلقتا لخيالي العنان.
انقضت ليلة بأحداثها ولم يتبق منها سوى آثارك ودلائل على موقعة شرسة. أعود إلى نقطة الانطلاق، إلى مبتدأ كل شيء لأجد الأعين ذاتها ذاهلة مما رأت البارحة، تطل علي بنظرات أشبه باللوم، أم تراها نظرات ازدراء وحقد؟ لم أتحمل قسوتها وإلقائها جام حقدها علي فهممت من جلستي ولم يسعني إلا أن أدير اللوحة إلى الحائط عقابا مني لهن على تطفلهن علينا. هربت من نظراتهن وبقيت في معية طيفك وذكراك التي تعبق كل شبر من منزلي.


