“المشهد: 11


دخلت..أنرّت الأنوار كي أطمئن أن كل شئ كما هو عليه، و مرة أُخري أطفئته.. ألقيت بنفسي علي الكرسي الهزاز كالجثة هامدة، و أرخيت جسدي.. و تنهّدت بشدة.. وضعت قدامي فوق المكتب..و أستسلمت إلي تبغي و دخانه الأزرق..

فلا حاجة للإستعانة ببعض الألحان الهادئة أو الأغاني حتي أكمل رحلتي الليلية.. يكفيني ما يقوم به الشارع من عزف عشوائي فوق آلآته.. أنا المايسترو أمسك بعصا خيالية و أُحرك كل فرد ليقوم بدوره في السيمفونية..

صوت "الزهر" و هو يتصدم بجدران لعبة "الطاولة".. يمتزج به قرقرة الشيشة.. ضحكات خشّنة عنيفة..يعقُبها سقوط و تهشّم بعض الزجاجات الفارغة. يصعد من أحشاء كل هذا.. صوت أجراس بائع "العرق-سوس".. يصمت الجميع ليستمعوا لفقرته الفردية.. بعيون يملئها شغف و تأهُب في أن يروي عَطشهم. ينشر هذه البهجة العارمة.. يذوب بين الناس و يتلاشي..

إستراحة قصيرة.. أُجفف عَرقي.. أُرتب أوراقي.. و أُشعل سيجارة أخري.. أشحت بعصاي تجاه هذا الطفل حتي يبدأ "نوتّته" بأنغام بطيئة حزينة أثرت في المارة، كلّفتهم بعض حروف المواساة، و كأس من نظرات الشفقة.. يجد الولد أمه في أرقي معاني الحنان.. وسط تسفيق حار في أعيُن الحضور.

تتدرج عاطفة الصورة في التغيُّر رويداً رويداً.. حتي يقتحم "الحاوي" الساحة.. برائحة بخوره الذكية، و طبلة صوته العزبة، و الآعيبُه العجيبة..يغيّر المشهد الحزين و خلفية المسرح..

تجّف الدموع فوق التُراب..و تتبدل نغمة الإيقاع.. تسكن الأجواء.. و تسقط كل الأحداث و حوادث اليوم علي الأرض.. بما فيها من سعادة و كآبة.. بما فيما من سكوت و غناء.. كل منهم يترك ما يخصه في مكانه.. تسدّل أستار النهار.. و تنطفئ كل الأنوار.. ليظهر البطل الحقيقي في رُقعة من النور المتوهّج: عم الكنّاس.

أصمت أنا و قذفت آخر أعقاب سجائري من النافزة.. و علي هيئتي تلك أغمض عيني و أذهب إلي عالم بزرخي آخر..”