عبر احتشاد بالتفاصيل، والزخم المعرفي، وبالعلاقات الشائكة والمبتورة، وبأنساق البحث المحموم عن خلاص ما، تأتي رواية «عائلة جادو» (العين - القاهرة) للروائي المصري أحمد الفخراني، التي يحيل عنوانها الفرعي، «نص النصوص»، على بنية معرفية تصنع ما سماه جيرار جينيت التفاعل النصي. وهكذا تنجو الرواية من سلطة المفرد إلى براح الجامع، عبر التناص مع ماركس، وفريد الدين العطار، وإنغلز، ورامبو، ووسائط بصرية مختلفة. وتهيمن هنا مخيلة الصورة.
يصنع الكاتب محاكاة تهكمية للمقولة الشهيرة «يا عمال العالم اتحدوا»، لتصبح «يا مديوكرز العالم اتحدوا»، حيث هيمنة الأنصاف في كل شيء، من مبتوري المعرفة والموهبة، فتصبح السخرية هنا موقفاً مِن العالم، في كتابة يسهل تماماً تصنيفها الظاهري، بأنها تتعالى على واقعها، لكنها في الحقيقة تغوص في قشرته الداخلية. هي تسعى خلف تأويل مغاير للواقع، عبر كتابة مختلفة؛ مناط جدارتها يكمن في انطلاقها من «الآن وهنا»، ليس عبر زوايا نظر كلاسيكية، ولكن في ظل تمازجات الواقع والمتخيل، المعارف النظرية والوسائط البصرية، فضلاً عن الجدل المعتاد بين الموت والحياة، والتلازم المستمر بين الصخب والعنف. في «عائلة جادو... نص النصوص»، نجد شخصية رزق نخنوخ الهواري التي تحيل في دلالتها الواقعية على عوالم البلطجة وقوانينها، والارتباط الجدلي بالسلطة. يُحضر الهواري نسخة متقنة من لوحة لمونييه؛ يقدمها لضابط الشرطة مراد بك كي يضعها خلف مكتبه، بينما تقبع اللوحة الأصلية في متحف المتروبوليتان. وهنا تماس مع أحد مشاهد فيلم «هي فوضى» للمخرجين يوسف شاهين وخالد يوسف.
كما نجد تماساً مع الفيلم نفسه في ما أوردته الرواية عن قبو أسفل مكتب ضابط الشرطة، حيث يجتمع شخوص يشكل بعضهم جوهراً في الحكاية السردية بتنويعاتها المختلفة في ما بعد؛ بدءاً من سنية القرعة، التي تحولت إلى «ليزا»؛ غانية الطبقات الثرية، والتي «يشتريها» رزق نخنوخ بخمسمئة جنيه، ربما في إشارة إلى ثمن شرائها الحقيقي كل ليلة، مروراً بالباحث الأجنبي، الذي يخضع لتعذيب بشع ينتهي بموته، وصولاً إلى الطفل الصيني الذي يرمز إلى مستقبل يتكئ على تطوير الرأسمالية بجهود صينية، تحت شعارات شيوعية قديمة. ولكن هل لا يزال ماركس بديلاً مطروحاً لعالم نهشَه الاستغلال؟ ربما يصبح هذا أحد أسئلة الرواية الكبرى، التي لا تطرح تصورات أيديولوجية زاعقة، فبدت حيل الكاتب ومراوغاته التقنية موظفة للأيديولوجيا في سياق جمالي، بحيث تصير المعرفة مجلى للعالم، الذي يقدمه الفخراني عبر مستويين جماليين: أولهما خط سردي يتجادل فيه الواقعي مع المتخيل، البصري والقرائي، المادي والروحي، ماركس وفريد العطار، الخضوع والامتثال مع الرغبة في الخلاص الفردي، استلاب المجموع وانحياز الفرد لكينونته... هذا الخليط المدهش الذي يؤسس للوضع ما بعد الحداثي للعالم، والذي يدين الرأسمالية ويقر بوجودها، ويحتفي بماركس ويلمح إلى دوغمائية الطرح، ويرى في المتعة خلاصاً، وفي الفن متعة، وفي الكتابة انتصاراً على الخوف والهواجس.
وفيها أيضاً انتصار على القلق المراوغ الذي يحيط بالشخصية المركزية رزق نخنوخ؛ ابن «مولانا الهواري»، لنصبح أمام عوالم أشبه بالمافيا، تحيلك على الأب الروحي «فيتو كورليوني/ مارلون براندو، ومايكل كورليوني/ آل باتشينو». في «عائلة جادو» ثمة عالم روائي يبدو مثل بناء رمزي للعالم الخارجي، لكنها رمزية ذات نفَس أسطوري، وليست رمزية المفردات والأسماء والمعاني المباشرة.
تحضر التناصات وتبدو جزءاً من بنية السرد، لا يقحمها الكاتب، فحتى المقطع المطول المسنود إلى رامبو، يبدو جزءاً من متن السرد، في لحظة تفارق في عبثيتها وقسوتها خيالاً بليداً يصاحب عالماً ثالثياً مقموعاً ومحبطاً ومسكوناً بالهواجس أيضاً. إن التفاعل النصي مع قصيدة رامبو، يخرج بنا إلى دلالة إنسانية تحيل على حالة إخفاق تظلل العالم، دم وقتل وخراب، هلوسات ومعجزات ونشوة خادعة؛ ليصبح أيضاً مِن بين أهم ما صنعه الكاتب هنا هذه التفاعلات النصية بين عشرات النصوص المقروءة والبصرية.
يُحرم رزق نخنوخ مِن ابنته التي تأخذها عائلتها لأمها «عائلة جادو»، كما يحلم بـ «نفيسة البيضاء» زوجة مراد بك، التي تحب المصارع هركليز عبدالمولى، وتراهن على مصارع آخر، يدخل معه سيرك القتال، في مشاهد سردية تتداخل فيها الصورة البصرية المجازية مع الأخرى الواقعية.
تحوي الرواية أكثر من حوارية سردية تتعدد فيها الأصوات المعبرة عن تمايزات في رؤية العالم، كما ينهض النص تقنياً على تداخل الحلم والحقيقة. فآلية الحلم أصيلة هنا، لا تأتي لتحيل على عالم جاهز، ولكن لتحمل قدراً من تأويل العالم، من قبيل حلم رزق بـأسعد جادو؛ الذي يفتح له طريق الموت دائماً. تنتفي مساحات التقاطع بين الزمان والمكان هنا، ويصبح التداخل الزمني وسيطاً لمشتركات متعددة تجدل بين الفنتازيا والواقع، فماركس يصعد قلعة تقارب قلعة الحشّاشين لحسن الصبّاح، فيجد رفيقه أنجلز وقد بنى قلعة موازية.
تبدو مصائر الشخوص مؤرقة ومعبرة عن عالم يسكنه القلق والخوف، وعتمة الروح بمعناها الإنساني، في بحثها عن عالم رحيم وجميل وعادل، لنصبح أمام تجربة فنية مغايرة.
هذه رواية مأساوية بامتياز، أبطالها ليسوا أبناء المصير التراجيدي المألوف. لكنّ رؤية العالم الحاكمة لها مأسوية جداً، هذه الكتابة التي تضرب بقدم في الأيديولوجيا وبأخرى في نقيضها. توظف المعرفة لمصلحة الفن، الذي يُقدّم عبر تقنيات عدة ولغة تتعدد مستويات السرد فيها، لتشكل نصاً مأخوذاً بجدل المعرفي والجمالي وبقدرة تخص صاحبها الروائي الموهوب أحمد الفخراني، والذي يتقدم بثبات بعد روايتيه «ماندورلا» و «سيرة سيد الباشا»، مُنوعاً في تعاطيه مع العالم، وتأويله على نحو يخصه.
يصنع الكاتب محاكاة تهكمية للمقولة الشهيرة «يا عمال العالم اتحدوا»، لتصبح «يا مديوكرز العالم اتحدوا»، حيث هيمنة الأنصاف في كل شيء، من مبتوري المعرفة والموهبة، فتصبح السخرية هنا موقفاً مِن العالم، في كتابة يسهل تماماً تصنيفها الظاهري، بأنها تتعالى على واقعها، لكنها في الحقيقة تغوص في قشرته الداخلية. هي تسعى خلف تأويل مغاير للواقع، عبر كتابة مختلفة؛ مناط جدارتها يكمن في انطلاقها من «الآن وهنا»، ليس عبر زوايا نظر كلاسيكية، ولكن في ظل تمازجات الواقع والمتخيل، المعارف النظرية والوسائط البصرية، فضلاً عن الجدل المعتاد بين الموت والحياة، والتلازم المستمر بين الصخب والعنف. في «عائلة جادو... نص النصوص»، نجد شخصية رزق نخنوخ الهواري التي تحيل في دلالتها الواقعية على عوالم البلطجة وقوانينها، والارتباط الجدلي بالسلطة. يُحضر الهواري نسخة متقنة من لوحة لمونييه؛ يقدمها لضابط الشرطة مراد بك كي يضعها خلف مكتبه، بينما تقبع اللوحة الأصلية في متحف المتروبوليتان. وهنا تماس مع أحد مشاهد فيلم «هي فوضى» للمخرجين يوسف شاهين وخالد يوسف.
كما نجد تماساً مع الفيلم نفسه في ما أوردته الرواية عن قبو أسفل مكتب ضابط الشرطة، حيث يجتمع شخوص يشكل بعضهم جوهراً في الحكاية السردية بتنويعاتها المختلفة في ما بعد؛ بدءاً من سنية القرعة، التي تحولت إلى «ليزا»؛ غانية الطبقات الثرية، والتي «يشتريها» رزق نخنوخ بخمسمئة جنيه، ربما في إشارة إلى ثمن شرائها الحقيقي كل ليلة، مروراً بالباحث الأجنبي، الذي يخضع لتعذيب بشع ينتهي بموته، وصولاً إلى الطفل الصيني الذي يرمز إلى مستقبل يتكئ على تطوير الرأسمالية بجهود صينية، تحت شعارات شيوعية قديمة. ولكن هل لا يزال ماركس بديلاً مطروحاً لعالم نهشَه الاستغلال؟ ربما يصبح هذا أحد أسئلة الرواية الكبرى، التي لا تطرح تصورات أيديولوجية زاعقة، فبدت حيل الكاتب ومراوغاته التقنية موظفة للأيديولوجيا في سياق جمالي، بحيث تصير المعرفة مجلى للعالم، الذي يقدمه الفخراني عبر مستويين جماليين: أولهما خط سردي يتجادل فيه الواقعي مع المتخيل، البصري والقرائي، المادي والروحي، ماركس وفريد العطار، الخضوع والامتثال مع الرغبة في الخلاص الفردي، استلاب المجموع وانحياز الفرد لكينونته... هذا الخليط المدهش الذي يؤسس للوضع ما بعد الحداثي للعالم، والذي يدين الرأسمالية ويقر بوجودها، ويحتفي بماركس ويلمح إلى دوغمائية الطرح، ويرى في المتعة خلاصاً، وفي الفن متعة، وفي الكتابة انتصاراً على الخوف والهواجس.
وفيها أيضاً انتصار على القلق المراوغ الذي يحيط بالشخصية المركزية رزق نخنوخ؛ ابن «مولانا الهواري»، لنصبح أمام عوالم أشبه بالمافيا، تحيلك على الأب الروحي «فيتو كورليوني/ مارلون براندو، ومايكل كورليوني/ آل باتشينو». في «عائلة جادو» ثمة عالم روائي يبدو مثل بناء رمزي للعالم الخارجي، لكنها رمزية ذات نفَس أسطوري، وليست رمزية المفردات والأسماء والمعاني المباشرة.
تحضر التناصات وتبدو جزءاً من بنية السرد، لا يقحمها الكاتب، فحتى المقطع المطول المسنود إلى رامبو، يبدو جزءاً من متن السرد، في لحظة تفارق في عبثيتها وقسوتها خيالاً بليداً يصاحب عالماً ثالثياً مقموعاً ومحبطاً ومسكوناً بالهواجس أيضاً. إن التفاعل النصي مع قصيدة رامبو، يخرج بنا إلى دلالة إنسانية تحيل على حالة إخفاق تظلل العالم، دم وقتل وخراب، هلوسات ومعجزات ونشوة خادعة؛ ليصبح أيضاً مِن بين أهم ما صنعه الكاتب هنا هذه التفاعلات النصية بين عشرات النصوص المقروءة والبصرية.
يُحرم رزق نخنوخ مِن ابنته التي تأخذها عائلتها لأمها «عائلة جادو»، كما يحلم بـ «نفيسة البيضاء» زوجة مراد بك، التي تحب المصارع هركليز عبدالمولى، وتراهن على مصارع آخر، يدخل معه سيرك القتال، في مشاهد سردية تتداخل فيها الصورة البصرية المجازية مع الأخرى الواقعية.
تحوي الرواية أكثر من حوارية سردية تتعدد فيها الأصوات المعبرة عن تمايزات في رؤية العالم، كما ينهض النص تقنياً على تداخل الحلم والحقيقة. فآلية الحلم أصيلة هنا، لا تأتي لتحيل على عالم جاهز، ولكن لتحمل قدراً من تأويل العالم، من قبيل حلم رزق بـأسعد جادو؛ الذي يفتح له طريق الموت دائماً. تنتفي مساحات التقاطع بين الزمان والمكان هنا، ويصبح التداخل الزمني وسيطاً لمشتركات متعددة تجدل بين الفنتازيا والواقع، فماركس يصعد قلعة تقارب قلعة الحشّاشين لحسن الصبّاح، فيجد رفيقه أنجلز وقد بنى قلعة موازية.
تبدو مصائر الشخوص مؤرقة ومعبرة عن عالم يسكنه القلق والخوف، وعتمة الروح بمعناها الإنساني، في بحثها عن عالم رحيم وجميل وعادل، لنصبح أمام تجربة فنية مغايرة.
هذه رواية مأساوية بامتياز، أبطالها ليسوا أبناء المصير التراجيدي المألوف. لكنّ رؤية العالم الحاكمة لها مأسوية جداً، هذه الكتابة التي تضرب بقدم في الأيديولوجيا وبأخرى في نقيضها. توظف المعرفة لمصلحة الفن، الذي يُقدّم عبر تقنيات عدة ولغة تتعدد مستويات السرد فيها، لتشكل نصاً مأخوذاً بجدل المعرفي والجمالي وبقدرة تخص صاحبها الروائي الموهوب أحمد الفخراني، والذي يتقدم بثبات بعد روايتيه «ماندورلا» و «سيرة سيد الباشا»، مُنوعاً في تعاطيه مع العالم، وتأويله على نحو يخصه.