Status Updates From ماذا علمتني الحياة؟

كانت الصدمة الأولى عندما دخل عليها أبي يوما معلنا أنه استطاع أن يحصل المحمد على بعثة حكومية لتحضير الدكتوراه في إنجلترا. وقع عليها الخبر وقع الصاعقة وأصابها هم عظيم : فها هو الزوج المستبد يفرق بينها وبين ابنها المفضل ويرسله إلى بلاد البرد القاتل، وكأنه يتعمد إيذاءها وتجريدها من وسيلتها الوحيدة للتصدى لجبروته . منذ أن عرفت أمى الخبر تتابع عليها مرض بعد آخر، وتعودنا أن نری و نسمع بكاءها ونحبها لدى وقوع أى حادث مهما صغر

من المؤكد أن حب أمى لابنها الأكبر لم يكن يعادله حبها لأى من أولادها الآخرين، أو لأى من البنتين، ولم تكن تتورع عن أن تظهر هذا للجميع . ربما كانت تدرك بفطرتها من البداية أنه ، بميوله واستعداداته الطبيعية، ينتمى إلى معسكرها هي لا إلى معسكر أبي . كان يسيطر عليها شعور دفين بحاجتها إلى الحماية» من أبي إذ كانت تشعر بنوع من الخوف المستمر منه، ولم تطمئن قط إلى دوام تمسكه بها . وقد أظهر محمد من البداية أنه في جانبها هي .

تجمع لدى محمد من المال ما يمكنه من شراء أرض واسعة في المعادي وبناء فيللا فاخرة عليها، فضل بناءها على جزء من الأرض على نحو لا يقلل من القيمة التجارية لبقية الأرض، ثم ملأ الفيللا بقطع الأثاث التي يمكن أن تزيد قيمتها مع الوقت، فأصبح بيته مخزنا هائلا للتحف الثمينة . (١/٢)

مع مرور الزمن حلت الأجهرة بمختلف أنواعها محل العمل الآدمى أو الاتصال الإنساني المباشر. فقلل التليفزيون من الكلام وربما أيضا من الشجار وقضت الثلاجة الكهربائية على القلة والإبريق، كما كادت الثلاجة والغالة والمكواة الكهربائية تغنى الناس عن الخدم وعن الغسالة الآدمية والمكوجي. (١/٢)

تلا دخول الثلاجة وصول الغسالة الكهربائية التي اشتراها أبي وجلبها إلى المنزل دون أن تطلب والدتى منه ذلك، مدفوعاً بما سمعه عن مدى توفيرها للجهد والتعب. وقد حاول أبى دون جدوى إقناع أمي باستخدام هذه الغسالة الكهربائية، إذ لم تحظ هذه الغسالة من أمى إلا بالاستخفاف والاحتقار، ليس فقط من باب الميل الطبيعي لدى الزوجة للتقليل من زهو الرجل وإعجابه بما يصنع ، بل بسبب اعتقادها الصادق بأن الغسيل باليد هو الطريقة الوحيدة للتنظيف.

لم نكن ندخل حرجة أبي إلا إذا شعرنا بأن مزاجه يسمح بتبادل الحديث معه، وحينئذ تدخل أمي الحجرة ونحن وراءها، فنختلس النظر بحذر إلى أبي الجالس على الكتبة الاستانبولي وهو يحتسى القهوة. فإذا لم نجده مشغولا بكتاب ، جلست أمى على الأرض وجلسنا إلى جوارها كالقطط الصغيرة. كانت هذه الجلسة هي أقرب ما كان يمكن أن يحدث للجلسة العائلية ، وهي على أي حال لم تكن تدوم طويلا، إذ سرعان ما تبدر من أبي كلمة أو حركة يفهم منها أن الزياره انتهت

٢٨سبتمبر : ولد لي مولود سميته محمد أمين»، وقد استمرت أمه في ولادته نحو ثلاث ساعات مع ألم شديد.
وابتدأت لا أتمتع بما كنت أتمتع به من قبل من النوم الهادئ العميق، فالأم تشكو من الوجع . وغداً سيبكى الولد الحاجته إلى الرضاع أو نحو ذلك .

٤ اكتوبر - مضى هذا الأسبوع والمولود كثير البكاء ونحن شديد و التعب ؛وقد اشتد ضجرى من ذلك وكان سببا في انتقال والدته به إلى حجرة أخرى .

(١/٢)

٣ يوليو - رأيت أني لا أصل إلى الخير إلا بالخوض في كثير من الشر، فخضت .

علمتني التجارب أن المرأة - وربما كل إنسان . لابد لها من دائرة تترك لها فيها الحرية فتتصرف كما تهوى، وتكون هي فيها الرئيسة، وإلا لا يستقيم حالها، إلا إذا كانت امرأة سيئة الإرادة .

كنت أخشى قبل الانتقال إلى بيتنا الحالي أن تفسد أخلاق زوجتي . فإني أعتقد أنها صريحة لا تكاد تخفى عنى شيئًا، صادقة قلما تكذب، وإذا شاءت الكذب ظهر ذلك على عينيها فقرأت الصدق فيهما. وقد تبين لي صدق رأيي في هذه الخشية فكلتا زوجة أخي وبنته مكارة كذوبة قادرة على إحفاء ما في نفسها ، تعمل أعمالا كثيرة من ورائ ثم لا يظهر عليها ما عملت ، و بدأ هذه القلق يثبت انه في محله إذ أخبرتني زوجتي انها خرجت بدول اذني ثلاث مرات هذا الاسبوع

٦ فبراير - انتهى اليوم بأسف وحزن و ذلك أن والدتى، قبل اليوم شكت لي من عدم مجاملة زوجتى لها. وقد جرت بينهما بعض منازعات صغيرة على أمور تافهة، مثل أن والدتى تريد أن تناديها ( يا والدتي) وتأبى زوجتى ذلك بحجة أن والدتها متوفاة وذلك يذكرها بوفاتها .

ولاحظت اليوم.. أن زوجتى لا تجامل والدتى، ولا تقابلها ببشاشة، ولا تتكلم معها كلام المحب المحترم، فلا تتكلم إلا القليل، وما تتكلمه تتكلمه ببرود. فبعد أن نزلت والدتي كلمت زوجتي

۲۳ يناير - لي نحو ثلاثة أيام أحس فيها بشيء من الضيق for my wife is not very beautiful وألوم نفسى على هذا الألم، والواجب حمد الله على ما وصلت إليه .


٣٠ يناير -أشعر ببعض الالم وهو على اثر حديث حدثتني فيه أختى عن فتاة كانت خُطِبت لي وكانت very pretty ، وكانت قد رضيت أخيرا بتزوجي منها ولكني فضلت عليها زوجتي التي اخترت .

وجدت في مكتب أبي مذكرات غير منشورة، كان أحيانا يكتب بعض الجمل المتعلقة بزوجته بالإنجليزية ؛ خوفا من أن تقع المفكرة في يدها فلا يسرها ما تقرأ فيها ومنها:
" ٩يناير ۱۹۱۷ - أشعر كثيراً من الأوقات بأني سعيد لأني رزقت wife مدبرة ونظيفة، ذات عواطف صادقة، لا تقول غير ما تضمر، وإن كنت أحيانا feels rather painful for she is not very beautiful وأحمد الله على هذه الحال .

ولكن خيبة الأمل ظلت كامنة في قلب الزوجة التي لم تشعر فيما يبدو بالحب الحقيقي.
كان الزوج يغالب دون جدوى آثار بيئته الأولى وما تعرض له من تربية صارمة في طفولته. فمع كل الأفكار التي كانت تدور برأسه عن الأسرة السعيدة ومع كل حسن نيته، لم يكن قادرا على التخلص من دور الزوج الديكتاتور صاحب السلطة المطلقة أو أن يجد في نفسه القدرة على ملاطفة امرأته . (١/٢)

أرسل ابي عماتي لتفقد بيت الزوجية قبل الانتقال إليه للاطمئنان على أن أهل العروس قد فرشوا البيت فرشا ملائماً ، عادت الشقيقات إليه بتقرير غير سار ومليء بالانتقادات، من أهمها أنهن لم يعثرن في البيت على كنكة لصنع القهوة. وإذ اشتد البؤس وخيبة الأمل بأمي استجمعت يوما شجاعتها وسألت أبي عما إذا كان يقبل الزواج من أختها بدلا منها ، فكانت إجابته الا أنت ولا أختك . ثم فكر جديا في الطلاق منها عندما وقعت الواقعة التالية :
(٢/٢)

وجدت أبي رجلا قليل الكلام لا يعرف المزاح أو المرح، وهو يطلب الزواج منها دون أن يراها ، فليس هناك إذن حب ولا حتى تفضيل لها على غيرها، بينما هناك على قيد الحياة قلب ينبض بحبها ولا يتمنى سواها. ثم تصطدم الفتاة في أول أيام الزواج بعد انتقالها إلى بيت الزوجية بانشغاله المستمر بكتبه وأوراقه . تدخل عليه لتخبره بأن الغذاء جاهز فيشير بإصبعه إلى رأسه علامة انشغاله بالتفكير كانتسأل نفسها باستغراب عما إذا كان هذا هو معنى الزواج.

كانت القصة التي لا تمل أمى من روايتها لي ، عدا قصة كفاحها أثناء حملها بي، هي قصة حبها الأول، وما صاحبه من شجون وخيمة أمل ظلت معها، فيما يبدو ، إلى يوم وفاتها . كان لأمي خال آخر ، غير الخال الذي تقيم في بيته ، وقعت أمي في حب ابنه ووقع هو في حبها. وتعاهد الاثنان على الزواج، فذهب أبو الفتى العاشق إلى أخيه، ولى أمر الفتاة العاشقة يطلبها لابنه، فرفض الطلب بقوة (١/٢)

ما كان يضايقنا من أبي حقيقة هو عجزه عن التعاطف مع أية رغبة لدينا فى أى نوع من أنواع الرفاهية . كان هو نفسه قليل الاحتفال بأية صورة من صور التأنق وزاهدا تماما في أي محاولة المجاراة الآخرين في رفاهية العيش. وكان يفترض أن لدينا نفس الدرجة من اللامبالاة في من لم تكن تسمح لنا بمجاراته في بساطته. (١/٢)

كانت أمي بلا شك حريصة على المال حرصاً واضحاً. كان يزيد هذا الحرص قوة اعتقادها بأن الرجال لا يمكن الاطمئنان إلى وفائهم، وكانت دائمة الترديد للمثل الشعبي يا مآمنة للرجال، يا مآمنة للماء في الغربال، فسيطرت عليها فكرة أن يكون لها من المال ما يكفي لشراء بيت باسمها يدر عليها من الدخل ما يغنيها عن أبي ، إذا حدث وتنكر لها . (١/٢)

لم يكن لدى الأسرة بالقطع وفرة من المال، ولكن المال لم يكن أيضاً شاغلاً لها أو مصدراً لقلق زائد. سمح هذا لأبي بأن يشغل فكره بما هو أعظم شأنا، وإن لم يكن هذا بالطبع تفسيراً كافيا لهذا الانشغال بما هو أعظم شأنا. إنى لا أعرف كيف أفسر لماذا استقر في ذهن أبي أن من الواجب، أو من الممكن أن يكرس حياته لعمل عظيم ؟ هل كان السبب ذكاؤه وتوفيقه المستمر في دراسته ؟ أم نزعة متأصلة فيه منذ الطفولة نحو الإصلاح ؟
(١/٢)

لدى صورة لأبي يوم زواجه، ولكنها له وحده، فقد ذهب بمفرده إلى المصور بعد إتمام عقد الزواج، فالتقط له المصور صورة، وبدلا من الزوجة استند أبي بيده إلى بضعة كتب، وكتب خلف الصورة ، أنه اختار الكتب رمزاً أو شعاراً، كما كتب أيضا وراء الصورة وأرجو من الله أن يوفقني إلى عمل عظيم أنفع به أمتى . وقد وفقه الله إلى ذلك فعلاً، ولكن المهم لدى الآن أنه لم يشر فيما كتبه وراء الصورة ولو إشارة عارضة، إلى أمي التي تزوجها توا.

جلست أمي أمام الطبيب الإيطالي وسمحت له بأن يبدأ الكشف . ثم تحرك في قلبها غضب غريزي جعلها تدفع الطبيب بقدمها بكل قوتها صائحة في ثورة : روح يا شيخ هوه أنا حبلى في الحرام ! فتراجع الطبيب خائفا معلنا استسلامه،وعادت الزوجة إلى البيت منتصرة، والأب خائبا، ولم يعاود أبي الكرة مستسلما لمشيئة الله .

هكذا جئت إلى الوجود في ٢٣ يناير ١٩٣٥ .

كان أبي لا يريد من الأولاد إلا اثنين أو ثلاثة، فانتهى به الأمر إلى أن أصبح أبا العشرة مات منهم اثنان في المهد وبقى ثمانية على أنه عندما وصل الأمر إلى احتمال مجيء الثامن، وهو أنا ، لم يطق أبي صبرا وقرر أنه آن الأوان لأن يضع حدا للأمر وأن يجبر والدتي على الإجهاض.
(١/٢)