Status Updates From الدولة العثمانية: قراءة جدي...

كانت الدولة العثمانية تسير في طريق الاضمحلال من سنة ١٥٩٢م ( أي بعد حكم سليمان القانوني) إلى سنة ١٨٣٩م ( سنة صدور خط كلخانة) بسرعة يجرها جوادان. ثم أخذت تندفع في طريق الانهيار من عام ١٨٣٩ إلى عام ١٨٦٩ بسرعة قطار سكة حديد .

بعد خلع السلطان عبدالحميد عام ١٩٠٩ تحولت الفكرة القومية من كونها مجموعة من الدعوات لبعض الأدباء والمثقفين الذين يحلمون بوطن مثالي إلى سياسة ينتهجها أغلب سياسي الصف الأول في الدولة .

إن الأمر الذي يدعو للسخرية والدهشة معاً هو أن يعمل قضاة أوروبيون في ساحة القضاء العثماني ، بل والأدهى من ذلك ما تضمنه القانون التجاري الفرنسي المعمول به من أحكام مخالفة للشرع الاسلامي .

أما الدولة العثمانية فقد كانت تعاني من فقدان شبه كامل لسيادتها على أراضيها بفعل نظام الملل وبفعل الامتيازات الأجنبية وهو الأمر الذي جعل السلطان عبدالحميد الثاني ١٨٧٦-١٩٠٩ يستصرخ الملأ بقوله في مذكراته (منحنا لقيصر حق حماية الكاثوليك التابعين للكنيسة الألمانية في فلسطين فبدأت فرنسا بالصراخ والعويل،ألست بحاكم هذا البلد،أليس من حقي أن أستعمل كل صلاحياتي في الامبراطورية العثمانية؟

وقامت أوروبا بإعادة سورية إلى الدولة العثمانية ولكن بعد أن حولتهاإلى قنابل طائفية موقوتة ، حيث تفجرت فجاة وعمّت المذابح في كل مكان ، وما زالت آثارها التدميرية ماثلة وباقية في الواقع الاجتماعي للمنطقة .

ومما زاد في الطين بلة منح السلاطين حقوقاً لكل من فرنسا وألمانيا وبروسية وانجلترا لحماية المسيحيين واليهود داخل الامبراطورية ، الأمر الذي جعل هؤلاء يتمتعون بامتيازات الأجانب نفسها ويصبحون مع الوقت طبقة من التجار والدبلوماسيين ورجال الدولة مؤثرين وتحول ولاؤهم من السلطان الى القنصليات الأوروبية لارتباطهم بها.

لم تكن أزمة الامبراطورية العثمانية كما أسلفنا وليدة القرن السابع عشر بل انها بدأت منذ منتصف القرن السادس عشر وتطورت في القرون اللاحقة. وأسباب الأزمة خارجية وداخلية . خارجية نتيجة نجاح الدول الأوروبية في كشوفاتها الجغرافية حيث سيطرت على طرق التجارة الشرقية مع الهند كما تم اكتشاف أمريكة.

إن أخطر ماجاءت به التنظيمات هو تعزيزها لنظام الامتيازات الاجنبية ولقد تبين ذلك بشكل واضح من خلال عهد الأمان في تونس وخط كلخانة في استانبول حيث أُقر رسمياً حق الأجانب بممارسة كل أنواع التجارة وبحقهم في تملك الأراضي وهو أمر جاء بترتيبات سريعة وخطيرة في واقع الاقتصاد الإسلامي

وما الهاوية في التاريخ العثماني الحديث سوى التنظيمات التي إعلنت اعتراف السلاطين نهائياً بشروط الاستسلام الحضاري للغرب .

دخلت الامبراطورية في مرحلتها الثانية مقتنعة بأن نجاح روسية القيصرية بتبني النموذج الغربي الجاهز لإصلاح المؤسسة العسكرية يمكن أن يتكرر في الامبراطورية ، ولكن تباين المجتمعين الروسي والعثماني وطبيعة الحكم العثماني قد حالت دون ذلك

وحين لم تنتقل تلك المحاولات الاصلاحية من النظر إلى العمل ، لتعيد ترتيب المنزل العثماني اضطرت النخبة للإلتجاء إلى الحل الأسهل وهو استيراد النماذج الأوروبية الجاهزة للإصلاح

لقد بدأ هذا الانحدار عملياً عندما توفر لأوروبا ، بفعل الوضع الدولي كل سبل التدخل المباشر في شؤون الامبراطورية .

فالإصلاح بالنسبة لهم هو التنظيمات التي لم تكن سوى المرحلة الأخيرة ، ليس في محاولات الاصلاح فحسب ، بل في سيادة واستقلالية الدولة العثمانية ذاتها . وقد بدأ لهذه السيادة عندما قبلت الضغوط الأوروبية التي ظهرت بصيغ عدة : الامتيازات الأجنبية ، الحماية الأوروبية للطوائف الدينية في الدولة العثمانية ، القبول بإلغاء مؤسسات إسلامية ووضع مؤسسات أوروبية مكانها كالأنظمة التعليمية والعسكرية والتجارية .

إن طبيعة التحديث في روسية لا تفترض إلغاء البنى التقليدية أو المؤسسات القائمة أصلاً ، أو أنها تستحدث غيرها، بل تقوم في الواقع بعملية تجديد لهذه المؤسسات يتناسب ويستجيب لحاجاتها الداخلية، ولا يتناقض أو يتعارض مع قيمها ومعاييرها وسياقها التاريخي. ولكن الأمر ليس كذلك في المجتمع العثماني ، فالتحديث جاء به خارجياً بآليات ومفاهيم غريبة وغربية عن المجتمع ، وكان على حساب وجود مؤسسات بكاملها .

وفي خضم توجه العثمانيين الرسمي نحو تبني التحديث الأوروبي غاب عنهم أن البنى والمؤسسات والمجتمع في روسية عموماً هي غير البنى والمؤسسات والمجتمع في الدولة العثمانية .

وما ان تطلع العسكريون الى التجربة الروسية حتى أصبحت المقارنة معها على كل الألسنة , وتحولت لتصبح الحدث السياسي الأول في الامبراطورية في أوساط النخبة الحاكمة أولا ثم انتقلت العدوى للسلطان نفسه : الكل بات يردد كيف يمكن الاستفادة من التحديث الاوروبي كما فعلت روسية القيصرية لمواجهة التحديات العسكرية التي تواجه الامبراطورية .

ان موقف الامبراطورية الضعيف عسكريا جعلها تتطلع الى تجربة العدو التاريخي لها روسية القيصرية التي كانت تعاني أوضاعا عسكرية متدهورة مشابهة . فلم يكن باستطاعة روسية احراز انتصارات على الدولة العثمانية لولا أن القيصر بطرس الأكبر قد قام بتحديث مؤسسته العسكرية ، فأدخل عليها نظما عسكرية أوروبية حديثة ، وزودها بتقنيات عسكرية جديدة .

إن الأمر الجدير بالملاحظة هنا هو أن ضعف السلطنة الاقتصادي قد تزامن مع الأخذ بنظام الحريم السلطاني ، واعتكف السلاطين في قصورهم وغرقوا في ملذاتهم ، إلى درجة أن التاريخ العثماني قد عرف سلاطيناً أطلق عليهم " السلاطين الذين لا يراهم أحد " لأنهم كانوا لايبرحون القصور وأجنحة الحريم ، لانغماسهم في المتع الجنسية

وعلى صعيد آخر فإن تقييد السلطنة بنظام الامتيازات قد جعل من سفراء الدول الاوروبية من الآستانة شركاء للدولة في قراراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية أيضاً .

وكانت نتائج هذه الامتيازات وخيمة جدا على السلطنة . فالمؤرخ اليوناني ديمتري كيستسيكس يتسائل في كتابه الامبراطورية العثمانية فيما اذا كان نظام الامتيازات التجارية الذي منحه العثمانيون لأوربا هو السبب الرئيس في استعمار أوروبا الاقتصادي للامبراطورية العثمانية .

=
لكن الصدر الأعظم حينيئذ والذي كان مايزال يمتلك قراره السياسي أخبر السفير بأن المعاهدات هذه ليست اضطرارية واجبة التنفيذ ذلك لكونها منحة سلطانية فحسب. الأمر الذي جعل فرنسا تتراجع عن تهديداتها وتتحايل لدى السلطان ليوافق من جديد على تجديد نظام الامتيازات عام١٦٧٣ ممازاد الطين بلة. وبدل أن تتعظ الدولة العثمانية مماحدث أمر السلطان محمد الرابع بتفويض فرنسا حق حماية بيت المقدس.

ان اقتناع الدول الاوربية بكون نظام الامتيازات الاجنبية حقاً من حقوقها الطبيعية هو الذي دفع فرنسا لأرسال جنودها لمساعدة البندقية التي كان السلطان مراد الرابع يحاربها ، كما أرسلت سفيرها برفقة عمارة بحرية حربية لارهاب الدولة العلية ومطالبتها بتجديد الامتيازات .

لقد أتاحت حرية التجارة البحرية المطلقة لفرنسا وللدول الأوربية التي رفعت العلم الفرنسي إمكانيات هائلة لسفنها في الموانىء العثمانية دون رقابة أو جمارك تنقل من الولايات العثمانية وإليها كل أنواع البضائع والسلع .

* طبيعة بنود معاهدة الامتيازات :

اشتملت. المعاهدة على ستة عشر بنداً أكثرها إجحافاً بحق العثمانيين هي البنود الرابع والخامس والسادس والسابع . فقد أتاحت لفرنسا تحقيق مصالح تجارية وسياسية وقضائية لم تكن تحلم بها أية دولة أوربية .

بدل أن يحصل السلطان من فرنسا على امتيازات لقاء ماقدمه من خدمات لها ، حدث العكس عندما وافق على منحها [ امتيازات تجارية ] كان لها آثار سياسية وقانونية كبيرة ، وفق معاهدة وقعها سفير فرنسا في الآستانة آنذاك المسيوجان دي لافين مع سر عسكر السلطان سليمان في شباط ١٥٣٦م وسميت منذ ذلك الوقت ب (( نظام الامتيازات الأجنبية )).

الاسطول التركي في غربي البحر المتوسط كان يحمي جناح فرنسا الجنوبي ضد أي هجوم يشنه أعداؤها ، مما أتاح لملوكها تركيز قوتهم في الشمال وتأمين حدود فرنسا القومية .