النبأ العظيم Quotes

Rate this book
Clear rating
النبأ العظيم النبأ العظيم by محمد عبد الله دراز
2,906 ratings, 4.49 average rating, 603 reviews
النبأ العظيم Quotes Showing 1-15 of 15
“هذا مثل صغير: اقرأ قوله تعالى: {وَاللَّهُ ‌يَرْزُقُ ‌مَنْ ‌يَشَاءُ ‌بِغَيْرِ ‌حِسَابٍ} [سورة البقرة: الآية ٣١٢] . وانظر هل ترى كلامًا أبين من هذا في عقول الناس. ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة. فإنك لو قلت في معناها: إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه، ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقدره على هؤلاء، أصبت. ولو قلت: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاق خوف النفاد، أصبت. ولو قلت: إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر، ولا يحتسب، أصبت. ولو قلت: إنه يرزق بغير معاتبة ومناقشة له على عمله، أصبت، ولو قلت: يرزقه رزقًا كثيرًا لا يدخل تحت حصر وحساب، أصبت. فعلى الأول يكون الكلام تقريرًا لقاعدة الأرزاق في الدنيا وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله، بل تجري وفقًا لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء، وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين، ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين. وعلى الثاني يكون تنبيهًا على سعة خزائنه وبسطة يده جل شأنه. وعلى الثالث يكون تلويحًا للمؤمنين بما سيفتح الله لهم من أبواب النصر والظفر حتى يبدل عسرهم يسرًا وفقرهم غنى من حيث لا يظنون. وعلى الرابع والخامس يكون وعدًا للصالحين إما بدخولهم الجنة بغير حساب. وإما بمضاعفة أجورهم أضعافًا كثيرة لا يحصرها العد. ومن وقف على علم التأويل واطلع على معترك أفهام العلماء في آية رأى من ذلك العجب العاجب.”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم
“وبعد فما بنا -علم الله- حب الخلاف ولا ‌شهوة ‌الإغراب، ولكنها أمانة العلم والنصيحة لكتاب الله تعالى حملتنا على أن نقول فيه أحسن ما نعلم، ثم شجعتنا على أن نسجل بالقلم هذا الذي قلناه بالفم، لنعرضه في الطرس على أنظار القارئين، كما عرضناه في الدرس على أسماع الطالبين لعل هؤلاء واجدون فيه من مواضع النقد والتمحيص ما لم يجده أولئك. وهذا الباب من أبواب البحث والاستنباط الذي لا يمس أصلًا من أصول الدين ولا يحل حرامًا أو يحرم حلالًا لن يزال مفتوحًا لكل مسلم أعطاه الله فهمًا في كتابه، على شريطة القصد والأناة في سير العقل، ومع الاستضاءة في هذا السير بمصباحين من اللغة والشرع، على الحد الذي وصفنا، والمنهج الذي رسمنا. وبالله التوفيق.”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم
“سر زيادة الكاف في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} :
... ونحن نبين لك هذا من طريقين، أحدهما أدق مسلكًا من الآخر: ...
"الطريق الثاني" -وهو أدقهما مسلكًا: أن المقصود الأولي من هذه الجملة وهو نفي الشبيه، وإن كان يكفي لأدائه أن يقال: "ليس كالله شيء" أو "ليس مثله شيء" لكن هذا القدر ليس هو كل ما ترمي إليه الآية الكريمة، بل إنها كما تريد أن تعطيك هذا الحكم تريد في الوقت نفسه أن تلفتك إلى وجه حجته وطريق برهانه العقلي.
ألا ترى أنك إذا أردت أن تنفي عن امرئ نقيصة في خلقه فقلت: "فلان لا يكذب ولا يبخل" أخرجت كلامك عنه مخرج الدعوى المجردة عن دليلها. فإذا زدت فيه كلمة فقلت: "مثل فلان لا يكذب ولا يبخل" لم تكن بذلك مشيرًا إلى شخص آخر يماثله مبرأً من تلك النقائص، بل كان هذا تبرئة له هو ببرهان كلي، وهو أن من يكون على مثل صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك؛ لوجود التنافي بين طبيعة هذه الصفات وبين ذلك النقص الموهوم.
على هذا المنهج البليغ وضعت الآية الحكيمة قائلة: "مثله تعالى لا يكون له مثل". تعني أن من كانت له تلك الصفات الحسنى وذلك المثل الأعلى لا يمكن أن يكون له شبيه، ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه. فلا جرم جيء فيها بلفظين، كل واحد منهما يؤدي معنى المماثلة؛ ليقوم أحدهما ركنًا في الدعوى، والآخر دعامة لها وبرهانًا. فالتشبيه المدلول عليه "بالكاف" لمّا تصوب إليه النفي تأدَّى به أصل التوحيد المطلوب؛ ولفظ "المثل" المصرح به في مقام لفظ الجلالة أو ضميره نبه على برهان ذلك المطلوب.
واعلم أن البرهان الذي ترشد إليه الآية على هذا الوجه برهان طريف في إثبات وحدة الصانع، لا نعلم أحدًا من علماء الكلام حام حوله؛ فكل براهينهم في الوحدانية قائمة على إبطال التعدد بإبطال لوازمه وآثاره العملية. حسبما أرشد إليه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}.
أما آية الشورى المذكورة فإنها ناظرة إلى معنى وراء ذلك ينقض فرض التعدد من أساسه، ويقرر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار. فكأننا بها تقول لنا: إن حقيقة الإله ليست من تلك الحقائق التي تقبل التعدد والاشتراك والتماثل في مفهومها، كلا، فإن الذي يقبل ذلك إنما هو الكمال الإضافي في الناقص، أما الكمال التام المطلق الذي هو قوام معنى الإلهية، فإن حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنيْنيَّة؛ لأنك مهما حققت معنى الإلهية حققت تقدمًا على كل شيء وإنشاءً لكل شيء: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وحققت سلطانًا على كل شيء وعلوًّا فوق كل شيء: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فلو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضتَ؛ إذ تجعل كل واحد منهما سابقًا مسبوقًا، ومنشئًا منشأً. ومستعليًا مستعلًى عليه. أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد فيهما؛ إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقًا ولا مستعليًا. فأنى يكون كل منهما إلهًا، وللإله المثل الأعلى؟!
أرأيت كم أفدنا من هذه "الكاف" وجوهًا من المعاني كلها شاف كاف؟
فاحفظ هذا المثال وتعرف به دقة الميزان الذي وضع عليه النظم الحكيم حرفًا حرفًا.”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم
“خطاب العامة" و"خطاب الخاصة":
وهاتان غايتان أخريان متباعدتان عند الناس، فلو أنك خاطبت الأذكياه بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء لنزلت بهم إلى مستوًى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب، ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم، فلا غنى لك -إن أردت أن تعطي كلتا الطائفتين حظها كاملًا من بيانك- أن تخاطب كل واحدة منها بغير ما تخاطب به الأخرى؛ كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال، فأما أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك فيراها كل منهم مقدرة على مقياس عقله وعلى وفق حاجته فذلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم. فهو قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسر لكل من أراد {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم
“فأما إن كان مثار الشبهة عنده أنه زاول شيئًا من صناعة الشعر أو الكتابة، وآنس من نفسه اقتدارًا في البيان فوسوس له شيطان الإعجاب بنفسه والجهل بالقرآن أنه يستطيع الإتيان بمثل أسلوبه، فذلك ظن لا يظنه بنفسه أحد من الكبار المنتهين، وإنما يعرض -إن عرض- للأغرار الناشئين.
ومثل هذا دواؤه عندنا نصح نتقدم به إليه أن يطيل النظر في أساليب العرب، وأن يستظهر على فهمها بدراسة طرف من علوم الأدب، حتى تستحكم عنده ملكة النقد البياني، ويستبين له طريق الحكم في مراتب الكلام وطبقاته، ثم ينظر في القرآن بعد ذلك.
وأنا له زعيم بأن كل خطوة يخطوها في هذه السبيل ستزيده معرفة بقدره، وستحل عن نفسه عقدة من عقد الشك في أمره؛ إذ يرى هنالك أنه كلما ازداد بصيرة بأسرار اللغة، وإحسانًا في تصريف القول، وامتلاكًا لناصية البيان، ازداد بقدر ذلك هضمًا لنفسه، وإنكارًا لقوته، وخضوعًا بكليته أمام أسلوب القرآن، وهذا قد يبدو لك عجيبًا، أن يزداد شعور المرء بعجزه عن الصنعة بقدر ما تتكامل فيها قوته ويتسع بها علمه. ولكن لا عجب، فتلك سنة الله في آياته التي يصنعها بيديه: لا يزيدك العلم بها والوقوف على أسرارها إلا إذعانًا لعظمتها وثقة بالعجز عنها. ولا كذلك صناعات الخلق، فإن فضل العلم بها يمكنك منها ويفتح لك الطريق إلى الزيادة عليها، ومن هنا كان سحرة فرعون هم أول المؤمنين برب موسى وهارون.”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم
“تلك هي سورة البقرة.. أرأيت وحدتها في كثرتها؟ أعرفت اتجاه خطوطها في لوحتها؟ أرأيت كيف التحمت لبناتها من غير ملاط يمسكها، وارتفعت سماؤها بغير عمد تسندها؟ أرأيت كيف انتظم من رأسها وصدرها وأحشائها وأطرافها، لا أقول أحسن دمية، بل أجمل صورة حية. كل ذرة في خليتها، وكل خلية في عضوها، وكل عضو في جهازه، وكل جهاز في جسمه، ينادي بأنه قد أخذ مكانه المقسوم، وفقًا لخط جامع مرسوم، رسمه مربي النفوس ومزكيها، ومنور العقول وهاديها، ومرشد الأرواح وحاديها.. فتالله لو أن هذه السورة رتبت بعد تمام نزولها، لكان جمع أشتاتها على هذه الصورة معجزة، فكيف وكل نجم منها -كسائر النجوم في سائر السور- كان يوضع في رتبته من فور نزوله، وكان يحفظ لغيره مكانه انتظارًا لحلوله؛ وهكذا كان ما لم ينزل منها معروف الرتبة محدد الموقع قبل أن ينزل؟ ثم كيف وقد اختصت من بين السور المنجمة بأنها حددت مواقع نجومها لا قبل نزولها بعام أو بعض عام، بل بتسعة أعوام؟
لعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات، وفي أساليب تربيته معجزات، وفي نبوءاته الصادقة معجزات، وفي تشريعاته الخالدة معجزات، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية "معجزات" ومعجزات، لعمري إنه في ترتيب آية على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات!”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم
“نظام عقد المعاني في سورة البقرة إجمالًا وتفصيلًا:
اعلم أن هذه السورة على طولها تتألف وحدتها من: مقدمة، وأربعة مقاصد، وخاتمة. على هذا الترتيب:
"المقدمة" في التعريف بشان هذا القرآن١، وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حدًّا من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم. وإنما يعرض عنه من لا قلب له، أو من كان في قلبه مرض.
"المقصد الأول" في دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام.
"المقصد الثاني" في دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في هذا الدين الحق.
"المقصد الثالث" في عرض شرائع هذا الدين تفصيلًا.
"المقصد الرابع" ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع وينهى عن مخالفتها.
"الخاتمة" في التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد وبيان ما يرجى لهم في آجلهم وعاجلهم.”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم
“ضرورة إحكام النظر في السورة كلها:
بيد أننا قبل أن نأخذ فيما قصدنا إليه نحب أن نقول "كلمة" ساق الحديث إليها: وهي أن ‌السياسة ‌الرشيدة في دراسة النسق القرآني تقضي بأن يكون هذا النحو من الدرس هو الخطوة الأولى فيه، فلا يتقدم الناظر إلى البحث في الصلات الموضعية بين جزء جزء منه -وهي تلك الصلات المبثوثة في مثاني الآيات ومقاطعها- إلا بعد أن يحكم النظر في السورة كلها بإحصاء أجزائها وضبط مقاصدها على وجه يكون معوانًا له على السير في تلك التفاصيل عن بينة؛ فقديمًا قال الأئمة١: "إن السورة مهما تعددت قضاياها فهي كلام واحد يتعلق آخره بأوله، وأوله بآخره، ويترامى بجملته إلى غرض واحد، كما تتعلق الجمل بعضها ببعض في القضية الواحدة. وإنه لا غنى لتفهم نظم السورة عن استيفاء النظر في جميعها، كما لا غنى عن ذلك في أجزاء القضية".
وبها تعرف مبلغ الخطأ الذي يتعرض له الناظرن في المناسبات بين الآيات حين يعكفون على بحث تلك الصلات الجزئية بينها بنظر قريب إلى القضيتين أو القضايا المتجاورة، غاضين أبصارهم عن هذا النظام الكلي الذي وقعت عليه السورة في جملتها، فكم يجلب هذا النظر القاصر لصاحبه من جور عن القصد، وكم ينأى به عن أروع نواحي الجمال في النظم؛ وهل يكون مثله في ذلك إلا كمثل امرئ عرضت عليه حلة موشية دقيقة الوشي ليتأمل نقوشها فجعل ينظر فيها خيطًا خيطًا ورقعة رقعة، لا يجاوزه ببصره موضع كفه، فلما رآها يتجاور فيها الخيط الأبيض والخيط الأسود وخيوط آخر مختلف ألوانها اختلافًا قريبًا أو بعيدًا لم يجد فيها من حسن الجوار بين اللون واللون ما يروقه ويونقه. ولكنه لو مد بصره أبعد من ذلك إلى طرائف من نقوشها لرأى من حسن التشاكل بين الجملة والجملة، ما لم يره بين الواحد والواحد، ولتبين له من موقع كل لون في مجموعته بإزاء كل لون في المجموعة الأخرى ما لم يتبين له من قبل. حتى إذا ألقى على الحلة كلها نظرة جامعة تنتظم أطرافها وأوساطها بدا له من تناسق أشكالها ودقة صنعتها ما هو أبهى وأبهر. فكذلك ينبغي أن يصنع الناظر في تدبره لنظم السورة من سور القرآن.”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم
“وخذ نفسك أنت ‌بالغوص في طلب أسراره البيانية على ضوء هذا المصباح. فإن عمي عليك وجه الحكمة في كلمة منه أو حرف فإياك أن تعجل كما يعجل هؤلاء الظانون؛ ولكن قل قولًا سديدًا هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف. قل: "الله أعلم بأسرار كلامه، ولا علم لنا إلا بتعليمه". ثم إياك أن تركن إلى راحة اليأس فتقعد عن استجلاء تلك الأسرار قائلًا: أين أنا من فلان وفلان؟ .. كلا، فرب صغير مفضول قد فطن إلى ما لم يفطن له الكبير الفاضل. ألا ترى إلى قصة ابن عمر في الأحجية المشهورة؟ فجِدَّ في الطلب وقل: رب زدني علمًا، فعسى الله أن يفتح لك بابًا من الفهم تكشف به شيئًا مما عمي على غيرك. والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور.”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم
“ضع يدك حيث شئت من المصحف، وعد ما أحصته كفك من الكلمات عدًّا، ثم أحصِ عدتها من أبلغ كلام تختاره خارجًا عن الدفتين، وانظر نسبة ما حواه هذا الكلام من المعاني إلى ذاك. ثم انظر: كم كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها من هذا الكلام دون إخلال بغرض قائله؟ وأية كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها هناك؟ فكتاب الله تعالى -كما يقول ابن عطية: "لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب لفظة أحسن منها لم توجد٢ بل هو كما وصفه الله {‌كِتَابٌ ‌أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}.
أول سورة هود "١١"، وأنت فأنعم النظر في هذه الآية الكريمة تجدها قد جمعت كل ما بسطناه في هذا الفصل بكلمتي "الإحكام" و"التفصيل" وأي إحكام وتفصيل؟ إحكام من "حكيم" متقن لا خلل في صناعته، وتفصيل من "خبير" عالم بدقائق الأمور وتفاصيلها على ما هي عليه.”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم
“لسنا ندري والله ماذا نقول لك في أسلوب معجز في وصفه، كما هو معجز في نفسه؟ غير أننا نقول كلمة هي جملة القول فيه، وهي أنه "تلتقي عنده نهايات ‌الفضيلة كلها على تباعد ما بين أطرفها".”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم
“أول ما يلاقيك ويستدعي انتباهك من أسلوب القرآن الكريم خاصية تأليفه الصوتي في شكله وجوهره.
١- الجمال التوقيعي في توزيع حركاته وسكناته، ومداته وغُنَّاته:
دع القارئ المجود يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله نازلًا بنفسه على هوى القرآن، وليس نازلًا بالقرآن على هوى نفسه. ثم انتبذ منه مكانًا قصيًّا لا تسمع فيه جرس حروفه، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومداتها وغناتها، واتصالاتها وسكتاتها، ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية، وقد جردت تجريدًا وأرسلت ساذجة في الهواء. فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام آخر لو جرد هذا التجريد، وجود هذا التجويد.
ستجد اتساقًا وائتلافًا يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر، على أنه ليس بأنعام الموسيقى ولا بأوزان الشعر، وستجد شيئًا آخر لا تجده في الموسيقى ولا في الشعر. ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد الأوزان فيها بيتًا بيتًا، وشطرًا شطرًا، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أهواؤها وتذهب مذهبًا متقاربًا. فلا يلبث سمعك أن يمجها، وطبعك أن يملها، إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد. بينما أنت من القرآن أبدًا في لحن متنوع متجدد، تنتقل فيه بين أسباب وأوتاد وفواصل١ على أوضاع مختلفة، يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء، فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم. بل لا تفتأ تطلب منه المزيد.
هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب. فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم
“وقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، فانظر أي إلهاب، وأي ‌استفزاز! لقد أجهز عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ثم هددهم بالنار، ثم سواهم بالأحجار، فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألداء، وأباة الضيم الاعزاء، وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سُلَّمًا يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا ... حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الحتوف، واستنطقوا السيوف بدل الحروف. وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعًا عن نفسه بالقلم واللسان.”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم
“فأما الذي يؤمن بالغيب فسيؤمن بهذا الحديث عنه وإن لم يره؛ لأنه رأى أثره، ولأنه يؤمن بمن أخبره. وأما ‌الجاهلون الذي أوتوا قليلًا من علم ظاهر الحياة فظنوا أنهم أحاطوا بكل شيء علمًا فإنهم سيكذبون بكل ما لم يحيطوا بعلمه، وسيقولون لك:
لعله اضطراب في أعصاب البصر خيل إليه أنه يرى شيئًا من لا شيء! وأنت فاستعذ بالله من عمى القلوب والعيون، وقل: كلا {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}. أو يقولون: لعله اضطراب في قوى الفكر صور له المعاني أشباحًا ماثلة، والأحلام حقائق مجسمة، فابرأ إلى الله من هذا الجنون، وقل: كلا {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}.”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم
“روعي في تسميته قرآنًا كونه متلوًّا٥ بالألسن، كما روعي في تسميته كتابًا كونه مدونًا٦ بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه.
٥، ٦ هذا بيان لوجه الصلة فيهما بين المعنى المنقول عنه والمعنى المنقول إليه، وهو مبني على ما اشتهر من استعمال القراءة في خصوص التلاوة، وهي ضم الألفاظ بعضها إلى بعض في النطق، واستعمال الكتابة في خصوص الرسم، وهو ضم بعضها إلى بعض في الخط. فإذا رجعنا إلى أصلهما الأصيل في اللغة وجدنا مادتي "ك ت ب" و" ق ر أ" تدوران على معنى الجمع والضم مطلقًا. ويلمح هذا الأصل الأول بكون كل واحد من اللقبين لاحظًا فيه وصف الجمع، إما على معنى اسم الفاعل أو اسم المفعول، فيكون معناه "الجامع" أو "المجموع"، وهذا اللقب لا يعني فقط أن هذا المسمى جامع للسور والآيات، أو أنه مجموع تلك السور والآيات، من حيث هي نصوص مؤلفة على صفحات القلوب، أو من حيث هي نقوش مصفوفة في الصحف والألواح، أو من حيث هي أصوات مرتلة منظومة على الألسنة، بل يعني شيئًا أدق من ذلك كله، وهو أن هذا الكلام قد جمع فنون المعاني والحقائق، وأنه قد حشدت فيه كتائب الحكم والأحكام، فإذا قلت: الكتاب أو القرآن، كنت كأنما قلت "الكلام الجامع للعلوم" أو "العلوم المجموعة في كتاب". وهكذا وصفه الله تعالى إذ أخبر بأنه نزله {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل: ٨٩] وكذلك وصفه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث قال: "فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم" رواه الدارمي عن علي، ك/ فضائل القرآن، ب/ فضل من قرأ القرآن "٣١٩٧".
وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضوعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلًا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة. ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر.”
محمد عبد الله دراز, النبأ العظيم