Hilal Chouman's Blog

May 27, 2018

تحضير الشاي مهم للغاية – مقطع من رواية

الجلسة عند أدريان ظلَّت صامتة لما يقرب ربع ساعة بعد أن أخبرته بمرض «أبي». قال أدريان إنَّ علينا تفصيل علاقتي به أكثر. رمى جملته وسكت. توًا، وجدتُ نفسي مهتمًا بتفقُّد المكان. هذه المرَّة الأولى، منذ قدومي لهذه العيادة التي يخطر لي أن أقوم بتفقد محتواها. لاحظ أدريان عدم تجاوبي، وانهماكي بتفحُّص أشياء لا أهتمُّ لها عادةً، فطلب مني أن أغمض عينيَّ وأن أتخيَّل نفسي متواجدًا في مكان يشعرني بالراحة.


رددتُ أن ليس هناك مكانًا كهذا.


«اخلق مكانًا متخيَّلًا»، كرَّر.


«ماذا ترى»، سألني.


أجبته:


«أراني صغيرًا. ربما أبلغ من العمر ست أو سبع سنوات. أعرف ذلك لأنِّي واقف أمام المرآة. مرآة تمتد من أسفل الجدار إلى أعلاه بشكل طولي، عرضها لا يتعدى الـ٦٠ سنتمترًا، وأنا أنظر إلى نفسي فيها. لسبب ما، أنهمك بالتأكد أنِّي أنا الذي يظهر في المرآة. كأنَّ هذا التأكيد يقول لي إنَّ أتخيله يخضع للمنطق. وبعد أن أحسم الأمر، أنِّي أنا الذي يظهرفي المرآة، أبتسم وأنصرف متجولًا في البيت الغريب. وعلى الرغم من عدم معرفتي السابقة بالمكان، فإنَّ إحساسًا ما يطبق علي: لستُ في برلين ولا ألمانيا. بعد خطوات قليلة أصير في المطبخ. أرى امرأة تتحرك بين الطاولة والغاز، ويبدو أنَّها تحضر الفطور. أرفع رأسي لكنِّي لا أستطيع رؤية وجهها. الرؤية مشوَّشة ونظري لا يبلغ أكثر من خصرها. أنا صغير وهي شاهقة. أشد ذيل ثوبها، لعلي أقرِّبها إلي، فتقول لي بلغة لا أفهمها – لكني أفهمها في مخيالي ولا تسألني كيف- أنّها «مشغولة بتحضير الشاي»، وأنَّ «تحضير الشاي مهم للغاية». ما إن تنهي جملتها، أسمع صفارة الإبريق، فأترك الثوب والمطبخ ويغمرني إحساس عارم بالفرح، وأصير أركض بين الغرف وأنا واثق أنِّي أعرف الطريق. ثمَّ أصل إلى باب خشبي بقبضة يد نحاسية. أحاول أن أصل للقبضة لكني لا أستطيع، لكنَّ الباب يُفتَح فجأة، كأنه فهم مرادي. منه أخرج، وما إن أقف في الخارج حتى يُغلَق الباب ورائي. أجد نفسي وسط أشجار عالية، وعلى الأرض تراب وحشائش وأكواز صنوبر. أسمع أصوات العصافير من دون أن أراها. ألحق دربًا محفورة في الأرض يبدو أنَّ أحدًا سكلها قبلي. أبقى ماشيًا لدقائق بشكل حثيث كأنّي أعرف إلى أين أصل، ثمَّ أجد نفسي عند نهاية التلة. من هناك أرى الوادي، أرى المدينة، وفوقها غمام أبيض في سماء زرقاء أظنَّ أنها تختلف في زرقتها عن السماء التي فوقي، وما إن أرفع نظري للتأكد من ظني، حتّى يتغيًّر المكان، وتختفي الألوان ويختفي المكان كله. أُشفَط إلى مكان بلونين، أبيض وأسود، وأجدني في الغرفة، على الكنبة، هنا، وها أنا أمامك يا أدريان»..


نظر أدريان إليَّ بشكل غريب، بينما مضيتُ أسأل نفسي بصوت عالٍ: ما هو هذا المكان؟ ومن هؤلاء الذي رأيتهم؟ ومن فتح لي الباب؟ وما هي تلك المدينة؟ ولماذا خلق خيالي شيئًا لا أفهمه؟


سعل أدريان. أعرفه. يفعل ذلك عندما لا يودُّ الإجابة وعندما يتحضَّر للقفز إلى موضوع آخر. سألني كيف أشعر الآن، فأجبته أني أشعر بالراحة.


«جيد.. فلنعد الآن للحديث عن أبيك»، قال.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 27, 2018 00:04

May 13, 2018

حفلة التنظيف

التقِط غطاء قنينة وقع على الأرض. أخرِج الطابة للقطة من مكان انحشرت فيه. امسَح الطاولة من بقايا التصقت. بقعة شاي؟ تفل قهوة؟ استخدِم الإسفنجة الوحيدة التي، لسببٍ غير مفهوم، لم ترمِها بعد، ولسببٍ غير مفهوم، بقيت على حالها منذ اشتريتَها. أزل البقعة فحسب، وتذكَّر دومًا أنَّ أمك تبدأ حياةً جديدة كلما نظَّفت البيت. تذكَّر كيف كانت تفتعل حملة تنظيف، كلما ذكَّرها زوجها أنَّها تغيب في ساعات عملها عن المنزل. أمك كانت تحاول إيهام نفسها وزوجها أنَّها تبدأ حياةً جديدة، وأنَّها بحملة تنظيفها تُصلح الأشياء. وها أنتَ، قد ورثتَ هذا كلَّه منها، رغم يقينك أن لا تغييرات جذرية، وثقتك أنَّ مبادراتك ستنتهي إلى كونها فصلًا آخر في قصة. مجرد فصل قبل الفصل القادم، قبل العودة إلى ما قبل حملة التنظيف، حتى حملة التنظيف اللاحقة. كل الآتي تعرفه، لكن، مع هذا، التنظيف جيد. يردُّك إلى لائحة الأشياء التي تنهيها كي تشعر بالانجاز. وها أنت، وصلتَ للشيء الرابع على اللائحة معدِّلًا من وضعية المغنطيسات على برادِّك، ومُبدلًا لا غالب إلا الله من غرناطة بالجامع الأزرق من إسطنبول، وتوكتوك كولومبو بأزهار وأجبان أمستردام. وها أنت، تعرف أنَّ الحفلة، حفلة التنظيف هذه، مجرد ذريعة انتظار. مثلها مثل كل شيء، ومثل عدم كون هذا النص نصًّا أولًا يشرح انتظارك. ولذلك ستنهي تنفيذ لائحة فحسب، وتبدأ تنفيد أخرى فحسب، فلا تتوقف انجازاتك أبدًا. وها أنت، تطير من مدينة إلى أخرى من دون أن تتعرف على أيٍّ منها. وها أنت، لا شيء يجذبك، ولا أفكار تخطر لك غير عنك أنت. وها أنت، أنت وأناك، تجيب عن سؤال معالجتك النفسية: «تمام؟». «طبعًا.. طبعًا»، تردّ ولا تفكِّر إلا بحفلة التنظيف التي ستقيمها عند وصولك لشقتِّك، وبالحيوات التي عشتَها مع أمِّك وزوجها، قبل جلوسك على هذه الكنبة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 13, 2018 07:28

May 5, 2018

«هذا صُنِع لأجلنا»

كانت الأشياء تتداعى من نفسها بلا مفاجآت، ورغم معرفتنا بما سيحدث لدرجة سهولة توقع الهيئة التي سيستقر عليها، لم نعرف إلا أن ننتظر.


في هذا كلّه، كانت مأساتنا: انتظار المتوقَّع. اللعبة التي كانت تشعرنا في البدء أننا على حق، وأننا عظيمو التفكير، لم تلبث أن صارت سبب انكماشنا. كنا نحضن أنفسنا مثل أجنَّة لم تولد، فنبقى في أسرَّتنا لساعات عائدين للشكل الذي اتخذناه قبل خروجنا الأول. نغيِّر وضعية المخدة الأولى، ونأتي بمخدة ثانية، ونطمر بعدها رؤوسنا تحت المخدتين، ثمَّ ننتظر أن يذهب هذا كله. لكنه الشعور كان يبقى حيث هو، ويتمدّد حتى نشعر به في آلام المفاصل، وفي حركة معوية غريبة، وفي شعور غريب للأكل أو الصيام المتواصلين، وفي انسحاق أرواحنا. كنا نرى نورًا من وراء ستارة، فنبقى في مكاننا، ثمَّ لا يلبث النهار أن ينقضي، وتحلّ العتمة. نسمع أصواتًا من الخارج، ولا نتحمس لمعرفة أصحابها أو أسبابها. ننام ونستيقظ ونعيد تعديل وضعيات المخدات. الحمام صديقنا، ندخله على عجل، ونخرج منه على عجل، متفادين النظر في المرآة. وبعد ساعات لا نحصيها، نتقوقع تحت رذاذ ماء ساخن نودُّ ألا ينتهي. ثمَّ نخرج في ساعات غريبة إلى الشارع، أو نمشي، أو نقود سيّاراتنا إلى لا مكان. «الأوتوسترادات صديقتنا»، نؤمن بالفكرة حتى نظنَّ أنَّ الحداثة صنعت هذه الطرق لتشعرنا بأن الأشياء المتداعية تذهب حتمًا إلى مكان ما، وأنَّ كلَّ هذا ضروري الحدوث. وإذ نسوق، ننهمك لا شعوريًا في أشياء تعلمناها. ننظر في المرآة الخلفية قبل الضغط على المكابح، وفي المرآة الجانبية قبل الانتقال إلى مسار آخر، وفي بالنا أن هذه أفكار بديلة ضرورية كي لا يعاودنا ذلك الشعور. «هذا صُنِع من أجلنا»، نفكِّر. كما المسلسل الديستوبي الذي نشاهده من على الكنبة، يتتابع حلقة بعد حلقة، ويرينا الأشياء في خرابها، ويقول لنا إنَّ الحزن الذي يمسك فينا لا يكفي، وإنَّنا نحتاج إلى التأكد أنَّ بالإمكان تصريفه في أعمال إبداعية. «هذا صُنِع لأجلنا»، وهناك بالفعل من يكرِّر استثمار ملايينه في صناعة أعمال تفصِّل لنا أنَّ الأشياء ستتعقد وهي في طريقها للخراب، وأنَّ استمرار الحياة سيصير تحديًا يوميًا، وعلينا الاستمتاع عند رؤية هذا الأعمال، والتخفُّف من أحزاننا، لأنَّ ما هو أسوأ قابل دائمًا للحدوث.


كانت الأشياء تتداعى من نفسها بلا مفاجآت، وكنا لا نعرف أن نتوقف عن الانتظار، فنقنع أنفسنا أننا لا ننتظر المتوقَّع، بل ما سيكسر تتابعه، ويوقف كل الأشياء التي عهدنا حدوثها. كنا نمضي بلا خيارات كثيرة وسط سيل ضحك الواثقين الذي لا ينتهي.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 05, 2018 12:49

April 25, 2018

حراك الخارجين: “ابتعدوا عنه.. دعوه يتنفّس!” / روجيه عوطة – هلال شومان

شهدَت الأيام القليلة الماضية محاولات السلطات اللبنانية طمر الفراغ، بعدما حضر مجددًا في رأس “الدولة” وعليه، مع امتناع إحدى مؤسّساتها الخاصة عن ستر النفايات، بوصفها شكلًا من أشكاله، لتحتلّ القمامة البلد، ويتوزّع المكبوت أمام الأعين، ويبين اللامرئي مرئياً، ويصير نظام التخلّص والطمر معطلاً.


انهارَت النظافة، ومعه الجسد الذي تنتجه، وربما لأنها تنتجه، قرف الجسد وانقبض. لكنّ موت الجسد محظور، فالسلطات لا تريد وقايته، لأنها تود الإبقاء على خوفه لتحكمه. والوقت المحكوم بالعوامل الطبيعية يساعد في تمكين مثل هذه السيطرة على أجساد لم تنقبض بعد.


الفراغ حيّ في لاوعي السلطات، فهو يظهر مع انكشاف حدود علاقاتها ببعضها، مدفوعًا إلى حده الأقصى بسبب فراغ موقع سلطة ما فوق السلطات وفيها. وتحت محاولات التحكم به، لا تريد السلطات أن تفعل شيئًا، لأنها ببساطة لا تقدر على فعل شيء. فعلاقات السلطات مع الفراغ، والمتأسّسة على الطمر والإخفاء، لا تسمح لها بالإنطلاق البنائي منه. وهي إن كانت- أو ظنّت أنها، قادرة على ذلك- ستذهب في النهاية إلى خيار دفنه حيًا تاركةً أسباب بروزه لتكرّر حدوثها خارج قبره، أي أنّ هذا الفراغ التأسيسي سيبقى كامنًا.


عندما خرج المتظاهرون إلى الشوارع، وجدوا أنفسهم محاصرين بالفراغ من جهة، وبالسلطات غير المتمكّنة إلا من طردهم جميعًا -هم الخارجين إلى مواجهتها- من جهة أخرى. وهذا الحصار بيّن لهم الطريق المسدود في علاقتهم مع السلطات، والمتمظهر تباعًا في غياب أفعالها ولغوِ ردود أفعالها.


حاولت السلطات أن تصدّ تهمة اللغو عنها بأن رفعَت الجدران في الشوارع، لكنها بفعلتها هذه أكّدَت التهم بدلاً من نفيها. وبعدما كان المطلوب من الجدران أن تحميَ لغات السلطات المتآزرة، وأن تعزلها مرحليًا عن مقتحميها قبل العودة لإشراكهم فيها لحظة النهاية المتوقعة للاقتحام (على ما كان يحدث للتحرّكات النقابيّة والأهليّة والمدنيّة التي ابتلعَت في السابق)، أفضَت المحاولة هذه المرّة إلى استقرار اللغات وتوحيدها وإفراغها، وتحويلها بالفعل إلى لغو منكشف ومتوقع ومتقاعس عن المعنى الراهن.


كانت المفارقة أن توحّد لغات السلطات التي كانت تناكف بعضها في مراحل سبقت هذا الحراك/الخروج، وتحوّلها حائطًا، هو الذي كشف الفراغ القائم. وزادت المفارقة عندما جاء “تعميم” التهم من قبل الخارجين ليؤكّد هذا اللغو. بمعنى آخر، لقد أزال التعاون اللغوي السلطوي وهم التعويل على اختلاف الخطابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية عند مختلف السلطات، ودفعها لإعلان المضمَر، لتتحوّل إلى سلطة واحدة موحّدة تواجه الخروج عليها.


قبالة حائط اللغو التعاوني هذا، عمد الخارجون إلى محاولة اكتشاف لغتهم الخاصة التي تنوّعَت بين الإثبات بالتفرقة لما هو مثبت (ولكنه غير معلن في المجال العام)، والإشارة بالجمع إلى ما هو مطمور (ما استفزّ أطرافًا أكثر من أطراف)، واستعادة البذاءة (الموجودة خفاءً، لكن المطمورة في الخطاب العام)، والحدس بالمستحيل (بلا وهم تحقيقه الآن)، وإعادة توظيف لغو السلطة نفسه لإنتاج لغة مناقضة منه تفضح عدم اتساق اللغو الأصلي وانكشافه.


لكنّ محاولات الاكتشاف هذه تخلّلها تبنٍّ للغاتٍ سابقةٍ على الخروج الشارعي، وهي لغات صارت بمرور الوقت وإرساء التعاونات السلطوية في الحكم، لغواً ينظر إلى الآن بوصفه الغابر من الأيام. ومنطق هذا الارتجاع اللغوي مخالف لفعل الخروج نفسه. إذ يشبه التقدم إلى الأمام، والتسابق معه عبر النظر إلى الخلف حصراً. وهو منطق يقوم أيضًا على الاختصار لا الإسهاب، والانتقاء لا التصويب في العام. فإذا كانت واحدة من محاولات هذا الخروج اللغوية الناجحة الأولى أنها عمّمَت التهم ضد السلطات وأجبرَتها أن تردّ بخطاب عام وموحّد، أتى الانتقاء الاتهامي ليقفز ظاهريًا فوق حائط اللغو وينتج لغته من خلفه.


ما هو واضح أن الحراك استطاع حتّى الآن أن يتجاوز هذه المحاولات الارتجاعية لخطاب ما قبل الخروج، ولو استمرّت هذه المحاولات حثيثةً ومحتميةً -كما السلطات وإعلامها- باللغو الوطني، وهو لغو كان يطمر الفراغ العام، تمامًا كما كان يطمر زمن ما قبل انكشافه. ويمكن الإشارة لهذه التجاوزات المتكرّرة بوصفها محاولات لاستكشاف القدرة، ورفعها من أدنى درجاتها. فإسقاط الحزن، وهو أدنى درجات القدرة وأعلى درجات السلطة، كان سمة أساسية تصف لحظة الخروج الأول، ويتأكّد هذا الإسقاط أكثر مع الدراية بتعقيدات السياسة والاجتماع والاقتصاد والاصطدام بها لا العكس. أما الحزن فهو تحديدًا الركون السلبي لهذه التعقيدات، والموافقة المتكرّرة على لغو السلطة.


وعلى عكس المسلك الحزني، جاء الخروج انهيارًا لتمثلات السلطة، فكان يلحق ببيان وحدتها وبالعلامة العنيفة التي كشفَته: الرائحة. وهذه المرّة كان الخروج دعوة للوقوع على الفراغ ذاته لكن بداعي تحريره من المؤسسات الدولتية وآلياتها (الطمر والحظر واللغو)، باعتماد عملية حسّيّة بامتياز: من شم التمثل الخائر إلى رؤيته، ثم السير والركض في طرقاته.


رمَت القوى الأمنية قنابلها الغازية على الخارجين كاستفهامات أجوبتها الخنق والإقصاء، وكانت وظيفة القنابل الوحيدة أن تعطّل الأسئلة. وعلى الرغم من القمع والتعطيل، وجد الجسد مهربه بأن ألف سبيل تعامله مع أعضائه بحسب ما يقتضيه سياق خروجه. فغطّت الأقمشة والكمامات وجوه الخارجين لا ليمنعوا الأمنيين من رصدها ومراقبتها فقط، بل ليمحوها أيضًا، وليصير تنفس الهواء والفراغ متاحاً.


كان الخارجون يمحون وجوههم ويتقدمون. ولم يكن المطلوب من القنابل الغازية أن تلجم الخارجين عن التقدّم، أو أن تدفعهم إلى الوراء فقط. كانت القنابل تُرمى لطرد الرائحة من الأنوف، وكي لا يتنشق الخارجون الفراغ فيدركون أنّ السلطة تمنعهم عن تنفسّه. ومرّة أخرى، خلق الجسد أسلوبه، فكان ما إن يشعر باقتراب قنبلة منه، حتى يعيد ردّها برجله، أو يحملها بيده ويقذفها باتجاه ملقيها.


أغمي على خارجين كثيرين نتيجة اقترابهم من بعضهم. كان الواحد منهم يسقط أرضاً، فيحمله الواقفون قربه إلى مساحة أكثر رحابة. وكانوا يقولون لمواكبيهم: “ابتعدوا.. دعوه يتنفس”، فيبتعد المواكبون بعد أن يدركوا أن الالتصاق غير مفيد، وأنّه إن كان يرادف الرغبة بالتوحّد وبالتحول جسداً واحداً، فإنه لا يستقيم إلا بكبت الاختلافات والتفردات والحضور. فالإغماء بهذا المعنى يشكّل أثرًا من آثار التوحّد، ليس حول العناوين والشعارات والغايات فحسب، بل حول الحراك وأساليبه وطريقه التي يسلكها إذ يتشكّل. ولهذا، فإنّ التوحيد الشارعي، إن حدث، سيؤدّي إلى طمر المغايرة، بالاتكاء على مقولات سلطويّة من نوع “الوحدة الوطنية” و”كلنا أخوة في الوطن” و”نحن شعب طيب، إلا أن السياسيين هم من دفعونا إلى التقاتل والتعارك”. فالشعب الذي صُنع بكبتِ وكبحِ إختلافاته، هو شعب مغمي عليه، ويقيم في غيبوبة لن يستيقظ منها إلا كي يموت، أو كي يظهر لنفسه ويتعرف عليها في مرآة الاحتراب.


وعلى منوال عبارة “ابتعدوا.. دعوه يتنفس”، لا يمكن البدء بالحديث عن احتمال صناعة شعب، إلا بكون الخروج سمته الأساس، وبإبراز اختلاف مكوّناته وصياغة تعدديته من دون تبني مقولة “الفسيفساء الوطنية”، وبلا الهجس في “مشترك” ضاغط وعصابي. إذ إنّ “المشترك”، والذي تمحور “العيش” حوله، قد صُنِع، أوّل ما صُنِع، بالطمر والحظر واللغو. وتحرير العيش منه يبدأ بالابتعاد عن الآخر، فلا يغشى على الأول ليتّهم غيره بالاندساس بغاية إستهلاك الهواء.


لقد أطلقت السلطة تهمة “الاندساس” لتصف الذي يذهبون بخروجهم إلى صراع مباشر مع قواها الأمنية. وبعد رواج المقولة، قرّر كثيرون أن يبحثوا عن أناس للصق التهمة بهم، فوجدوا ضالتهم في شباب الضواحي والأحياء البيروتية الفقيرة، فأعلنوا: “هؤلاء هم المندسون”، وأضافوا: “ونحن الحضاريون”. وسرعان ما روّجَت السلطات الإعلامية والمؤسساتية لثنائية “المظاهرة الحضارية” و”الشغب”، فأخذ البعض بها بدافع من خوف أو إحساس بالذنب.


إلا أن “الاندساس”، وبعيداً من كونه قد أطلِق كتهمة وصفيّة تمنع الخروج عبر “تثنيئه”، كان أيضًا قوننةً للتفرّق والتشظّي، وعاملَ جمع وتلاصق ووحدة، وهو بالتالي عودة إلى الإغماء والغيبوبة. ذلك أن السلطة تريد من الخارجين أن يبتعدوا عن موضوع بعينه هو “المندسون”، فلا يعود ابتعادهم عن بعضهم ليكون أول التنفّس والشروع بمغادرة الغيبوبة، بل يصير إبعاداً للـ”مندسين”، وتوحدًا ضدهم، فتتحوّل المسافة التي قد يأخذها المتظاهرون عن بعضهم تصدياً لأي حالة إغماء إلى مسافة سلبية وإبعادية، تحملهم إلى “وحدة حضارية” في مواجهة “مندسين”، لتعيد إنتاج الإغماء وتُدخل السلوكيات الدولتية، أي الإقصاء والإبعاد والإسكات، إلى مسالك الخروج.


وهذه الإغماء يعيد بدوره شلّ الجسد وتعطيل الحواس إذ يتحوّل الخارجون المعتمدون خطاب “الاندساس” إلى عضو واحد، يطرد الأعضاء الأخرى، لينكمش الجسد من جديد ويتجمّع ويقع في قبضة السلطة.


وبهذا المعنى فإنّ هذا الخطاب رمى إلى تركيز “الوحدة” وقوننة الابتعاد، كي يستدخل الخروج على السلطة، ويحوّله خروجًا إليها. ولقد اعتمدَته السلطة لتعطيل الرؤية التي صنعَت الخروج، وتحويلها إلى عين واحدة ترى في نزع القمصان عن الصدور إشارة إلى “اندساس” غير مرغوب به. ومع اعتمادهم الخطاب ذاته، بدا تباعًا أنّ بعض الخارجين يتعامل مع الشارع كملكية خاصة ناظرين إليه كمدخل لا كمخرج، ليقولوا: “هذا شارعنا، فارتدوا مثلنا، واحتجّوا مثلنا عندما تدخلوه”.


بفعلها هذا، كانت السلطة تقول للناس، من خرج منهم ومن لم يخرج، التالي:


“أنا لا أُطاق، لكن، قبل أن تعاينوا اللا محتمل، عاينوا المندسين حولكم. وقبل أن تفرزوني، تجمعوا وجمعوا أنفسكم. إياكم أن تروا وجودي الفظّ. إياكم أن تروا الفراغ الذي تفلّت منّي. إياكم أن تروا أنفسكم، وأن تروا أجسادكم. وأن تروا الآخرين. لا تروا إلا المندسين، واطردوهم على طريقتي”.


هذا ما رغبَت السلطة في فرضه على الناس. إما أن لا يروا، أو أن يروا المندسين فقط. وعندما لم يرضخ الخارجون لرغبتها، ضاعفَت من رمي قنابلها الغازية عليهم، ومن إطلاق الرصاص صوبهم، فأصابَت الشاب محمد قصير.


أرادَت السلطة أن تعلن، ومن دون مواربة، أنها تريد للأجساد أن تبقى مشلولة، وللنظر أن يرى ما تراه، وللّسان أن يتحدّث في خطاب تقرّره هي سلفًا. لكنّها كانت كلّما جسّت تكوّن الرأي والفعل اللذيْن تجدهما مستحيليْ الحدوث، تكشف عن شكلها، وعن وحدة معسكريْها، وتبيِّن جلافتها التي تسميها “هيبة”، وتقرّ بغبائها الذي تعتقده ذكاءً.


فبالنسبة إلى السلطة، الخارجون هم الأغبياء الذين رأوا غير ما تراه، ما يعني وجوب أن تعمل عماءها فيهم. لكنّ ما لا تراه السلطة، أو لا تريد أن تراه، لأنّ رؤيتها له هو إقرار بالفشل، أنّ الخارجين يحاولون رؤية اللامرئي، وشم المطمور، وإسقاط علاقات قوى الطمر والستر والحظر واللغو والإعماء.


الخارجون هم الراؤون للسلطة نفسها، الذين كلّما ابتعدوا عن بعضهم رأوا أكثر، وخرجوا أكثر، فتفرّق اتّحادهم وتوزّعوا ومارسوا تفرّداتهم وتشظّوا، ثمّ شرعوا ليصيغوا لا نهائيّة خروجهم. وتباعًا، كي لا ينتهي خروجهم، سيكون على الحراك أن يعود تكرارًا للوراء، كي يقفز من نفسه عن نفسه، من دون أن يهشّمها أو يحطّمها. أمّا التوقّف المرحليّ عن التظاهر فلن يعني نهاية الصراع ولا لجم التفكير في المستحيل، بل أنه فرصة لرؤية أوضح، ونعاساً يقظاً يرى عبره الراؤون أكثر، وتتضعضع السلطة في إثره أكثر فأكثر.


روجيه عوطة – هلال شومان


نشر  في المدن في ٢ أوكتوبر ٢٠١٥

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 25, 2018 09:31

July 22, 2017

ما الذي قد يحدث خلال عام؟

ما الذي قد يحدث خلال عام؟ يمكن أن تشتريَ كنبة وأن تخزّق قطتك قماشها، أو أن تفرش سجادة جديدة ومن ثم تغيِّر مكانها، أن تحلق شعرك وتطل ذقنك، أو العكس، أو الاثنين معًا. وقد تشتري القمصان، الكثير منها، لأنك قررت أن تغيِّر من مظهرك، وفي ظنِّك أن هذا سينهي مرحلة ويبدأ أخرى. هكذا سمعتْ، وهكذا قالوا لك، قم بتغييرات جذرية. غيِّر عملك، أو اعمل أكثر. كل ما تحب أو أكثر من الرياضة. اشترِك في نادٍ، واصقل جسمك حتى لا تعود تتعرف عليه، فترمي مع جسدك الآخر كل ما حدث لك. اركُض صباحًا، اركض مساءً، واعمَل على تحديث قائمة الأغاني التي تستمع إليها. تنقَّل بين أغاني البوب والزمن الجميل، وعرِّج على الأناشيد الثورية التي من الممكن أن تضبط إيقاع هرولتك. ابحث عن صفوف لتعليم الرقص وتراجع عن التسجيل فيها. ومن الممكن لك خلال سنة أن تتعلم التأمل، وأن تواظب عليه وتتوقف. أن ترى أشياء كثيرة خلال إغماضك لعينيك، فتلمح نفسك صغيرًا وكبيرًا وتسترجع كل التفاصيل السخيفة التي لم تلاحظها حين حدوثها، وتغالي في تحليلها لتستنبط منها المعنى. ثمَّ افتَح عينيك وانهِ مشاهدة أكثر من مسلسل تلفزيوني. نزِّل أفلامًا لن تراها، واشترِ كتبًا لن تقرأها، واجعلها تتراكم على الرفوف. واظب على جلي الأطباق لما فيه من راحة نفسية تؤمن لك مزاجًا طيبًا حتى اللحظة التي تعاود فيها النظر إلى الصوَر. دوِّر نصوصك القديمة والجديدة، لـ”ترى الأشياء التي كانت ولم تبقَ، والأشياء التي بقيَت في غير أماكنها القديمة، والأشياء التي صمدَت حيث كانت. حتى يخفت لون الأثاث ويتجمّع الغبار حول حوافه وفي زوايا الغرف، وتصفّر الجدران” في كل الأماكن التي زرتها بالتدريج، واحدس بحياتك تترسّب بطيئةً حولك وفي عقلك حتى تعيد التفكير في كل ما هو قابل للحدوث خلال عام وتفهم أخيرًا أن لا معنى للانتظار أكثر، إذ لن يحدث أسوأ من أن يضمر طيف قصة، وتصير الحكاية قابلة للاستخدام في نصٍ غير مكتمل لن ينشره أحد.

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 22, 2017 11:29

July 21, 2017

مقطع من رواية جديدة

نظرتُ إلى آزو من حيث أجلس على الكنبة. شفتُ الشامة الناتئة في الجانب الأيسر من كتفه، ولمحتُ التشقُّقات التي ظهرَت أسفل ظهره بعد فقدانه المتكرر للوزن. ظننتُه غارقًا بالنوم، فأكملْتُ أنحدر بنظري على خصره، وأصابع يده، ثمَّ مؤخرته، ففخذه.


كان يمكن لي أن أبقى أتبصَّر في جسمه بلا ملل. لم تكن المرَّة الأولى التي أصفن فيه على هذا النحو بعد أن ينام. ولم يكن الأمر جنسيًّا. أقصد أنَّه جنسي، لكنَّ الدافع الأساسي من نظرتي لم يكن رغبتي في الاستثارة -وإن كنتُ أُستثار- بقدر استمتاعي باكتشافي المتكرر لجسمه، وتعاملي مع الأمر كرحلة يكتنفها الحزن والمتعة معًا.


«لا متعة بلا حزن عندي، ولا حزن إلا مع متعة»، قلتُ لأدريان، معالجي النفسي، مرَّةً، فقطَّب حاجبيه مبديًا عدم اقتناعه بحكمي الجازم.


عندما أحدِّق في جسمه، يعود آزو ليقف من جديد في صف الانتظار عند مدخل النادي الليلي حيث كان لقاءنا الأول. وقتها، حدثَت بيننا تلك اللحظة التي خيِّل لي فيها أنَّه ينظر إليَّ، قبل أن يغادر صفَّه ويتجاوزني ويسلِّم على أناس آخرين يقفون ورائي.


حاولتُ الاستماع إلى حديثه مع رفاقه. كنتُ منهمكًا في التنصُّت، لدرجة أنِّي كنتُ أحيانًا أنسى التقدُّم في الصفِّ، فيقوم الواقف ورائي بتنبيهي. سمعتُهم يتحدَّثون أولًا بالعربية ثمَّ بلغة لم أفهمها، ولم يطل الانتظار قبل أن أدخل النادي وألتقي برفاقي الذين كانوا ينتظروني.


قلتُ لهم إنِّي سألحقهم خلال دقائق، ودعوتُهم أن يمضوا باتّجاه القاعات الأخرى. بقيتُ واقفًا عند البار أنظر إلى الباب منتظرًا دخول آزو، لكنَّ ظلام المكان ووميض ألوانه لم يساعداني في تبيِّن وجوه الداخلين، ثمَّ سرعان ما قطع انتظاري مجيء رفيق آخر من المجموعة دعاني لشرب كأس.


لم أبقَ إلى ساعة متأخِّرة كما اعتدتُ أن أفعل في نهاية كل أسبوع. اعتذرتُ من رفاقي قبل منتصف الليل بقليل، مدَّعيًا الشعور بالتوعُّك، وقلتُ إنِّي أفضّل عدم التورُّط بالشرب أكثر.


وقفتُ في الخارج، يراودني شعور الحزن الذي يلي إضاعة الفرص. لا أعرف لِمَ تعاملتُ مع آزو وقتها كفرصة. فأنا لم أكن أعرف آزو قبل وقوفنا في الصفِّ، ولم ألمحه سابقًا لا في النادي ولا في الشارع رغم تردُّدي الأسبوعي عليهما. لكنِّي كنتُ واثقًا من شعوري بالخسارة، وأنِّي لن أراه بعدها.


انتظرتُ عند المدخل أدخِّن سيجارة. لم أكن أرغب في العودة إلى المنزل، ثمّ قرَّرتُ أن أتمشى في الشوارع وأرى إلى أين ستأخذني قدماي. مشيتُ لما يقرب الساعة، فوجدتُ نفسي أعود إلى الرصيف المقابل لمدخل النادي. درتُ في حلقة مقفلة، وعدتُ إلى نقطة البداية من دون قصد وبلا كثير تركيز.


كنتُ أهمُّ بتوليع سيجارة عندما رأيتهُ خارجًا من باب النادي. وقف مترنِّحًا يضع سيجارة في فمه، وبدا لي من مكاني أنَّه لن ينجح في إشعالها، ففكَّرت أن أقطع الطريق لأقدّم له قدَّاحتي، مدفوعًا بشعور الإثارة الذي لفَّني، لكنِّي ترددتُ. لم تمرَّ ثوانٍ قبل أن يرفع آزو نظره نحوي، ويبتسم ابتسامة غريبة، ويقطع الطريق باتِّجاهي. عندما وصل، اكتفى بالسلام، وأخذ مني القدَّاحة بلا استئذان وأولع بها سيجارته، ثم أعادها إليَّ شاكرًا قبل أن يجلس على حافة درج قريب، ويدعوني بالإنكليزيَّة أن أنضمَّ إليه.


أعلمني باسمه، فرَدَدْتُ باسمي، وسلَّمنا على بعضنا من جديد. بقينا جالسيْن على الدرج، ندخّن سيجارتيْنا بصمت، قبل أن يعلن آزو أنَّه لا يشعر أنه على ما يرام. لم يسعفني الوقت لأستفسر أكثر لأنه فجأة رمى السيجارة، وبدأ يتقيَّأ بين قدميه.


«يوسف؟»، يسألني آزو من السرير. يربَّت على الوسادة قربه ويضمُّ شفتَيْه. أنهض من مكاني محاولًا القفز فوقه إلى المساحة الفارغة.  لكنَّه يقلبني ويستلقي فوقي، ويقول: «كنتَ تنظر إليَّ وأنا نائم».


أهزُّ رأسي بالنفي، فيرفع آزو حاجبه، كعادته عندما يعلن عدم اقتناعه. أتراجع عن إجابتي الأولى وأشرحُ أنِّي أحبُّ التحديق فيه. يُقرِّب وجهه من وجهي، ويقول إنَّ باستطاعتي أن أكمل النظر، فأزيحه برفق وأعود لأجلس على طرف السرير.


«تذكَّرتُ كيف تقيَّأتَ في حضني عندما التقينا في المرَّة الأولى»، أقول له فجأة. يُصحِّح لي ويقول إنَّه تقيَّأ على الرصيف. وعندما لا أردُّ على تعليقه، يحاول أن يستعين باهتماماته الأدبيَّة، فيصف ما حدث  بيننا ببدايات الروايات الرومانسية الكلاسيكية التي تبدأ من نقطة غير صائبة لغويًا أو حدثيًا وتندفع إلى الأمام.. أو إلى الوراء. «ما العلاقات إلا تقيؤات متبادلة»، يقول وهو يقترب. يحيطني بذراعه ويعتذر مني قائلًا إنَّه يعرف كيف أشعر هذه الأيام. يقبِّلني على كتفي، ويعود ليستلقي من جديد.


هذه المرّة، أجدني أنسحب نحوه. أقبِّله مغمضَ العينيْن، فلا أعرف إن كان ينظر فيَّ أم لا.


(مقطع من الرواية الجديدة)

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 21, 2017 02:23

June 22, 2016

حلم خالد

أعدُ نفسي معكِ بالأحلام التي اعتزلَتني منذ زمن. أقول إنِّي في وجودك سأحظى بالحلم العائد الذي لطالما انتظرتُه. سيكون بألوان غريبة، تقف عند حافة التفاصيل وتأنف عن تخطِّيها. ألوان ليست داكنة جداً، ولا برَّاقة جداً، ولا تفسح مجالًا للظلال. الألوان تطوف، ويعدو الزمن من حولي وتتراكم التفاصيل. هذا الثبات متحرك، أقول. هذا الحراك لا يلتزم الإيقاع المنتظر، أضيف. وحين أتوقَّف عن الكلام فجأة، ألحظ الجماد في كل شيء. أرى صورة. وأجد أنَّني لا أنظر وحدي إليها. أنت تنظرين معي. نحن واقفان خارج جسدَيْنا. نرانا، ويخطر لنا مع هذا الاكتشاف، أن نكون نحن أيضًا جزءًا من بداية ما، ومن صورة ثابتة يحدِّق فيها آخرون. ولأجل هذا الاحتمال فقط، ومن دون أن نتأكد منه، نرسم ابتسامتيْن على وجهَيْنا من غير أن نراهما.


***


مقطع من الرواية الجديدة، تصدر -أخيرًا- نهاية العام الجاري (إذا حالفنا الحظ هذه المرَّة طبعًا)

3 likes ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on June 22, 2016 09:02

January 21, 2016

مقطع محذوف من الرواية الجديدة

نرحل. نغيب عن الأمكنة، ونمضي أوقاتنا نسأل ما الذي تغيَّر؟ نسأل: ما هذا الذي نشعر به؟ ما الذي زاد؟ وما الذي نقص؟ يتعاظم شعورنا بالنقصان، فندعم أسئلتنا بالزيارات. نظنُّ أنَّنا إنْ عدنا، سنجد الأجوبة. نزور الأمكنة، وتزورنا. نحن ننظر في تفاصيلها، وهي تنظر فينا وتخترقنا. وكلَّما عاودنا الزيارة، أو بقينا في المكان أكثر، غبنا ولم نعُد متيقِّنين: هل انتبهنا؟ هل فهمنا؟


نمضي نؤبِّن اللحظات والذكريات، وتتحوَّل رحلاتنا إلى حفلات متوالية من مشاعر متضاربة، كل شعور فيها يضيف إلى ما سبقه، كل شعور فيها يطرح مما سبقه، كل شعور فيها مستقلٌّ بذاته، يتَّصل بما قبله، ويؤسِّس لما بعده.


زياراتنا للأمكنة تسهِّل عملية التأبين. الأمكنة أوعية عامة حدث فيها كلُّ شيء. الأمكنة تستعيد المشاعر، ترفعها إلى السطح وتكاد تحتفي بها. الأمكنة حاضرة أكثر من الزمن. الزمن محض تفصيل عمودي يضاف لما حدث. الزمن يتغيَّر كلَّما تغيَّر شعورنا، وكلَّما ثقل إحساسنا تجاه كلِّ ما جرى أو خفَّ. لكنَّنا مهما حاولنا، لن نقدر أن نقبض إلا على ما هو مادِّي أمامنا.


تتحوَّل عودتنا إلى محض تمرين لقتل الوقت. كيف يُقتَل الوقت؟ عندما نصير نشعر بالبطء، أو عندما يتسارع إحساسنا بجنون الإيقاع. كيف يُقتَل الوقت؟ عندما لا يعود شيئًا ممَّا يحصل حولنا متَّسقًا بالنسبة إلينا. كيف يُقتَل الوقت؟ عندما نُعلن الحداد، في الطرق التي نستقبل فيها ما يحدث حولنا، وفي ما نفعله. كيف يُقتَل الوقت؟ ولماذا نسأل؟ الكيفيَّة غير مهمَّة.


نغيب في الأمكنة التي عدنا إليها. نذوي ونتّْضح وتسيطر علينا الغرابة، فنجد أنفسنا نقف عند الأطلال. في الدخول والخروج، كلُّه طَلَل. في العودة والذهاب، كلُّه محض بقايا مما حدث معنا من قصص غير مكتملة مفتوحة النهايات. وما النهايات؟ وما الاكتمال؟ من يحدِّد ذلك كله؟ نحن الذين نركن إلى ترتيبٍ ما، لنقول إنَّ القصَّة انتهَت. لكنَّ القصص لا تنتهي. هذا ما سننتبه له أخيرًا. ولأننا انتبهنا، نقرِّر الابتعاد من جديد. وكلَّما واصلنا الابتعاد، غمر الرمل الطَّلَل. ابتعادنا عاصفة رمليَّة، وعوداتنا، مصادفاتٍ أم قراراتٍ، نسيمٌ عابر لا ينجح إلا في تطيير بضع ذرات رمل كافية لتذكيرنا بأنَّ شيئًا ما حدث هنا.


شيءٌ ما حدث هنا، وهذا ربّما كافٍ.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 21, 2016 09:15

December 17, 2015

مقطع من رواية جديدة

تأتيني المشاهد نتفًا كغمام أبيض في سماء زرقاء. أرى الأشياء التي كانت ولم تبقَ، والأشياء التي بقيَت في غير أماكنها القديمة، والأشياء التي صمدَت حيث كانت. يخفت لون الأثاث ويتجمّع الغبار حول حوافه وفي زوايا الغرف. تصفّر الجدران بالتدريج، كأنّها تقول إنّ حياةً ما تترسّب بطيئةً هنا. تنتقل كنبات إلى غرَف كانت مغلقة، وتتعرّى كراسٍ وأشياء أخرى لتصير هياكل وقطع حديديّة في الحديقة الخلفية للبيت.


لم يفتح لي الباب يومًا. كنتُ عندما آتي، أكبس على الجرس، وأنتظر. وعندما لا يقترب أحد من الباب، أدقّ عليه بقبضتي، ثمّ تقوى طرقاتي مع مرور الدقائق، قبل أن أخرج المفتاح من جيبي. لماذا كنتُ أتريّث قبل استخدام المفتاح؟ هل كنتُ أرغب أن يفتح لي الباب؟ أم كنتُ أخاف أن أدخل لأجده قد مات في غيابي؟ أم كنتُ أمهله الوقت كي لا أراه عاريًا مع امرأة أخرى؟ ولِمَ أفعل ذلك؟ ولِمَ أتوتّر من فكرة أن يكون مع إحداهنّ؟ ليس أبي، ولم تكن زوجته حتّى أمي، فماذا في الأمر؟


كلّما وقفتُ عند العتبة، تراءَت لي أبشع المشاهد. كلما انتظرتُ هناك، نتأ فيّ الخوف، لكنّي كنتُ أطرد الشعور بالقول: من هنا خرجتُ، ومن هنا سأدخل، ومن هنا –حتمًا- سأعود لأخرج.


في هذا المنزل، تعاظمَت لديّ موهبة رسم المشاهد في عقلي. وكما تكتَب الروايات، كما كان يشرح لي آزو قبل أن يقدم ورقة جامعية، كنتُ أخلق في عقلي سيناريو وأصير أبني فيه وأضيف إليه وأُنقِص فيه. وكنتُ كلما أنهيتُ مشهدًا انتقلتُ للتفكير بآخر وبتمييزه عن سابقه بتفاصيل أخرى، حتّى وصلتُ لحدّ الإيمان بأنّي احترفتُ الأمر، وما عليّ إلا الانتظار للحظات كي تخرج الأشياء منّي وتتحقّق أمام ناظري.


خفتت قدرتي فجأة بعد أن تركتُ المنزل. صرتُ أنام أكثر، وقلَّت أحلام يقظتي ومنامي. عندما أخبرتُ معالجي النفسي بالأمر، لم يبدُ عليه التفاجؤ، واكتفى بأن دوّن شيئًا أمامه في الأجندة، وبدعوتي أن أكمل حديثي. أنهيتُ وقتها الجلسة بالقول له إنّه بات يذكّرني بأبي، كلّما أومأ أو رسم تعبيرًا على وجهه وانتظرني أن أكمل بدل أن يجيب عن أسئلتي، وهي ردّات فعل كانت تردّني لأسئلة لطالما عبرَت خاطري: لماذا لا يتكلّم الأشخاص عندما ننتظرهم أن يقولوا لنا شيئًا؟ ولماذا يتحدّثون في لحظات ينتقونها هم؟ وكيف يتغيّر الكلام عندما نمعن في تأجيله؟


كلّما وقفتُ عند العتبة، أخذني شعور الانسياق. أفتح الباب، وأتركه ورائي مفتوحًا، كأنّي أؤكّد خروجًا لاحقًا، وأدخل بخطى بطيئة. أسمع الصرير آتيًا من الحديقة الخلفية فألحق الصوت وأجده –كما كلّ مرّة- جالسًا على الأرجوحة، بفانيلته البيضاء وبنطال البيجاما الأزرق، منكبًّا فوق قطع حديدية متفاوتة الأحجام والأشكال، وقربه كؤوس شرابه.


“تعا، تعا..”، يدعوني للجلوس، ويفسح لي مكانًا قربه، ثمّ يصبّ لي كأسًا، ويعود لانهماكه، بعد أن يعطيني قطعة من قطعه.


في المرّة الأولى الذي وجدتُه فيها على هذا النحو، لم أفهم طلبه. استعاد منّي القطعة وأمسك بإحدى الأدوات أمامه، وشرح لي كيف أفكّها، وأعاد تمريرها لي. وفي المرّات اللاحقة، صار شرحه يقتصر على الكلام.


كان يتحدّث دومًا عن ضرورة تفكيك الأشياء، لأنها عندما تتفكّك -حسب قوله-  تتعرى من الطبقات، وبعد أن كانت عنصرًا ضمن مجموعة عناصر، تعود وحيدة ويمكن إعادة بنائها على هيئات جديدة على غير حالاتها السابقة.


كلّما استفاض في تلك الأحاديث، كان يخطر لي الخاطر نفسه. إنّه لا يقول هذه الأشياء لي على وجه الخصوص، ولعلّه كان سيقول الكلام نفسه لو كان آزو مثلًا جالسًا في مكاني. لم أكن أجد نفسي في حديثه على أيّ نحو، وهو لم يكن يحاورني بقدر ما كان يكلّم نفسه. لكن على الرغم من يقيني بانتفاء ضرورة وجودي، لم أكن أتوقّف عن الاستماع إليه، بل كنتُ أركّز في ما يقول، وأنهمك في تفكيك قطعتي الحديديّة، لينتهي الأمر بأن يجذبني إلى عالمه، تمامًا مثلما سحبني ذات يوم من الموت. لكنّه يتوقّف عن الكلام فجأة ويرفع وجهه نحوي مبتسمًا، كأنّما لاحظ وجودي من جديد، ويسألني عن أحوال آزو.


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 17, 2015 13:22

September 9, 2015

هزّوا جذع الشجرة!

المدينة صفراء، قلتُ ناظرًا إلى الصوَر. وتذكرتُ ملصقًا مخزقًا لمسرحية بالقرب من مسرح أغلق. كان اسم المسرحية: “بيروت صفرا”. لم أشاهد المسرحيّة. وكنتُ وقتها بعيدًا عن هذا “الجو”. أخذتني سنوات كثيرة حتى أعرف ماذا أفعل. وهذه على الأرجح سمة في مدن تغلق مسارحها وأماكنها العامة واحدًا إثر آخر، وتدفعك للرحيل: أن لا تعرف، وأن ترحل لكي تعرف.


كيف يكتب أحدنا عن المكان؟ وكيف نكتب عن أنفسنا؟ وكيف نصير المكان ويصيرنا؟ لا أسئلة جديدة هنا، والكلام عن هذه الأشياء يبدو للحظة وقد نفد. خلّصه كثيرون ممّن كتبوا وسطّحوا. وفي خضمّ طرح المعاد، يبدو في لحظة أنّ كل شيء مقلوب، وأننا قلبناه فجأة وصرنا نسلك إلى باطنه، وكلّما تقدّمنا تفاجأنا بما لم نتوقعه، أو بما توقعناه ولكنّنا لم نتوقعه على هذا النحو بالفعل. لكن ما هم. سنمضي على ما تقول أكثر من أغنية. وسنتقدّم لنهزّ قليلًا جذع الشجرة الميتة وننتظر أن تساقط علينا بضع ثمرات. هل تحمل الأشجار الميتة ثمرًا؟ وهل ثمرها ميت؟


ما هم. الأهم أننا تصالحنا مع هذه “النحن” من دون أن نشعر بعقد الذنب التي كانت تمتلكنا كلما قلناها. لا وهم هنا عن النحن. مجرّد تصالح. خطوة أولى فحسب. جدال مع النفس انتهى بإيماءة وابتسامة. لا وهم.


كنّا في حلقة مفرغة، ننظر إلى كل الفجوات، ونحمي جمودنا بالقول إننا أمام شبكة معقّدة، وهذا صحيح. لكنّنا الصحيح أيضًا أنّنا لم نكن نتقدّم. والآن بدل الانتظار فقط، سنبدأ بالتقدّم ونبقي على الانتظار. لقد بارحنا على الأقل مطارحنا، ولم نحتمِ بالتعقيدات. سنتقدّم ونتتظر، وننتظر ونقدّم. وسنسلك طريقنا إلى الباطن، إلى داخل الجحيم. هل هذا جحيم أصلًا؟ وهل يمكن للجحيم أن يكون مملاً إلى هذا الحدّ؟ هل يمكن أن يكون سمجًا إلى هذا الحدّ؟ هل يمكن أن يكون منعدم الإثارة إلى هذا الحد؟ هل يمكن أن يكون معادًا إلى هذا الحد؟ كيف نتفاجأ ولا نتفاجأ؟ وكيف يصعد كل هذا الحماس في لحظة إلى حلوقنا، فنختنق ثمّ يهبط فنرتاح؟ كيف نخرج من هذه القبضة التي لا آخر لها؟


بيروت صفرا. الغبار إلى جانبنا، كتب روجيه.


لقد أتى من سبقنا، الموتى والجرحى والضحايا. أتى الجميع ليساندونا وليكونوا إلى جانبنا، كتب طوني.


أتخيّل المقابر الجماعية تفتح، ويخرج من فيها، يسيرون جنبًا إلى جنب. أحدهم يعرف طريقه، وآخرهم يتعارك مع من يقف إلى جانبه. من قتل من فيهم؟ ومن فهم ماذا؟ وهل فهموا؟ وهل إذا ما قدر لهم الخروج، سيرحلون عنا أم يبقوا معنا؟


المدينة مقلوبة. صفراء. وهذا الغبار يملأ الفراغ ولا يزيحه. هذا الغبار يحركش الملل ولا يبدّده. سنختنق قليلًا ونتحمّس، ونتحمّس ونختنق، فالحماسة وحدها تستحق. مخطئ من يداري الأمل كفرصة أولى وأخيرة. مخطئ من يجمّل يأسه بادعاء فرصة أخيرة. فالغبار معنا، والفراغ معنا، ونحن من الباطن سنحاول اختراق الباطن.


بيروت صفراء، ونحن نحاول الخروج.


هزّوا جذع الشجرة!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 09, 2015 08:38