Heba Abdel Aleem's Blog: على الهامش
January 3, 2024
عن رضوى عاشور .. مقاومة الغربة بذكر الاحباب
عن رضوى عاشور .. مقاومة الغربة بذكر الاحباب
كخمس قطط صغيرة نتسلل تحت جنح الظلام في الشوارع الخلفية. تتشابك أيدينا لنلتمس الدفء في ليلة باردة من ليالي نوفمبر الأقسى الذي مر على جيلنا على الاطلاق.
تتناهى إلينا أصوات الهتاف والقصف وقرع المتظاهرين على العلب المعدنية واعمدة الانارة الذي يقابله صوت سارينة عربات الامن المركزي. ذلك المزيج من الأصوات الذي رافق أحلامي لسنوات.
تتأرجح مشاعرنا بين البهجة للقاء المرتقب مع السيدة الجليلة وبين القلق على رفاق الميدان والخوف من إشاعة تم بثها عن عملاء للأمن منتشرين في الشوارع الخلفية لوسط البلد، يقال انهم يقومون بالقبض على السائرين والتحقيق معهم وربما ارسالهم لأمن الدولة.
تقترح "سمية" اقتراحا يبدو غريبا: "يلا نغني"
انتظر إليها متعجبة من غرابة الاقتراح واسألها: "نغني؟!"
فتجيبني: "آه .. يلا"
يرتفع صوتها بالصهبجية .. لم تجد النغمة ترددًا في أرواحنا. فتقول: "طيب اغنية تانية"
اجيبها: "شبابيك"
ويرتفع صوتنا بالغناء هازما الخوف والوحشة، مؤازرا للرفاق المرابطين في محمد محمود.
***
لم تبدأ الاحداث في تلك الليلة وانما بدأت قبلها بشهر تقريبا. كانت جمعة من تلك الجمع التي كنا نجتمع فيها في لنهتف هتافا بلا جدوى للدستور أو للحلول المدنية أو لأي من المطالب التي جمعتنا الثورة عليها.
ربما في ذلك اليوم من أيام أكتوبر ٢٠١١ كنت اهتف للدستور أو للانتخابات او لمدنية الدولة. لا أذكر في الحقيقة. كل ما أذكره أن الهتاف انهكني فابتعدت قليلا مع بعض الصديقات حتى تمثال عمر مكرم. ووجدتها أمامي. د. رضوى عاشور. السيدة الجليلة بنفسها كانت معنا. تهتف كما نهتف. وتطالب بما كنا نطالب به. ثم ابتعدت لترتاح قليلا كما ابتعدنا.
التففنا حولها لنتعرف إليها. وبروح معلمة وأم وقفت وافردت لكل منا وقتا. كانت تسأل عنا وعما ندرس وعما نعمل.
وقتها عرضت عليها فكرة المشروع الذي كان يتكون في عقلي في تلك الأيام. مشروع كتاب يجمع شهادات لثوار من كل محافظة من محافظات مصر. انتبهت لما أقول لثوان قليلة ثم قالت لي "ده مشروع مهم. أحب أتابع شغلك عليه"
تبادلنا أرقام الهاتف ووعدتها بالاتصال.
ومن هنا يمكننا أن نبدأ.
***
كانت البداية في صحن دارها. اختار ذلك التعبير عمدا وليس مجازا أو لعبا باللغة. صحن الدار تعبير قديم يدل على غرفة الاستقبال في البيت العربي الأصيل. وبيتها كان عربيا أصيلا.
تدخل فتقابلك باحة فسيحة مؤسسة على الطراز العربي. سقف مرتفع مشغول بحليات من العروق الخشبية. مقاعد من الأرابيسك المطعم بالصدف. وعشرات القطع الديكورية المنتقاة بعناية.
ذوق امرأة عربية أصيلة تدرك عروبتها وتفخر بها. تتحرك عيناي بين قطع الأثاث والديكور فلا تقاطعني حتى أعود إليها ببصري. حينها تسألني عن مشروعي وعن ما انجزته.
اخبرها ان الهدف من المشروع هو جمع شهادات الثوار. فتعطيني الدرس الاول عن تحقيق الشهادات ومطابقتها.
تقول لي: "عليك أولا بدراسة الحدث بشكل تقريري محايد، ومعرفة تفاصيله الرئيسية. ثم عليك قراءة وسماع شهادات حاضريه ومعاصريه . طابقي الشهادات مع الأخبار الواردة عن الحدث. ضمي الشهادات التي تطابق الحدث للمشروع واستبعدي الشهادات المخالفة".
كان هذا الدرس الاول الذي تعلمته.
وبدأنا العمل معا في جلسات أسبوعية لا يقطعها إلا مرضها أو فترة تعافيها بعد إجراء إحدى العميات الجراحية إثر مرضها الاخير
بطبيعة الحال كانت كل لقاءاتنا تتم في بيتها.
اعتدت دخول البيت لكن لم تفارقني الدهشة. في كل زيارة كنت أكتشف شيئا جديدا. الطاجين المغربي بشكله المخروطي المميز ونقوشه العربية رأيته لأول مرة في بيتها. وقفت اتأمله ولمسته خلسة فحاوطتني ابتسامتها ولمسني الحنين في صوتها وهي تقول نقدم فيه الكسكس المغربي في اللقاءات العائلية. أعده حينما يكون تميم في البيت.
لمست أنها كانت تحب الطهي .. مطبخها مليء بالمونة العربية. زيت وزيتون من فلسطين. وأعشاب للشاي ومخللات وكبيس.
وأدوات طهي تراثية يغلب عليها الطابع العربي. تحدثني عن الأكلات الفلسطينية التي تعلمتها من عائلة مريد وعن الأكلات الأندلسية التي قرأت عنها في رحلتها لكتابة رواية غرناطة فيزيد حبي لها وتعلقي بها.
أجلس أمامها بانبهار تلميذة بمعلمتها. تقول لي: "راجعت النصوص التي ارسلتها إليَّ وطبعتها لأعدل شيئا وأناقشك فيه". استعد لسماع ملحوظة جديدة في الكتابة أو التحرير. لكنها تفاجئني بملحوظة في إحد قواعد اللغة العربية. استمع بإنصات وتركيز. وأضيف درسا جديدا لحصيلتي اللغوية.
في لقاء آخر يستقبلني "حنظلة" عند مدخل الدار. الشخصية الأيقونية التي رسمها ناجي العلي لطفل يركض نحو الشمس.
كانت اللوحة أصلية. معلقة في برواز. وحنظلة راكض نحو الشمس بوردة في يده. أقف أمامها وأنا لا أصدق أنني أرى لوحة أصلية لناجي العلي. أسألها لأتأكد: "أصلية" فتجيبني بلى. رسمها ناجي لتميم.
أنظر إلى عود يحتل كرسيا بساحة الدار .. فتقول إنه لتميم يعزف عليه عندما يكون هنا وتعبر ابتسامتها المحيط لترد على سؤال لم أسأله وتخبرني أنه الآن في أمريكا.
كان كل شيء في البيت يتمحور حول تميم. حول حضوره وغيابه. حول زياراته القصيرة وشوقها الدائم إليه. أستطيع أن أتفهم هذا وأشعر به.
في البيت لم تكن رضوى عاشور الدكتورة .. العالمة باللغة والأدب. كانت الأم وكانت السيدة التي تعاني الشوق وتقاوم الغربة بذكر الأحباب.
أجلس أمامها فتحدثني عن الغياب. عن غياب مريد عنها، عن غيابها عن مصر، عن غياب تميم عن مريد، عن غياب تميم عنها. أخجل من نفسي أنا التي يحيط بي أحبابي في كل لحظة وأشتكي الغربة.
***
أعود لتلك الليلة التي تسللنا فيها إلي بيتها
كنت بصحبة الأصدقاء سمية ربيع وشادي عبد العزيز وأحمد جمال سعد الدين وسلمى صلاح واتصلت بي لتراجع معي فصلا من فصول الكتاب. أجبتها أنني بقربها ومعي بعض من الأصدقاء الذين شاركوا بشهاداتهم ونصوصهم في الكتاب. كنت أقولها على استحياء علها تتفضل وتدعونا لزيارتها. لم اطلب الزيارة لعلمي بظروفها الصحية. لكنها لمحت الطلب الذي لم أجرؤ عليه. فدعتنا مشكورة للزيارة.
جلسنا كقطط صغيرة تلتمس الدفء فاستضافتنا ومريد بقلب مفتوح. نفتح نقاشا وراء نقاش لا نريد أن نرحل ولا نريد لليوم أن ينتهي. توزع علينا لوحات منسوخة لناجي العلي ولوحات لبرهان الدين كركوتلي عن فلسطين والقدس. ثم تحدثنا عن حبها للرسم وعن متحف اللوفر وعن الجرنيكا والحرب الأسبانية. تحدثنا عن أنها لا تنسى وجها رأته وأنها قد تسافر من مدينة لمدينة فقط لتزور متحفا أو لتشاهد لوحة جديدة.
يتفرع الحديث ويتشعب. وتتعاقب أكواب الشاي والسجائر. فتسألنا عن أهم الكتاب الجدد الذين نقرأ لهم هذه الأيام فأجيبها بأني أحب هاروكي موراكامي وأقول لها ربما ترين بعد كل قراءاتك أن أدبه من نوعية الـ pop art وأنه ربما لن يضيف لك جديدا فتقول لي أنه على الكاتب أن يطالع كل الثقافات ولا يجب عليه أن يبني برجا ليعيش في قمته.
أبتسم عندما يمر ببالي خاطر طفولي يدفعني لأن أرشح لها Twilight وأحكي لها كيف قدمت ستيفاني ماير ثورة في مفهوم مصاصي الدماء.
تباغتنا دقة الساعة الحادية عشرة مساءً فندرك أنه حان وقت الرحيل.
***
عندما أراد الله أن يعلمني درسا جعلني أقابلها للمرة الأولى في يوم عيد ميلادي الثلاثين. ضحكت وقلت لها أن هذه أجمل هدية تلقيتها في عيد ميلادي.
وعندما سألتني عن عملي قلت لها لقد كبرت ولا أستطيع أن أتحمل عملا بدوام منتظم. نظرت في عيني بجدية وقالت لي: "بصي لي .. أنا عندي 63 سنة وبخرج وبروح الجامعة وبدي محاضرات وبشرف على رسايل جامعية. لما كان عندي 30 سنة كنت بهد الدنيا وأبنيها"
ثم رحلت رضوى .. رحلت قبل أن أخبرها أني هدمت كل ما حولي وأنني أعيد بناءه من جديد.
***
صدر كتاب يوميات الغضب عن دار الحياة للنشر والتوزيع في أبريل ٢٠١٢ بمشاركة كل من:
أحمد جمال سعد الدين ـ أحمد جمعة ـ أحمد عادل الفقي ـ أحمد علي ـ أحمد كامل ـ آية عبد الحكيم ـ خلود عيسى شعبان ـ سمية ربيع ـ شادي عبد العزيز ـ عمرو عز الدين ـ محمد أبو الغيط ـ محمد عيسى شعبان ـ مصطفى رزق ـ ملكة بدر ـ منة الله محيي ـ مي فتحي ـ هبة عبد العليم.
أجلس أمامها أطلب توقيعها على نسختي من الكتاب وأقول لها: "لولا وجودك ودعمك يمكن ماكنتش كملت المشروع ده". فتربت على يدي بحنو وتقول: "إنتي شاطرة ومجتهدة وهاتعملي حاجات كويسة كتير. لسه العمر قدامك".
توفيت السيدة الجليلة رضوى عاشور في ٣٠ من نوفمبر 2014
لم أتمكن من حضور مراسم تشييعها حيث خرجت من بيتي اسير بلا جدوى في الشوارع حتى انهكني السير فجلست على رصيف ما أبكي حتى هبط المساء.
كخمس قطط صغيرة نتسلل تحت جنح الظلام في الشوارع الخلفية. تتشابك أيدينا لنلتمس الدفء في ليلة باردة من ليالي نوفمبر الأقسى الذي مر على جيلنا على الاطلاق.
تتناهى إلينا أصوات الهتاف والقصف وقرع المتظاهرين على العلب المعدنية واعمدة الانارة الذي يقابله صوت سارينة عربات الامن المركزي. ذلك المزيج من الأصوات الذي رافق أحلامي لسنوات.
تتأرجح مشاعرنا بين البهجة للقاء المرتقب مع السيدة الجليلة وبين القلق على رفاق الميدان والخوف من إشاعة تم بثها عن عملاء للأمن منتشرين في الشوارع الخلفية لوسط البلد، يقال انهم يقومون بالقبض على السائرين والتحقيق معهم وربما ارسالهم لأمن الدولة.
تقترح "سمية" اقتراحا يبدو غريبا: "يلا نغني"
انتظر إليها متعجبة من غرابة الاقتراح واسألها: "نغني؟!"
فتجيبني: "آه .. يلا"
يرتفع صوتها بالصهبجية .. لم تجد النغمة ترددًا في أرواحنا. فتقول: "طيب اغنية تانية"
اجيبها: "شبابيك"
ويرتفع صوتنا بالغناء هازما الخوف والوحشة، مؤازرا للرفاق المرابطين في محمد محمود.
***
لم تبدأ الاحداث في تلك الليلة وانما بدأت قبلها بشهر تقريبا. كانت جمعة من تلك الجمع التي كنا نجتمع فيها في لنهتف هتافا بلا جدوى للدستور أو للحلول المدنية أو لأي من المطالب التي جمعتنا الثورة عليها.
ربما في ذلك اليوم من أيام أكتوبر ٢٠١١ كنت اهتف للدستور أو للانتخابات او لمدنية الدولة. لا أذكر في الحقيقة. كل ما أذكره أن الهتاف انهكني فابتعدت قليلا مع بعض الصديقات حتى تمثال عمر مكرم. ووجدتها أمامي. د. رضوى عاشور. السيدة الجليلة بنفسها كانت معنا. تهتف كما نهتف. وتطالب بما كنا نطالب به. ثم ابتعدت لترتاح قليلا كما ابتعدنا.
التففنا حولها لنتعرف إليها. وبروح معلمة وأم وقفت وافردت لكل منا وقتا. كانت تسأل عنا وعما ندرس وعما نعمل.
وقتها عرضت عليها فكرة المشروع الذي كان يتكون في عقلي في تلك الأيام. مشروع كتاب يجمع شهادات لثوار من كل محافظة من محافظات مصر. انتبهت لما أقول لثوان قليلة ثم قالت لي "ده مشروع مهم. أحب أتابع شغلك عليه"
تبادلنا أرقام الهاتف ووعدتها بالاتصال.
ومن هنا يمكننا أن نبدأ.
***
كانت البداية في صحن دارها. اختار ذلك التعبير عمدا وليس مجازا أو لعبا باللغة. صحن الدار تعبير قديم يدل على غرفة الاستقبال في البيت العربي الأصيل. وبيتها كان عربيا أصيلا.
تدخل فتقابلك باحة فسيحة مؤسسة على الطراز العربي. سقف مرتفع مشغول بحليات من العروق الخشبية. مقاعد من الأرابيسك المطعم بالصدف. وعشرات القطع الديكورية المنتقاة بعناية.
ذوق امرأة عربية أصيلة تدرك عروبتها وتفخر بها. تتحرك عيناي بين قطع الأثاث والديكور فلا تقاطعني حتى أعود إليها ببصري. حينها تسألني عن مشروعي وعن ما انجزته.
اخبرها ان الهدف من المشروع هو جمع شهادات الثوار. فتعطيني الدرس الاول عن تحقيق الشهادات ومطابقتها.
تقول لي: "عليك أولا بدراسة الحدث بشكل تقريري محايد، ومعرفة تفاصيله الرئيسية. ثم عليك قراءة وسماع شهادات حاضريه ومعاصريه . طابقي الشهادات مع الأخبار الواردة عن الحدث. ضمي الشهادات التي تطابق الحدث للمشروع واستبعدي الشهادات المخالفة".
كان هذا الدرس الاول الذي تعلمته.
وبدأنا العمل معا في جلسات أسبوعية لا يقطعها إلا مرضها أو فترة تعافيها بعد إجراء إحدى العميات الجراحية إثر مرضها الاخير
بطبيعة الحال كانت كل لقاءاتنا تتم في بيتها.
اعتدت دخول البيت لكن لم تفارقني الدهشة. في كل زيارة كنت أكتشف شيئا جديدا. الطاجين المغربي بشكله المخروطي المميز ونقوشه العربية رأيته لأول مرة في بيتها. وقفت اتأمله ولمسته خلسة فحاوطتني ابتسامتها ولمسني الحنين في صوتها وهي تقول نقدم فيه الكسكس المغربي في اللقاءات العائلية. أعده حينما يكون تميم في البيت.
لمست أنها كانت تحب الطهي .. مطبخها مليء بالمونة العربية. زيت وزيتون من فلسطين. وأعشاب للشاي ومخللات وكبيس.
وأدوات طهي تراثية يغلب عليها الطابع العربي. تحدثني عن الأكلات الفلسطينية التي تعلمتها من عائلة مريد وعن الأكلات الأندلسية التي قرأت عنها في رحلتها لكتابة رواية غرناطة فيزيد حبي لها وتعلقي بها.
أجلس أمامها بانبهار تلميذة بمعلمتها. تقول لي: "راجعت النصوص التي ارسلتها إليَّ وطبعتها لأعدل شيئا وأناقشك فيه". استعد لسماع ملحوظة جديدة في الكتابة أو التحرير. لكنها تفاجئني بملحوظة في إحد قواعد اللغة العربية. استمع بإنصات وتركيز. وأضيف درسا جديدا لحصيلتي اللغوية.
في لقاء آخر يستقبلني "حنظلة" عند مدخل الدار. الشخصية الأيقونية التي رسمها ناجي العلي لطفل يركض نحو الشمس.
كانت اللوحة أصلية. معلقة في برواز. وحنظلة راكض نحو الشمس بوردة في يده. أقف أمامها وأنا لا أصدق أنني أرى لوحة أصلية لناجي العلي. أسألها لأتأكد: "أصلية" فتجيبني بلى. رسمها ناجي لتميم.
أنظر إلى عود يحتل كرسيا بساحة الدار .. فتقول إنه لتميم يعزف عليه عندما يكون هنا وتعبر ابتسامتها المحيط لترد على سؤال لم أسأله وتخبرني أنه الآن في أمريكا.
كان كل شيء في البيت يتمحور حول تميم. حول حضوره وغيابه. حول زياراته القصيرة وشوقها الدائم إليه. أستطيع أن أتفهم هذا وأشعر به.
في البيت لم تكن رضوى عاشور الدكتورة .. العالمة باللغة والأدب. كانت الأم وكانت السيدة التي تعاني الشوق وتقاوم الغربة بذكر الأحباب.
أجلس أمامها فتحدثني عن الغياب. عن غياب مريد عنها، عن غيابها عن مصر، عن غياب تميم عن مريد، عن غياب تميم عنها. أخجل من نفسي أنا التي يحيط بي أحبابي في كل لحظة وأشتكي الغربة.
***
أعود لتلك الليلة التي تسللنا فيها إلي بيتها
كنت بصحبة الأصدقاء سمية ربيع وشادي عبد العزيز وأحمد جمال سعد الدين وسلمى صلاح واتصلت بي لتراجع معي فصلا من فصول الكتاب. أجبتها أنني بقربها ومعي بعض من الأصدقاء الذين شاركوا بشهاداتهم ونصوصهم في الكتاب. كنت أقولها على استحياء علها تتفضل وتدعونا لزيارتها. لم اطلب الزيارة لعلمي بظروفها الصحية. لكنها لمحت الطلب الذي لم أجرؤ عليه. فدعتنا مشكورة للزيارة.
جلسنا كقطط صغيرة تلتمس الدفء فاستضافتنا ومريد بقلب مفتوح. نفتح نقاشا وراء نقاش لا نريد أن نرحل ولا نريد لليوم أن ينتهي. توزع علينا لوحات منسوخة لناجي العلي ولوحات لبرهان الدين كركوتلي عن فلسطين والقدس. ثم تحدثنا عن حبها للرسم وعن متحف اللوفر وعن الجرنيكا والحرب الأسبانية. تحدثنا عن أنها لا تنسى وجها رأته وأنها قد تسافر من مدينة لمدينة فقط لتزور متحفا أو لتشاهد لوحة جديدة.
يتفرع الحديث ويتشعب. وتتعاقب أكواب الشاي والسجائر. فتسألنا عن أهم الكتاب الجدد الذين نقرأ لهم هذه الأيام فأجيبها بأني أحب هاروكي موراكامي وأقول لها ربما ترين بعد كل قراءاتك أن أدبه من نوعية الـ pop art وأنه ربما لن يضيف لك جديدا فتقول لي أنه على الكاتب أن يطالع كل الثقافات ولا يجب عليه أن يبني برجا ليعيش في قمته.
أبتسم عندما يمر ببالي خاطر طفولي يدفعني لأن أرشح لها Twilight وأحكي لها كيف قدمت ستيفاني ماير ثورة في مفهوم مصاصي الدماء.
تباغتنا دقة الساعة الحادية عشرة مساءً فندرك أنه حان وقت الرحيل.
***
عندما أراد الله أن يعلمني درسا جعلني أقابلها للمرة الأولى في يوم عيد ميلادي الثلاثين. ضحكت وقلت لها أن هذه أجمل هدية تلقيتها في عيد ميلادي.
وعندما سألتني عن عملي قلت لها لقد كبرت ولا أستطيع أن أتحمل عملا بدوام منتظم. نظرت في عيني بجدية وقالت لي: "بصي لي .. أنا عندي 63 سنة وبخرج وبروح الجامعة وبدي محاضرات وبشرف على رسايل جامعية. لما كان عندي 30 سنة كنت بهد الدنيا وأبنيها"
ثم رحلت رضوى .. رحلت قبل أن أخبرها أني هدمت كل ما حولي وأنني أعيد بناءه من جديد.
***
صدر كتاب يوميات الغضب عن دار الحياة للنشر والتوزيع في أبريل ٢٠١٢ بمشاركة كل من:
أحمد جمال سعد الدين ـ أحمد جمعة ـ أحمد عادل الفقي ـ أحمد علي ـ أحمد كامل ـ آية عبد الحكيم ـ خلود عيسى شعبان ـ سمية ربيع ـ شادي عبد العزيز ـ عمرو عز الدين ـ محمد أبو الغيط ـ محمد عيسى شعبان ـ مصطفى رزق ـ ملكة بدر ـ منة الله محيي ـ مي فتحي ـ هبة عبد العليم.
أجلس أمامها أطلب توقيعها على نسختي من الكتاب وأقول لها: "لولا وجودك ودعمك يمكن ماكنتش كملت المشروع ده". فتربت على يدي بحنو وتقول: "إنتي شاطرة ومجتهدة وهاتعملي حاجات كويسة كتير. لسه العمر قدامك".
توفيت السيدة الجليلة رضوى عاشور في ٣٠ من نوفمبر 2014
لم أتمكن من حضور مراسم تشييعها حيث خرجت من بيتي اسير بلا جدوى في الشوارع حتى انهكني السير فجلست على رصيف ما أبكي حتى هبط المساء.
Published on January 03, 2024 22:49
سيناء .. الوصول جنة المشتاق
سيناء .. الوصول جنة المشتاق
صحراء علي أن أقطعها وحدي. *
أترك كل شيء خلفي وأوغل في عمق الصحراء. لا شيء هنا سوي جبل راسخ ورمال. طريق بصعوبة يشق الجبل، وسماء تمتد إلى اللا نهائية. وأنا.
شبه جزيرة سيناء. أعبر إلى جنوبها عبر نفق الشهيد أحمد حمدي، أترك المدينة خلفي وأدخل الصحراء في ساعات النهار الأولى. حيث لا شيء يقيني أو مؤكد. لا الليل ليل كما ينبغي له، ولا النهار نهار كما يجب أن يكون النهار. وقلبي معلق بنجمة منسية توشك على الهرب.
لم يبدأ الأمر هنا بين الصحراء والجبل، وبالطبع لم يبدأ في تلك اللحظة الهاربة من الزمن.
بدأ الأمر هناك في حرارة نهاية صيف القاهرة، البيت يتأهب لزفاف أختي وأنا أوشك على الانفجار من مشاعر مختلطة تكاد أن تجعل قلبي ينفجر، شعور بالهجران وضغط في العمل بالإضافة للحرارة والرطوبة واستعدادات العائلة للزفاف المرتقب.
كان الامر ضاغطا من كل الاتجاهات. للمرة الأولى اشعر بالرغبة في الفرار من كل شيء. ثم فجأة قفزت الفكرة في رأسي. سأترك البيت شهرا. شهرا كاملا دون خطة محددة أو هدف أو اتجاه كل ما اعرفه أنني اشتاق للبحر، فقررت قضاء ذلك الشهر في نويبع بجنوب سيناء، بين البحر الأحمر والجبل.
لم أبحث عن شركة ترتب لي برنامجا للسفر. لم أبحث عن مجموعة أسافر معها. .
فقط قررت حجز غرفة في فندق لا أعرفه وتذكرة في حافلة تمر بطريق الفندق. وكانت تلك الترتيبات تكفيني.
لم يحب أبي السفر، نشأت في عائلة لا تبتعد عن البيت، تتحرك في مسارات محددة، ولا تغامر أبدا. بينما تراودني دائما رغبة في أن أجوب العالم.
أن أكون مسافرة هو ان أقتلع جذوري من الأرض وأسلم نفسي للريح. لا أعرف أين سأقضي ليلتي القادمة وما الذي يحمله الليل لي. أحيانا كنت أفكر أنه باختياري للفندق سأكون في مأمن من الضياع الليلي وصحبة الغرباء. لكن الحقيقة أنه لا أمان هنا. لقد تركت الامان في بيتي وسلمت نفسي لتصاريف القدر. ربما تختلف الحجرة عن توقعي أو أنزعج من الضوضاء، أو تقلقني الفوضى، أو تتسلق جسدي حشرات الفراش. في كل الأحوال أنا لا أعرف ما ينتظرني. اعتمد على آراء كتبها غرباء هاربين مثلي، يحنون لبيوتهم فيحاولون البحث عن ألفة البيت في سرير الفندق وصحن المطعم ومقعد الحافلة.
الحافلة تتحرك من القاهرة بعد منتصف ليل أغوص في سواده. وطريق ممتد بلا نهاية. مخمل أسود لا يقطع تدفقه إلا أضواء السيارات وملايين النجمات.
تفرض الشمس سطوتها على المخمل والنجوم، فيتوارى الغموض وينفضح كل شيء. جبال راسخات تختلف ألوانها. نباتات تشق حياتها في قلب الحجر. والسيارة تشق طريقها وسط الجبال.
اتململ على مقعدي. أريد أن أصل وأخاف الوصول.
والوصول جنة المشتاق
عندما دخلت سيناء في ضوء الصباح الوليد كان الشعور المسيطر علي هو الفقد. كنت قد فقدت عملا وبيتا وحبا وعلاقة آملت في دوامها. خسرت كل شيء، حتى الأطلال لم تعد ملكي. ولم يتبق من السنوات العشر الماضيات سوى مفتاح وحيد لبيت لم يعد ملكي.
اثقلت قلبي الخسارات وأدماه الغضب، فتمنيت من البحر أن يكون طيبا حنونا.
أرتدي ثوب السباحة وأجلس على الشاطيء، أشعر بهدوء وسلام يغمرا قلبي المتعب، أتأمل البحر وأفكر في ماءه الذي لم يمس جسدي منذ سنوات. يقترب مني كلب صغير مرح يعيش في المخيم الذي نزلت به، أمد له يدي فيمسح رأسه بها ثم يتركني ويعدو بمرح نحو الماء.
أتبع الكلب الصغير أتحرك بتجاه البحر وبمجرد أن يمس ماءه قدمي أقفز في الماء. البحر هادئ. أترك جسدي له ولا أفكر. أتحرك بانسيابية فأذوب اكثر واكثر. حتى اتحول لماسة كبيرة لامعة تسري بين موجاته.
أفقد قدرتي على تتبع الزمن ولا أبالي. اتركني للماء وأراقب كيف يتحول السلام الداخلي الذي شعرت به على الشاطيء لسلام وهدوء يلف العالم كله من حولي.
تخفت الاصوات ويختفي كل شئ ولا يبقى إلا صوت خافت لتكسر الموج على جسدي تحت أشعة الشمس.
مع غروب الشمس تبدأ حياة أخرى في سيناء، ليل بكر كما خلقه الله، لا ضوء يكسر ظلامه ولا صوت يكسر سكونه.
بعد العاشرة مساءا أترك خيمتي وأخرج للخلاء. ظلام دامس، حتى أنني لا أرى البحر رغم أنني أسمع صوت موجه بوضوح.
أرقد على الرمال وأنظر للأفق المفتوح أمامي، أترك جسدي طافيا بين الأرض والسماء. أشعر بها، الأرض، تمتص غضبي ومخاوفي وشعوري بالذنب، بينما عيناي تطاردان في السماء مجموعة نجمية اتحدت منذ الأزل لتكوين برج العقرب. تمر الساعات هادئة بلا صحبة سوى الكلب الصغير يتسكع على الشاطيء مقتربا مني بين حين وآخر، أربت على جسده فيمنحني دفئا كلما أقترب، بينما أفكر في ما كان وما سيكون. أشعر بانفطار قلبي، فأغمض عيني عن دمعة هاربة وأتمنى السلام لقلبي المتعب وعقلي الذي تأكله التساؤلات حتى تلمع الشعرى اليمانية في الأفق فأعرف أن الفجر قد اقترب، أترك مرقدي على الرمال وأعود للخيمة حتى أظفر ببضع ساعات هادئة من النوم.
وكانت المشقة في قلبي لا في الطريق**
نهارات للبحر وليال للسماء. حتى أقرر أن أزور وادي الوشواش الذي يبعد عن نويبع بحوالي خمسة عشر كيلو مترا. نقترب من الوادي. فننزل من السيارات ونسير في مدقات ضيقة تغوص في لحم الجبل.
الطريق شاق. ورغم شعوري بالتعب شعرت أن المشقة في قلبي لا في الطريق كما يقول بسام حجار. قلبي المعذب، المؤرق، حامل الذنب الذي يخاف التخفف من أحماله، بينما تقشف الصحراء وحضن الجبل ينفضا عنه ما لا يطيق.
لم أكن قد زرت وادي الوشواش من قبل، فلم أكن أعلم ما ينتظرني، رغم ذلك سرت الطريق الوعر، لا يؤنس وحدتي سوى نباتات شقت قسوة الجبل واينعت، لتخبرني أن الأمل لا يزال قائما. لم ينته كل شيء بعد.
أمر عبر مدقات صخرية ضيقة لطرق واسعة، أعدو خلف دليل الرحلة الذي لا يهتم بضعف خطواتي أو بوقفاتي لتأمل ما حولي والتقاط الأنفاس. أجاهد وحيدة لأصعد أو لأنزل عن صخور مختلف أحجامها وألوانها.
يستمر المسير في قلب الجبل لساعتين تقريبا حتى نصل لصخرة تسد الطريق بها معبر ضيق بالكاد يمكن لجسدي أن يمر خلاله. أقف وأسأل نفسي، هل يستحق الأمر كل هذه المشقة؟ أشعر بموجات من الألم تضرب ساقي وضهري، أخرج من حقيبتي قرصا مسكنا أبتلعه بشربة ماء وأدرك في تلك اللحظة أنني لم أفكر في كل ما آلم قلبي خلال الشهور التي مضت. لقد أوقف ألمي الجسدي شلال الألم الهادر في قلبي.
أمد يدي للدليل الذي يقف على الناحية الأخرى من المعبر يجذبني بينما أدفع جسدي عبر الصخر حتى أصل له.
يا الله. أقف أمامي مذهولة بما أرى. عين ماء زرقاء نبتت وسط الجبال. يحيط بها الصخر من كل جانب. أجلس على العين وأغمض عيني كي لا تفلت كل هذا البهاء. أستكين في حضرة الجبل وأترك عين ماء تغسل عن القلب أساه.
سبحانك ما خلقت هذا باطلا.
يترك الدليل كل منا للحظته الخاصة. ساعة ساعتين، ثم ينادينا للعودة قبل أن يهبط علينا الظلام.
لقد أوتيت سؤلك يا موسي ***
تشبع قلبي بأثر المعجزة بعد عودتي من وادي الوشواش، فآثرت السكون لعدة أيام ثم قررت صعود جبل سانت كاترين.
للرحلة مشاقها وللجبل مهابته، إلا أن ذلك لا يثنيني. أقول هناك تفتت الصخر حنينا ومهابة حينما كلم الله نبيه موسى، ربما يتفتت صخر حزني أنا أيضا.
يصعد بنا الدليل، أشعر أن روحي تتمزق، أجاهد لالتقاط أنفاسي، أجاهد لأقيم جسدي، أجاهد لأكمل المسيرة. أقول هذا جهادي في سبيل الله. هذا جهادي في سبيل الوصول. أصل للقمة فأقف وألتقط أنفاسي، أتلفت حولي فأرى العالم ذرة تراب تزروه الرياح.
لا قيمة لشيء أمام مهابة الوقوف في حضرة نبي وكلمة الله، لا قيمة لشيء أمام رسوخ جبل وشروق شمس أشعر بقربها وكأنني إن أردت لمسها فسألمسها.
البيت اذي انهار لا شيء، العمل الذي ضاع لا شيء، الحياة التي تحطمت لا شيء.
تضائل كل ما فات وخفت روحي من أثقالها حتى تحررت من جسدي وأرتفعت في الفضاء.
شعرت بقربي من الله ومعجزته فطلبت بيتا جديدا، وعملا جديدا، وحياة جديدة. أغمضت عيني وتركت روحي تطوف في رحاب الله، مرت الساعات هادئة حتى سمعت الصدى يتردد في قلبي " لقت اوتيت سؤلك يا موسى" فعرفت أن الله استجاب.
أنزل من فوق قمة الجبل خفيفة، كأني تركت مشقة الصعود وثقل قلبي وحزني وذنوبي فوق الجبل.
أصل للفندق وقد اكتفيت من سيناء امتلأت روحي ببهاءها. حينها فقط أشعر أنني أفتقد القاهرة بهدوءها وضوضاءها، وأفتقد عائلتي بدفئهاومشاحناتها، فأقرر العودة وأنا أعرف أنني مهما ضلت بي الطرق سأجد في نهايتها الحب والبيت والأمان.
-------------------------------------------------------------------
*علاء الديب، شادي عبد السلام .. فيلم المومياء
** بيت شعر لبسام حجار
*** قرآن كريم الآية 36 من سورة طه
صحراء علي أن أقطعها وحدي. *
أترك كل شيء خلفي وأوغل في عمق الصحراء. لا شيء هنا سوي جبل راسخ ورمال. طريق بصعوبة يشق الجبل، وسماء تمتد إلى اللا نهائية. وأنا.
شبه جزيرة سيناء. أعبر إلى جنوبها عبر نفق الشهيد أحمد حمدي، أترك المدينة خلفي وأدخل الصحراء في ساعات النهار الأولى. حيث لا شيء يقيني أو مؤكد. لا الليل ليل كما ينبغي له، ولا النهار نهار كما يجب أن يكون النهار. وقلبي معلق بنجمة منسية توشك على الهرب.
لم يبدأ الأمر هنا بين الصحراء والجبل، وبالطبع لم يبدأ في تلك اللحظة الهاربة من الزمن.
بدأ الأمر هناك في حرارة نهاية صيف القاهرة، البيت يتأهب لزفاف أختي وأنا أوشك على الانفجار من مشاعر مختلطة تكاد أن تجعل قلبي ينفجر، شعور بالهجران وضغط في العمل بالإضافة للحرارة والرطوبة واستعدادات العائلة للزفاف المرتقب.
كان الامر ضاغطا من كل الاتجاهات. للمرة الأولى اشعر بالرغبة في الفرار من كل شيء. ثم فجأة قفزت الفكرة في رأسي. سأترك البيت شهرا. شهرا كاملا دون خطة محددة أو هدف أو اتجاه كل ما اعرفه أنني اشتاق للبحر، فقررت قضاء ذلك الشهر في نويبع بجنوب سيناء، بين البحر الأحمر والجبل.
لم أبحث عن شركة ترتب لي برنامجا للسفر. لم أبحث عن مجموعة أسافر معها. .
فقط قررت حجز غرفة في فندق لا أعرفه وتذكرة في حافلة تمر بطريق الفندق. وكانت تلك الترتيبات تكفيني.
لم يحب أبي السفر، نشأت في عائلة لا تبتعد عن البيت، تتحرك في مسارات محددة، ولا تغامر أبدا. بينما تراودني دائما رغبة في أن أجوب العالم.
أن أكون مسافرة هو ان أقتلع جذوري من الأرض وأسلم نفسي للريح. لا أعرف أين سأقضي ليلتي القادمة وما الذي يحمله الليل لي. أحيانا كنت أفكر أنه باختياري للفندق سأكون في مأمن من الضياع الليلي وصحبة الغرباء. لكن الحقيقة أنه لا أمان هنا. لقد تركت الامان في بيتي وسلمت نفسي لتصاريف القدر. ربما تختلف الحجرة عن توقعي أو أنزعج من الضوضاء، أو تقلقني الفوضى، أو تتسلق جسدي حشرات الفراش. في كل الأحوال أنا لا أعرف ما ينتظرني. اعتمد على آراء كتبها غرباء هاربين مثلي، يحنون لبيوتهم فيحاولون البحث عن ألفة البيت في سرير الفندق وصحن المطعم ومقعد الحافلة.
الحافلة تتحرك من القاهرة بعد منتصف ليل أغوص في سواده. وطريق ممتد بلا نهاية. مخمل أسود لا يقطع تدفقه إلا أضواء السيارات وملايين النجمات.
تفرض الشمس سطوتها على المخمل والنجوم، فيتوارى الغموض وينفضح كل شيء. جبال راسخات تختلف ألوانها. نباتات تشق حياتها في قلب الحجر. والسيارة تشق طريقها وسط الجبال.
اتململ على مقعدي. أريد أن أصل وأخاف الوصول.
والوصول جنة المشتاق
عندما دخلت سيناء في ضوء الصباح الوليد كان الشعور المسيطر علي هو الفقد. كنت قد فقدت عملا وبيتا وحبا وعلاقة آملت في دوامها. خسرت كل شيء، حتى الأطلال لم تعد ملكي. ولم يتبق من السنوات العشر الماضيات سوى مفتاح وحيد لبيت لم يعد ملكي.
اثقلت قلبي الخسارات وأدماه الغضب، فتمنيت من البحر أن يكون طيبا حنونا.
أرتدي ثوب السباحة وأجلس على الشاطيء، أشعر بهدوء وسلام يغمرا قلبي المتعب، أتأمل البحر وأفكر في ماءه الذي لم يمس جسدي منذ سنوات. يقترب مني كلب صغير مرح يعيش في المخيم الذي نزلت به، أمد له يدي فيمسح رأسه بها ثم يتركني ويعدو بمرح نحو الماء.
أتبع الكلب الصغير أتحرك بتجاه البحر وبمجرد أن يمس ماءه قدمي أقفز في الماء. البحر هادئ. أترك جسدي له ولا أفكر. أتحرك بانسيابية فأذوب اكثر واكثر. حتى اتحول لماسة كبيرة لامعة تسري بين موجاته.
أفقد قدرتي على تتبع الزمن ولا أبالي. اتركني للماء وأراقب كيف يتحول السلام الداخلي الذي شعرت به على الشاطيء لسلام وهدوء يلف العالم كله من حولي.
تخفت الاصوات ويختفي كل شئ ولا يبقى إلا صوت خافت لتكسر الموج على جسدي تحت أشعة الشمس.
مع غروب الشمس تبدأ حياة أخرى في سيناء، ليل بكر كما خلقه الله، لا ضوء يكسر ظلامه ولا صوت يكسر سكونه.
بعد العاشرة مساءا أترك خيمتي وأخرج للخلاء. ظلام دامس، حتى أنني لا أرى البحر رغم أنني أسمع صوت موجه بوضوح.
أرقد على الرمال وأنظر للأفق المفتوح أمامي، أترك جسدي طافيا بين الأرض والسماء. أشعر بها، الأرض، تمتص غضبي ومخاوفي وشعوري بالذنب، بينما عيناي تطاردان في السماء مجموعة نجمية اتحدت منذ الأزل لتكوين برج العقرب. تمر الساعات هادئة بلا صحبة سوى الكلب الصغير يتسكع على الشاطيء مقتربا مني بين حين وآخر، أربت على جسده فيمنحني دفئا كلما أقترب، بينما أفكر في ما كان وما سيكون. أشعر بانفطار قلبي، فأغمض عيني عن دمعة هاربة وأتمنى السلام لقلبي المتعب وعقلي الذي تأكله التساؤلات حتى تلمع الشعرى اليمانية في الأفق فأعرف أن الفجر قد اقترب، أترك مرقدي على الرمال وأعود للخيمة حتى أظفر ببضع ساعات هادئة من النوم.
وكانت المشقة في قلبي لا في الطريق**
نهارات للبحر وليال للسماء. حتى أقرر أن أزور وادي الوشواش الذي يبعد عن نويبع بحوالي خمسة عشر كيلو مترا. نقترب من الوادي. فننزل من السيارات ونسير في مدقات ضيقة تغوص في لحم الجبل.
الطريق شاق. ورغم شعوري بالتعب شعرت أن المشقة في قلبي لا في الطريق كما يقول بسام حجار. قلبي المعذب، المؤرق، حامل الذنب الذي يخاف التخفف من أحماله، بينما تقشف الصحراء وحضن الجبل ينفضا عنه ما لا يطيق.
لم أكن قد زرت وادي الوشواش من قبل، فلم أكن أعلم ما ينتظرني، رغم ذلك سرت الطريق الوعر، لا يؤنس وحدتي سوى نباتات شقت قسوة الجبل واينعت، لتخبرني أن الأمل لا يزال قائما. لم ينته كل شيء بعد.
أمر عبر مدقات صخرية ضيقة لطرق واسعة، أعدو خلف دليل الرحلة الذي لا يهتم بضعف خطواتي أو بوقفاتي لتأمل ما حولي والتقاط الأنفاس. أجاهد وحيدة لأصعد أو لأنزل عن صخور مختلف أحجامها وألوانها.
يستمر المسير في قلب الجبل لساعتين تقريبا حتى نصل لصخرة تسد الطريق بها معبر ضيق بالكاد يمكن لجسدي أن يمر خلاله. أقف وأسأل نفسي، هل يستحق الأمر كل هذه المشقة؟ أشعر بموجات من الألم تضرب ساقي وضهري، أخرج من حقيبتي قرصا مسكنا أبتلعه بشربة ماء وأدرك في تلك اللحظة أنني لم أفكر في كل ما آلم قلبي خلال الشهور التي مضت. لقد أوقف ألمي الجسدي شلال الألم الهادر في قلبي.
أمد يدي للدليل الذي يقف على الناحية الأخرى من المعبر يجذبني بينما أدفع جسدي عبر الصخر حتى أصل له.
يا الله. أقف أمامي مذهولة بما أرى. عين ماء زرقاء نبتت وسط الجبال. يحيط بها الصخر من كل جانب. أجلس على العين وأغمض عيني كي لا تفلت كل هذا البهاء. أستكين في حضرة الجبل وأترك عين ماء تغسل عن القلب أساه.
سبحانك ما خلقت هذا باطلا.
يترك الدليل كل منا للحظته الخاصة. ساعة ساعتين، ثم ينادينا للعودة قبل أن يهبط علينا الظلام.
لقد أوتيت سؤلك يا موسي ***
تشبع قلبي بأثر المعجزة بعد عودتي من وادي الوشواش، فآثرت السكون لعدة أيام ثم قررت صعود جبل سانت كاترين.
للرحلة مشاقها وللجبل مهابته، إلا أن ذلك لا يثنيني. أقول هناك تفتت الصخر حنينا ومهابة حينما كلم الله نبيه موسى، ربما يتفتت صخر حزني أنا أيضا.
يصعد بنا الدليل، أشعر أن روحي تتمزق، أجاهد لالتقاط أنفاسي، أجاهد لأقيم جسدي، أجاهد لأكمل المسيرة. أقول هذا جهادي في سبيل الله. هذا جهادي في سبيل الوصول. أصل للقمة فأقف وألتقط أنفاسي، أتلفت حولي فأرى العالم ذرة تراب تزروه الرياح.
لا قيمة لشيء أمام مهابة الوقوف في حضرة نبي وكلمة الله، لا قيمة لشيء أمام رسوخ جبل وشروق شمس أشعر بقربها وكأنني إن أردت لمسها فسألمسها.
البيت اذي انهار لا شيء، العمل الذي ضاع لا شيء، الحياة التي تحطمت لا شيء.
تضائل كل ما فات وخفت روحي من أثقالها حتى تحررت من جسدي وأرتفعت في الفضاء.
شعرت بقربي من الله ومعجزته فطلبت بيتا جديدا، وعملا جديدا، وحياة جديدة. أغمضت عيني وتركت روحي تطوف في رحاب الله، مرت الساعات هادئة حتى سمعت الصدى يتردد في قلبي " لقت اوتيت سؤلك يا موسى" فعرفت أن الله استجاب.
أنزل من فوق قمة الجبل خفيفة، كأني تركت مشقة الصعود وثقل قلبي وحزني وذنوبي فوق الجبل.
أصل للفندق وقد اكتفيت من سيناء امتلأت روحي ببهاءها. حينها فقط أشعر أنني أفتقد القاهرة بهدوءها وضوضاءها، وأفتقد عائلتي بدفئهاومشاحناتها، فأقرر العودة وأنا أعرف أنني مهما ضلت بي الطرق سأجد في نهايتها الحب والبيت والأمان.
-------------------------------------------------------------------
*علاء الديب، شادي عبد السلام .. فيلم المومياء
** بيت شعر لبسام حجار
*** قرآن كريم الآية 36 من سورة طه
Published on January 03, 2024 22:45


