سيناء .. الوصول جنة المشتاق
سيناء .. الوصول جنة المشتاق
صحراء علي أن أقطعها وحدي. *
أترك كل شيء خلفي وأوغل في عمق الصحراء. لا شيء هنا سوي جبل راسخ ورمال. طريق بصعوبة يشق الجبل، وسماء تمتد إلى اللا نهائية. وأنا.
شبه جزيرة سيناء. أعبر إلى جنوبها عبر نفق الشهيد أحمد حمدي، أترك المدينة خلفي وأدخل الصحراء في ساعات النهار الأولى. حيث لا شيء يقيني أو مؤكد. لا الليل ليل كما ينبغي له، ولا النهار نهار كما يجب أن يكون النهار. وقلبي معلق بنجمة منسية توشك على الهرب.
لم يبدأ الأمر هنا بين الصحراء والجبل، وبالطبع لم يبدأ في تلك اللحظة الهاربة من الزمن.
بدأ الأمر هناك في حرارة نهاية صيف القاهرة، البيت يتأهب لزفاف أختي وأنا أوشك على الانفجار من مشاعر مختلطة تكاد أن تجعل قلبي ينفجر، شعور بالهجران وضغط في العمل بالإضافة للحرارة والرطوبة واستعدادات العائلة للزفاف المرتقب.
كان الامر ضاغطا من كل الاتجاهات. للمرة الأولى اشعر بالرغبة في الفرار من كل شيء. ثم فجأة قفزت الفكرة في رأسي. سأترك البيت شهرا. شهرا كاملا دون خطة محددة أو هدف أو اتجاه كل ما اعرفه أنني اشتاق للبحر، فقررت قضاء ذلك الشهر في نويبع بجنوب سيناء، بين البحر الأحمر والجبل.
لم أبحث عن شركة ترتب لي برنامجا للسفر. لم أبحث عن مجموعة أسافر معها. .
فقط قررت حجز غرفة في فندق لا أعرفه وتذكرة في حافلة تمر بطريق الفندق. وكانت تلك الترتيبات تكفيني.
لم يحب أبي السفر، نشأت في عائلة لا تبتعد عن البيت، تتحرك في مسارات محددة، ولا تغامر أبدا. بينما تراودني دائما رغبة في أن أجوب العالم.
أن أكون مسافرة هو ان أقتلع جذوري من الأرض وأسلم نفسي للريح. لا أعرف أين سأقضي ليلتي القادمة وما الذي يحمله الليل لي. أحيانا كنت أفكر أنه باختياري للفندق سأكون في مأمن من الضياع الليلي وصحبة الغرباء. لكن الحقيقة أنه لا أمان هنا. لقد تركت الامان في بيتي وسلمت نفسي لتصاريف القدر. ربما تختلف الحجرة عن توقعي أو أنزعج من الضوضاء، أو تقلقني الفوضى، أو تتسلق جسدي حشرات الفراش. في كل الأحوال أنا لا أعرف ما ينتظرني. اعتمد على آراء كتبها غرباء هاربين مثلي، يحنون لبيوتهم فيحاولون البحث عن ألفة البيت في سرير الفندق وصحن المطعم ومقعد الحافلة.
الحافلة تتحرك من القاهرة بعد منتصف ليل أغوص في سواده. وطريق ممتد بلا نهاية. مخمل أسود لا يقطع تدفقه إلا أضواء السيارات وملايين النجمات.
تفرض الشمس سطوتها على المخمل والنجوم، فيتوارى الغموض وينفضح كل شيء. جبال راسخات تختلف ألوانها. نباتات تشق حياتها في قلب الحجر. والسيارة تشق طريقها وسط الجبال.
اتململ على مقعدي. أريد أن أصل وأخاف الوصول.
والوصول جنة المشتاق
عندما دخلت سيناء في ضوء الصباح الوليد كان الشعور المسيطر علي هو الفقد. كنت قد فقدت عملا وبيتا وحبا وعلاقة آملت في دوامها. خسرت كل شيء، حتى الأطلال لم تعد ملكي. ولم يتبق من السنوات العشر الماضيات سوى مفتاح وحيد لبيت لم يعد ملكي.
اثقلت قلبي الخسارات وأدماه الغضب، فتمنيت من البحر أن يكون طيبا حنونا.
أرتدي ثوب السباحة وأجلس على الشاطيء، أشعر بهدوء وسلام يغمرا قلبي المتعب، أتأمل البحر وأفكر في ماءه الذي لم يمس جسدي منذ سنوات. يقترب مني كلب صغير مرح يعيش في المخيم الذي نزلت به، أمد له يدي فيمسح رأسه بها ثم يتركني ويعدو بمرح نحو الماء.
أتبع الكلب الصغير أتحرك بتجاه البحر وبمجرد أن يمس ماءه قدمي أقفز في الماء. البحر هادئ. أترك جسدي له ولا أفكر. أتحرك بانسيابية فأذوب اكثر واكثر. حتى اتحول لماسة كبيرة لامعة تسري بين موجاته.
أفقد قدرتي على تتبع الزمن ولا أبالي. اتركني للماء وأراقب كيف يتحول السلام الداخلي الذي شعرت به على الشاطيء لسلام وهدوء يلف العالم كله من حولي.
تخفت الاصوات ويختفي كل شئ ولا يبقى إلا صوت خافت لتكسر الموج على جسدي تحت أشعة الشمس.
مع غروب الشمس تبدأ حياة أخرى في سيناء، ليل بكر كما خلقه الله، لا ضوء يكسر ظلامه ولا صوت يكسر سكونه.
بعد العاشرة مساءا أترك خيمتي وأخرج للخلاء. ظلام دامس، حتى أنني لا أرى البحر رغم أنني أسمع صوت موجه بوضوح.
أرقد على الرمال وأنظر للأفق المفتوح أمامي، أترك جسدي طافيا بين الأرض والسماء. أشعر بها، الأرض، تمتص غضبي ومخاوفي وشعوري بالذنب، بينما عيناي تطاردان في السماء مجموعة نجمية اتحدت منذ الأزل لتكوين برج العقرب. تمر الساعات هادئة بلا صحبة سوى الكلب الصغير يتسكع على الشاطيء مقتربا مني بين حين وآخر، أربت على جسده فيمنحني دفئا كلما أقترب، بينما أفكر في ما كان وما سيكون. أشعر بانفطار قلبي، فأغمض عيني عن دمعة هاربة وأتمنى السلام لقلبي المتعب وعقلي الذي تأكله التساؤلات حتى تلمع الشعرى اليمانية في الأفق فأعرف أن الفجر قد اقترب، أترك مرقدي على الرمال وأعود للخيمة حتى أظفر ببضع ساعات هادئة من النوم.
وكانت المشقة في قلبي لا في الطريق**
نهارات للبحر وليال للسماء. حتى أقرر أن أزور وادي الوشواش الذي يبعد عن نويبع بحوالي خمسة عشر كيلو مترا. نقترب من الوادي. فننزل من السيارات ونسير في مدقات ضيقة تغوص في لحم الجبل.
الطريق شاق. ورغم شعوري بالتعب شعرت أن المشقة في قلبي لا في الطريق كما يقول بسام حجار. قلبي المعذب، المؤرق، حامل الذنب الذي يخاف التخفف من أحماله، بينما تقشف الصحراء وحضن الجبل ينفضا عنه ما لا يطيق.
لم أكن قد زرت وادي الوشواش من قبل، فلم أكن أعلم ما ينتظرني، رغم ذلك سرت الطريق الوعر، لا يؤنس وحدتي سوى نباتات شقت قسوة الجبل واينعت، لتخبرني أن الأمل لا يزال قائما. لم ينته كل شيء بعد.
أمر عبر مدقات صخرية ضيقة لطرق واسعة، أعدو خلف دليل الرحلة الذي لا يهتم بضعف خطواتي أو بوقفاتي لتأمل ما حولي والتقاط الأنفاس. أجاهد وحيدة لأصعد أو لأنزل عن صخور مختلف أحجامها وألوانها.
يستمر المسير في قلب الجبل لساعتين تقريبا حتى نصل لصخرة تسد الطريق بها معبر ضيق بالكاد يمكن لجسدي أن يمر خلاله. أقف وأسأل نفسي، هل يستحق الأمر كل هذه المشقة؟ أشعر بموجات من الألم تضرب ساقي وضهري، أخرج من حقيبتي قرصا مسكنا أبتلعه بشربة ماء وأدرك في تلك اللحظة أنني لم أفكر في كل ما آلم قلبي خلال الشهور التي مضت. لقد أوقف ألمي الجسدي شلال الألم الهادر في قلبي.
أمد يدي للدليل الذي يقف على الناحية الأخرى من المعبر يجذبني بينما أدفع جسدي عبر الصخر حتى أصل له.
يا الله. أقف أمامي مذهولة بما أرى. عين ماء زرقاء نبتت وسط الجبال. يحيط بها الصخر من كل جانب. أجلس على العين وأغمض عيني كي لا تفلت كل هذا البهاء. أستكين في حضرة الجبل وأترك عين ماء تغسل عن القلب أساه.
سبحانك ما خلقت هذا باطلا.
يترك الدليل كل منا للحظته الخاصة. ساعة ساعتين، ثم ينادينا للعودة قبل أن يهبط علينا الظلام.
لقد أوتيت سؤلك يا موسي ***
تشبع قلبي بأثر المعجزة بعد عودتي من وادي الوشواش، فآثرت السكون لعدة أيام ثم قررت صعود جبل سانت كاترين.
للرحلة مشاقها وللجبل مهابته، إلا أن ذلك لا يثنيني. أقول هناك تفتت الصخر حنينا ومهابة حينما كلم الله نبيه موسى، ربما يتفتت صخر حزني أنا أيضا.
يصعد بنا الدليل، أشعر أن روحي تتمزق، أجاهد لالتقاط أنفاسي، أجاهد لأقيم جسدي، أجاهد لأكمل المسيرة. أقول هذا جهادي في سبيل الله. هذا جهادي في سبيل الوصول. أصل للقمة فأقف وألتقط أنفاسي، أتلفت حولي فأرى العالم ذرة تراب تزروه الرياح.
لا قيمة لشيء أمام مهابة الوقوف في حضرة نبي وكلمة الله، لا قيمة لشيء أمام رسوخ جبل وشروق شمس أشعر بقربها وكأنني إن أردت لمسها فسألمسها.
البيت اذي انهار لا شيء، العمل الذي ضاع لا شيء، الحياة التي تحطمت لا شيء.
تضائل كل ما فات وخفت روحي من أثقالها حتى تحررت من جسدي وأرتفعت في الفضاء.
شعرت بقربي من الله ومعجزته فطلبت بيتا جديدا، وعملا جديدا، وحياة جديدة. أغمضت عيني وتركت روحي تطوف في رحاب الله، مرت الساعات هادئة حتى سمعت الصدى يتردد في قلبي " لقت اوتيت سؤلك يا موسى" فعرفت أن الله استجاب.
أنزل من فوق قمة الجبل خفيفة، كأني تركت مشقة الصعود وثقل قلبي وحزني وذنوبي فوق الجبل.
أصل للفندق وقد اكتفيت من سيناء امتلأت روحي ببهاءها. حينها فقط أشعر أنني أفتقد القاهرة بهدوءها وضوضاءها، وأفتقد عائلتي بدفئهاومشاحناتها، فأقرر العودة وأنا أعرف أنني مهما ضلت بي الطرق سأجد في نهايتها الحب والبيت والأمان.
-------------------------------------------------------------------
*علاء الديب، شادي عبد السلام .. فيلم المومياء
** بيت شعر لبسام حجار
*** قرآن كريم الآية 36 من سورة طه
صحراء علي أن أقطعها وحدي. *
أترك كل شيء خلفي وأوغل في عمق الصحراء. لا شيء هنا سوي جبل راسخ ورمال. طريق بصعوبة يشق الجبل، وسماء تمتد إلى اللا نهائية. وأنا.
شبه جزيرة سيناء. أعبر إلى جنوبها عبر نفق الشهيد أحمد حمدي، أترك المدينة خلفي وأدخل الصحراء في ساعات النهار الأولى. حيث لا شيء يقيني أو مؤكد. لا الليل ليل كما ينبغي له، ولا النهار نهار كما يجب أن يكون النهار. وقلبي معلق بنجمة منسية توشك على الهرب.
لم يبدأ الأمر هنا بين الصحراء والجبل، وبالطبع لم يبدأ في تلك اللحظة الهاربة من الزمن.
بدأ الأمر هناك في حرارة نهاية صيف القاهرة، البيت يتأهب لزفاف أختي وأنا أوشك على الانفجار من مشاعر مختلطة تكاد أن تجعل قلبي ينفجر، شعور بالهجران وضغط في العمل بالإضافة للحرارة والرطوبة واستعدادات العائلة للزفاف المرتقب.
كان الامر ضاغطا من كل الاتجاهات. للمرة الأولى اشعر بالرغبة في الفرار من كل شيء. ثم فجأة قفزت الفكرة في رأسي. سأترك البيت شهرا. شهرا كاملا دون خطة محددة أو هدف أو اتجاه كل ما اعرفه أنني اشتاق للبحر، فقررت قضاء ذلك الشهر في نويبع بجنوب سيناء، بين البحر الأحمر والجبل.
لم أبحث عن شركة ترتب لي برنامجا للسفر. لم أبحث عن مجموعة أسافر معها. .
فقط قررت حجز غرفة في فندق لا أعرفه وتذكرة في حافلة تمر بطريق الفندق. وكانت تلك الترتيبات تكفيني.
لم يحب أبي السفر، نشأت في عائلة لا تبتعد عن البيت، تتحرك في مسارات محددة، ولا تغامر أبدا. بينما تراودني دائما رغبة في أن أجوب العالم.
أن أكون مسافرة هو ان أقتلع جذوري من الأرض وأسلم نفسي للريح. لا أعرف أين سأقضي ليلتي القادمة وما الذي يحمله الليل لي. أحيانا كنت أفكر أنه باختياري للفندق سأكون في مأمن من الضياع الليلي وصحبة الغرباء. لكن الحقيقة أنه لا أمان هنا. لقد تركت الامان في بيتي وسلمت نفسي لتصاريف القدر. ربما تختلف الحجرة عن توقعي أو أنزعج من الضوضاء، أو تقلقني الفوضى، أو تتسلق جسدي حشرات الفراش. في كل الأحوال أنا لا أعرف ما ينتظرني. اعتمد على آراء كتبها غرباء هاربين مثلي، يحنون لبيوتهم فيحاولون البحث عن ألفة البيت في سرير الفندق وصحن المطعم ومقعد الحافلة.
الحافلة تتحرك من القاهرة بعد منتصف ليل أغوص في سواده. وطريق ممتد بلا نهاية. مخمل أسود لا يقطع تدفقه إلا أضواء السيارات وملايين النجمات.
تفرض الشمس سطوتها على المخمل والنجوم، فيتوارى الغموض وينفضح كل شيء. جبال راسخات تختلف ألوانها. نباتات تشق حياتها في قلب الحجر. والسيارة تشق طريقها وسط الجبال.
اتململ على مقعدي. أريد أن أصل وأخاف الوصول.
والوصول جنة المشتاق
عندما دخلت سيناء في ضوء الصباح الوليد كان الشعور المسيطر علي هو الفقد. كنت قد فقدت عملا وبيتا وحبا وعلاقة آملت في دوامها. خسرت كل شيء، حتى الأطلال لم تعد ملكي. ولم يتبق من السنوات العشر الماضيات سوى مفتاح وحيد لبيت لم يعد ملكي.
اثقلت قلبي الخسارات وأدماه الغضب، فتمنيت من البحر أن يكون طيبا حنونا.
أرتدي ثوب السباحة وأجلس على الشاطيء، أشعر بهدوء وسلام يغمرا قلبي المتعب، أتأمل البحر وأفكر في ماءه الذي لم يمس جسدي منذ سنوات. يقترب مني كلب صغير مرح يعيش في المخيم الذي نزلت به، أمد له يدي فيمسح رأسه بها ثم يتركني ويعدو بمرح نحو الماء.
أتبع الكلب الصغير أتحرك بتجاه البحر وبمجرد أن يمس ماءه قدمي أقفز في الماء. البحر هادئ. أترك جسدي له ولا أفكر. أتحرك بانسيابية فأذوب اكثر واكثر. حتى اتحول لماسة كبيرة لامعة تسري بين موجاته.
أفقد قدرتي على تتبع الزمن ولا أبالي. اتركني للماء وأراقب كيف يتحول السلام الداخلي الذي شعرت به على الشاطيء لسلام وهدوء يلف العالم كله من حولي.
تخفت الاصوات ويختفي كل شئ ولا يبقى إلا صوت خافت لتكسر الموج على جسدي تحت أشعة الشمس.
مع غروب الشمس تبدأ حياة أخرى في سيناء، ليل بكر كما خلقه الله، لا ضوء يكسر ظلامه ولا صوت يكسر سكونه.
بعد العاشرة مساءا أترك خيمتي وأخرج للخلاء. ظلام دامس، حتى أنني لا أرى البحر رغم أنني أسمع صوت موجه بوضوح.
أرقد على الرمال وأنظر للأفق المفتوح أمامي، أترك جسدي طافيا بين الأرض والسماء. أشعر بها، الأرض، تمتص غضبي ومخاوفي وشعوري بالذنب، بينما عيناي تطاردان في السماء مجموعة نجمية اتحدت منذ الأزل لتكوين برج العقرب. تمر الساعات هادئة بلا صحبة سوى الكلب الصغير يتسكع على الشاطيء مقتربا مني بين حين وآخر، أربت على جسده فيمنحني دفئا كلما أقترب، بينما أفكر في ما كان وما سيكون. أشعر بانفطار قلبي، فأغمض عيني عن دمعة هاربة وأتمنى السلام لقلبي المتعب وعقلي الذي تأكله التساؤلات حتى تلمع الشعرى اليمانية في الأفق فأعرف أن الفجر قد اقترب، أترك مرقدي على الرمال وأعود للخيمة حتى أظفر ببضع ساعات هادئة من النوم.
وكانت المشقة في قلبي لا في الطريق**
نهارات للبحر وليال للسماء. حتى أقرر أن أزور وادي الوشواش الذي يبعد عن نويبع بحوالي خمسة عشر كيلو مترا. نقترب من الوادي. فننزل من السيارات ونسير في مدقات ضيقة تغوص في لحم الجبل.
الطريق شاق. ورغم شعوري بالتعب شعرت أن المشقة في قلبي لا في الطريق كما يقول بسام حجار. قلبي المعذب، المؤرق، حامل الذنب الذي يخاف التخفف من أحماله، بينما تقشف الصحراء وحضن الجبل ينفضا عنه ما لا يطيق.
لم أكن قد زرت وادي الوشواش من قبل، فلم أكن أعلم ما ينتظرني، رغم ذلك سرت الطريق الوعر، لا يؤنس وحدتي سوى نباتات شقت قسوة الجبل واينعت، لتخبرني أن الأمل لا يزال قائما. لم ينته كل شيء بعد.
أمر عبر مدقات صخرية ضيقة لطرق واسعة، أعدو خلف دليل الرحلة الذي لا يهتم بضعف خطواتي أو بوقفاتي لتأمل ما حولي والتقاط الأنفاس. أجاهد وحيدة لأصعد أو لأنزل عن صخور مختلف أحجامها وألوانها.
يستمر المسير في قلب الجبل لساعتين تقريبا حتى نصل لصخرة تسد الطريق بها معبر ضيق بالكاد يمكن لجسدي أن يمر خلاله. أقف وأسأل نفسي، هل يستحق الأمر كل هذه المشقة؟ أشعر بموجات من الألم تضرب ساقي وضهري، أخرج من حقيبتي قرصا مسكنا أبتلعه بشربة ماء وأدرك في تلك اللحظة أنني لم أفكر في كل ما آلم قلبي خلال الشهور التي مضت. لقد أوقف ألمي الجسدي شلال الألم الهادر في قلبي.
أمد يدي للدليل الذي يقف على الناحية الأخرى من المعبر يجذبني بينما أدفع جسدي عبر الصخر حتى أصل له.
يا الله. أقف أمامي مذهولة بما أرى. عين ماء زرقاء نبتت وسط الجبال. يحيط بها الصخر من كل جانب. أجلس على العين وأغمض عيني كي لا تفلت كل هذا البهاء. أستكين في حضرة الجبل وأترك عين ماء تغسل عن القلب أساه.
سبحانك ما خلقت هذا باطلا.
يترك الدليل كل منا للحظته الخاصة. ساعة ساعتين، ثم ينادينا للعودة قبل أن يهبط علينا الظلام.
لقد أوتيت سؤلك يا موسي ***
تشبع قلبي بأثر المعجزة بعد عودتي من وادي الوشواش، فآثرت السكون لعدة أيام ثم قررت صعود جبل سانت كاترين.
للرحلة مشاقها وللجبل مهابته، إلا أن ذلك لا يثنيني. أقول هناك تفتت الصخر حنينا ومهابة حينما كلم الله نبيه موسى، ربما يتفتت صخر حزني أنا أيضا.
يصعد بنا الدليل، أشعر أن روحي تتمزق، أجاهد لالتقاط أنفاسي، أجاهد لأقيم جسدي، أجاهد لأكمل المسيرة. أقول هذا جهادي في سبيل الله. هذا جهادي في سبيل الوصول. أصل للقمة فأقف وألتقط أنفاسي، أتلفت حولي فأرى العالم ذرة تراب تزروه الرياح.
لا قيمة لشيء أمام مهابة الوقوف في حضرة نبي وكلمة الله، لا قيمة لشيء أمام رسوخ جبل وشروق شمس أشعر بقربها وكأنني إن أردت لمسها فسألمسها.
البيت اذي انهار لا شيء، العمل الذي ضاع لا شيء، الحياة التي تحطمت لا شيء.
تضائل كل ما فات وخفت روحي من أثقالها حتى تحررت من جسدي وأرتفعت في الفضاء.
شعرت بقربي من الله ومعجزته فطلبت بيتا جديدا، وعملا جديدا، وحياة جديدة. أغمضت عيني وتركت روحي تطوف في رحاب الله، مرت الساعات هادئة حتى سمعت الصدى يتردد في قلبي " لقت اوتيت سؤلك يا موسى" فعرفت أن الله استجاب.
أنزل من فوق قمة الجبل خفيفة، كأني تركت مشقة الصعود وثقل قلبي وحزني وذنوبي فوق الجبل.
أصل للفندق وقد اكتفيت من سيناء امتلأت روحي ببهاءها. حينها فقط أشعر أنني أفتقد القاهرة بهدوءها وضوضاءها، وأفتقد عائلتي بدفئهاومشاحناتها، فأقرر العودة وأنا أعرف أنني مهما ضلت بي الطرق سأجد في نهايتها الحب والبيت والأمان.
-------------------------------------------------------------------
*علاء الديب، شادي عبد السلام .. فيلم المومياء
** بيت شعر لبسام حجار
*** قرآن كريم الآية 36 من سورة طه
Published on January 03, 2024 22:45
No comments have been added yet.


