العَهْدُ الكَحِيلْ
العَهْدُ الكَحِيلْ
كل صباح، تقصد الشاطئ بقيثارتها. تعزف وتلاعب الأمواج.
مثلًا، تعزف “قوة القدر” فتمتد الأمواج وتهيج.
تعزف “مونامور” فتهدأ الأمواج وتنحسر.
اليوم، أغرقت المياه المدينة حتي كدنا نهلك.
أما هي فكانت عند الشاطئ كعادتها. تعزف “كارمينا بورانا”، تتأمل المدينة الغارقة وتبتسم بخبث.
***
خطَّت دائرة مغلقة مغلقة علي الرمال، وجلستْ بداخلها، وحيدة بعيدًا عن ثرثرة الأخرين.
خططتُ بجانبها دائرة أخري واحتللتها.
أمضينا الليلة هناك، نتبادل النظرات البائسة، نبتسم بمرارة، ثم ندفن نظراتنا في الرمال.
***
هبّت العاصفة فأعادت تشكيل المدينة علي طريقتها الخاصة. أثناء ذلك، كانت تغفو هي بسلام كرضيع.
استيقظت عند تبدّد العاصفة. هرولت إلي الشوارع فَزِعَة. تعيد للأشجار استقامتها. تصلح النوافذ المحطمة. تهدئ من روع القطط الخائفة.
في منتصف الطريق الرئيس، وجدت عصفورًا ممدّدًا علي الإسفلت في سكون.
بكت. بكت كثيرًا. أمطرت السماء لتواسيها.
***
تتحاشي المرور بالسوق. في كل مرة، يتهمنها البائعات بسرقة ثمرات الفاكهة تحت طيات ثيابها.
تمشي الهوينا، لا حياءً ولا ديانةً. خلعت قلب بعضهم حين كانت تتقافز في صباها.
يومها بسيط ورتيب للغاية. تستيقظ صباحًا، تصطحب إخوتها الصغار للمدرسة. في الظهيرة، تحمل صرّة الطعام لأبيها في الحقل. ثم –في المساء- تقتل ما تبقي من فتيان القرية في طريق عودتها.
تتبسّم في الشُرفة، فتيان البلدة يهللون في الخارج ويشقون قمصانهم، جدّها يخرج فيهشّم أنوفهم بنبّوته.
ثم تتبسّم هي مجددًا … إلخ
***
تجلس في قطار الأنفاق، مواجهةً لثلاث سيدات في المقعد المقابل.
تحدّث السيدة الأولي نفسها: ليت لابنتي شعر فاحم طويل كشعر هذه الفتاة. إذًا لتزوجت الليلة.
تحدّث الثانية نفسها: ليت لابنتي خصرًا كخصر هذه الفتاة. إذا لأبقي عليها زوجها.
تحدث الثالثة نفسها: ليت لابنتي الحمقاء عقلًا كعقل هذه الفتاة. إذًا لما غدر بها ذاك الذئب.
تبتسم هي في براءة، وتحدث نفسها: ليت لي أمًا حنون كتلك السيدات اللطيفات.
***
صغارًا، كانت تأتيني في أيام الأعياد بتنانيرها الجديدة.
تدور سريعًا في موضع قدمها، فتصنع تنورتها حلقة مضيئة.
ويصيبني الدوار.
***
تعلّمت الفلسفة للأولي، والفَلَك للثانية، والمواريث للثالثة، وتنسيق الأثاث للرابعة، وتربية الدجاج والطهو للخامسة. لم تقبل بي إحداهن.
مكتبة تمشي علي قدمين، ولا فتاة تقبل بي.
اللعنة.
***
صغيرًا، غرستُ تحت نافذتها شجرة. اتسلّقها حين أكبر.
***
السنونوات الحمقاوات يفزعن مني حين أنثر لهن الحَبّ.
ويتساقطن علي كتفيها فتجمعهن هي في أقفاصها.
تتأملهن وتبتسم. يتأملنها ويغردن.
***
تحرص علي أن تبقي بجانب الأوزات حين يلتهمن طعامهن.
الأوزات يحدّقن فيها ببلاهة. يضربن بأجنحتهن، ويزدردن من الطعام حد التخمة.
وتبتسم هي لاحقًا أمام المائدة العامرة.
***
خِلاف نساء القرية، لا ترتدي هي برقعًا، وإنما نظارة سوداء.
أليست العِلّة -في النهاية- هي درء الفتنة ؟!
***
التنورة القصيرة كالبحيرة.
التنورة الطويلة كالمحيط.
الأولي تذورها في أيام الآحاد والعطلات.
الأخرى تخطط لزيارتها عقدين من عمرك، ثم تغوص فيها بقية أيامك فلا تبلغ منتهاها ولا تنقضي عجائبها.
***
الجميلة تسير علي الرصيف الآخر.
أخشي العبور.
بيننا السيارات المسعورة.
والضجيج.
وأعذار بدء الحديث.
والمقدمات المرتبكة.
وقصيدة لم تكتمل لحسناء أخري.
***
بالأمس أطلقتُ و”مارية” ورقتي توت في الريح.
اليوم، أخبرتني العرافة أن روقة “مارية” اليوم في عش عصفور، يحتمي بها من الصقيع. أما ورقتي فقد انزلقت عليها دراجة صبي يرقد الآن في المشفي.
***
“مارية” بريئة براءة الفراشة من أثرها.
“مارية” بيئة براءة “نيرون”. تشعل الحرائق في صدري، ثم تأوي لشرفتها. تتأمل النيران الممتدة في أرجائي وتعزف علي قيثارتها.
“مارية” بريئة براءة الأفعي. تغريني بقضم “التفاحتين”. جتي إذا ما فعلت، أجدني وقد هويت من فردوسي إلي جحيمي الأرضي.
نبّوت أبيها كفيل بقتل ثور بري.
***
مفاتن النساء كلها حواشي علي متن “مارية”.
***
“مارية” لا تسكن إلا قصور الحلوي وقلوب الشعراء وعقول الفلاسفة وحناجر العنادل ونواصي الخيل.
في الشتاء، تنام تحت أجنحة السنونوات.
في الصيف، تخلج أثوابها السبع، وتسبح في بحور الخمر.
تسخط، فتجعل صدرك ضيقًا حرجا، كأنما تصّعّد في السماء.
ترضي، فتصبغ عينيك بالحب وتهيم أنت بالمخلوقات، تحتضن الأبرص وتقبّل الأفاعي.
***
“مارية” تغار.
حين أجالسها عند البئر كل صباح، تقفز إلي رأسي كالفكرة، فتغسل جدرانه مما علق بها من شخوص ودروب وحوادث، وتجلو ما أفسد هواء ذاكرته. ثم تنضحه بماء الورد، وتدهنه بالمسك، وتعطره بأعواد الطيب. ثم تطبع علي كل جدار قبلتين.
حين تفارقني، أتصفّح دفتري فأجد بضع قصائد جديدة، فأتعجب.
متي كتبتها، يا تري ؟!
***
تمسك “مارية” دفتري، ثم تشرع في نزع أوراقه واحدةً تلو الأخرى. تقول:
– هذه سيئة، لم تُجِد وصفي فيها.
– وهذه أيضًا سيئة، بالغت فيها أكثر من اللازم.
– وهذه بشعة. هل كنت ثملًا حين كتبتها ؟!
– يا إله السماوات ؟! ما هذه القصيدة ؟! هل كتبتها في مَبْغَي ؟!
حتي تصل إلي آخر ورقات الدفتر، فتصيح: أهااا، هذه. هذه القصيدة. مثل هذه فاكتب وإلا فلا.
أتعجب أنا: ولكنها غير مكتملة. لم أتمها بعد.
تقول: لهذا أحببتها. المكتمل يغلق باب التساؤلات. لذا، كل مكتملٍ قبيح.
***
أحدث “مارية” في السياسة، فتقول مثلًا:
إن أتانا العدو، دع قومك يتدرّعون بالجبل، وتدرّع أنت بي.
أحدثها في الاقتصاد فتقول:
كيف يشقون مجري القنال دون أن يستأذنوا السنونوات اللواتي يعشن هناك؟ حسنًا، سأبحث بين نهديّ عن مأوي لعصافير جديدة.
أحدثها في الدين فتقول:
كيف يستقيم التوحيد في قريتنا ؟! من يراني يعبدني مع إلهه.
أحدثها في التاريخ فتقول:
في حقبة ما بعد الحوريّات، سقطت دمعتان من جفنيّ واصطدمتا بكفي. فحدث الانفجار العظين ونشأ الكون.
يسقط في يدي. فأحدثها فيما أحسنه: الشعر. فتضحك هي وتصفق بيديها وترقص كالأطفال.
وتضحك الأكوان لضحكها.
***
ترقيني “مارية” فتقول:
أعيذك بالله من الشياطين الأربع.
أعيذك بالله من شيطان النار. ينزع من صدرك سرّك فتمسي واحدًا كالآخرين.
أعيذك بالله من شيطان الهواء. يعميك بظواهر الأشياء عن بواطنها.
أعيذك بالله من شيطان الماء. يقطع عليك أمرك، فلا تعرف من أين و لِمَ أتيت.
أعيذك بالله من شيطان التراب. يَفْرُق بينكما، فلا تجتمع وحبيبٍ أبدًا.
***
أتيتُ “مارية” بمجرّتين وبضع شموس متناثرة كانت تغفو عند البئر، فامتعضت وقالت: تخيّر هداياك. عندي من هذا الكثير.
دَنَت مني وفتحت عينيها علي مصراعيهما، وقالت: انظر.
***
الملعونة،
جاءتني غاضبةً، ألصقت فوهة مسدسها برأسي وقالت: ارتجل لي قصيدة الآن، وإلا أرديتك.
محدّقًا في الأوراق كالأبله، خانتني شيطانتي فلم أخط شيئًا.
حين انتهت مهلتها، ضغطتْ علي الزناد، فأصدر صوت ال”تِكْ” البذئ.
ولَّت هي ضاحكةً: كنت أمازحك فقط.
جلستُ أنا أرضًا، ألملم أوراقي المبعثرة. كان بنطالي مبللًا ..
***
كنت أقف كل صباح في الحديقة، أسفل السلم الخشبي المؤدي إلي غرفتها. تخرج هي وقف أعلي السلم، ثم تسألني عما أريد فلا أجيبها. تحسبني شحّاذًا أبكما، فتلقي لي بضع دراهم.
بعد زمن، فهمت، فصارت ترتدي التنانير الطويلة.
***
كان أبي لصًا. كان أبوها قاضيًا.
علمني أبي السطو. أوصاها أبوها بالقصاص.
حين اختلست منها قبلة، اقتصّت مني فورًا. بشفتيها.
***
في العهد القديم، كنت أحمل مئات القصائد في دفتري وأبحث عن فتاة وحيدة.
الآن، أغوص في مفاتنهن وأعتصر رأسي بحثًا عن قصيدة هنا أو هناك، فلا أجد.
***
في طريق عودتها من الجامعة كل نهار، كان التاجر ينتظرها، أمام متجره، ليهبها الحلوي بلا مقابل.
كان صاحب المقهي يدركها بالعصائر، يقول: لعل الطريق أنهكك.
كان جارها الخجول يختلس لها النظرات من شرفته.
كانت جارتها تتأمل جسدها البضّ وتخطط لخطبتها لابنها.
أما أنا فكنت أتقدم فأتأبط ذراعها، واصطحبها لحديقة المدينة، تحت وابل من سُباب الجميع ولعناتهم.
***
نهارًا تجفّفني، مع ملابسها، تحت سماء المدينة الحارة. فأمضي سويعات النهار في تلفيق طريقة مناسبة للانتقام.
ليلًا تلبسني، كقميص نومها، فيتورّد وجهي وأغفر لها.
***
الأولي: تعطر لي الجو، تعد لي المائدة، تضئ الشموع، تزين الغرفة بالورود وتنتظر.
تنتظر، تنتظر، تنتظر، فلا أذهب.
الأخرى: تهرب مني، فأتبعها. تصفعني علي الخدين، فأتبعها. تبصق في وجهي، فأتبعها. تنبذني كعقب سيجارها، فأتبعها. تدوسني بسيارتها، فألملم أجزائي المبعثرة وأتبعها.
هل الحياة إلا ما نبحث عنه وما يبحث عنا ؟!
***
تقول: ارسمني. فامتثل. اختلط الألوان وأمضي الساعات في تصويرها حتي تتوقف ذراعيّ عن الحركة. تنهض هي من أريكتها، تتثاءب، تتأمل لوحتي التي تحاكي لوحات “جاك لويس دافيد” فتتململ.
تقول: لا تشبهني في شيء. تمزّقها، وتضع علي المسند لوحة عذراء. تمسك الألوان والفرشاة وتنثرها ببربرية علي اللوحة، فتنتج رسمًا أشبه بأعمال “بولوك”.
تبتسم بظَفَر وتقول: هااا، هذه تشبهني أكثر.
***
صغارًا، كنت أسرق لها التفاحات من حديقة جارنا ليلًا.
حين سألتني بعضهن ذات نهار، تسللت للحديقة علي غير حذر، فوقعت في يدي حارس الحديقة.
سألني: لمن تسرق التفاحات؟ قلت لأمي القعيدة. صفعني: أمك ليست قعيدة.
قلت: لإخوتي الصغار الجوعي. صفعني: ليس لك إخوة.
قلت: لجارنا الهَرِم. صفعني حتي أدمي وجهي: جاركم ليس هَرِمًا.
أُسقِط في يدي، فأخبرته أن التفاحات لها. قيدني في باب الحديقة كالدجاجة، رأسي للأسفل وقدماي للأعلي، ثم شرع في إلهاب مؤخرتي بسوطه القصير.
كانت هي تتلصص علينا من خلف سور الحديقة المقابلة وتضحك. وكنت أنا ألعق الدم السائل علي وجهي، وأضحك.
***
فاتنة هي، غير أن بعض الصدأ يعتلي محياها.
حين التقطتُ مِبضَعي وشرعت في تطهيرها منه، انكشف لي المزيد منه.
حتي إذا أزلته تمامًا، لم أجدها.
***
الفاتنة، في معسكر العدو، تستنشق دخاني الذي أنفثه في شرفتنا.
حين توقفتُ عن التدخين، لأحفظ دراهم العشاء، أمطرت دارنا بالقذائف.
حملت الريح قصائدي، المبعثرة بين الأطلال، إليها.
قرأتها، تجشّأت، ثم هامت بجارنا الشاعر، الذي لم يتوقف عن التدخين بعد.
***
أيام ثورتنا، تسلّلت أنا ورفاقي ليلًا لنلصق المنشورات المندّدة بالديكتاتور علي جدران المدينة. كان الرفاق ينقشون علي الحوائط عبارات: يسقط الطاغية. أما أنا فنقشت: يسقط الديكتاتور .. تحيا “مارية”.
في الصباح، عثر الجنود علي الملصقات فلم يتبيّنوا هويّة رفاقي، أما أنا فأُودِعت السجن.
***
تخطو “مارية” أمامي علي المياه، وتركل الأمواج بقدميها. أحاول اللحاق بها فأغرق.
أحاول ثانيةّ فأغرق.
ثالثةً فأغرق.
تضحك هي وتقول: آمِن، تَنَلْ الكرامات.
أقول: هكذا ؟! (أفتح كتابي المقدس)
تقول: لا، بل هكذا (تضع يدي علي صدرها)
***
بين باب دارنا وشُرفة “مارية” نصف ميل وتسعة عشر ذراعًا وثلاث بوصات.
أقطعها ذهابًا في ثلاث دقائق.
أقطعها إيابًا في يومين وليلة.
***
تمدّدتُ علي سرير بنات أختي الصغيرات، أتينني بكتيّب يحكي عن مغامرات البحّارة القدامي.
شرعت في سرد القصص عليهن، وشرح ما يستغلق عليهن فهمه. لمّا بلغت حكايات الحوريات اللواتي كن يغنين للبحارة بأصوات عذبة حتي يتبعونهن فتغرق سفنهم، أ..
في الصباح، استيقظت تحت أشعة الشمس الحارقة، الآتية من النافذة، تثاءبت، نظرت حولي فوجدتني محاطًا بنظرات الصغيرات الخبيثة.
***
الموسيقيون الثلاثة المتجولون ينتظرونها كل صباح عند نهاية البناية، في طريقها إلي العمل.
حين يبصرونها يشرعون في العزف، تلقي إليهم درهمًا فيلتقطونه ببهجة ويلملمون آلاتهم. يتناولون غداءهم وينتظرون موعد عودتها.
يعزفون لها، فتلقي إليهم درهمًا آخر، فيلملمون أشياءهم ويذهبون لتناول غداءهم.
لا يعزفون إلا لها.
***
قبّلهنّ.
احبسهن بصدرك.
انفثهن.
اطفأهن.
***
أحببتُ بنت السلطان، فأودعتني السجن.
أحببت بنت القاضي، فعذّرتني.
أحببت بنت القصّاب فقصمت أضلعي.
أحببت بنت الراعي فأطلقتني في المراعي.
وأطلقت خلفي كلابها.
***
علي فراش الموت، كان الرجال يلقنونه الشهادة.
أما هي فكانت تطالبه بقصيدة اليوم.
***
حين اختطفتْ مني شيئًا ما كان في صدري، أبلغت عن سرقتها في المخفر.
سألني الشرطي عن وصفها فلم أعرف: كنت أحادثها من وراء حجاب.
سألني عن وصف المسروق: لا أعرف، فقط أعرف أن شيئًا ما مفقود من صدري.
أودعني السجن للبلاغ الكاذب.
***
في طريقنا للمسرح، كنت أرخي يدي اليمني علي كتفيها، بينما اليسري علي كتف صديقي الوحيد. أعرف أن يديهما متشابكتان خلفي، أشعر بهذا، لكني لا أنظر أبدًا لأتبين الأمر.
يقتلني الشك، لكني أتجرّعه كي لا أفقدها، أو الأسوأ: أن أفقده.
***
صغيرًا، كانت هي تسبقني في الركض. تعدو وأعدو خلفها، حتي تتمزق أوتار صدري. أسقط أرضًا فلا تلتفت هي، وتواصل الركض.
أنهض وأكمل لعنتي خلفها، ألتقط الفراشات التي صدمتها، أقبلهن، أداوي أجنحتهن، أعتذر لهن ثم أطلقهن ثانيةً في الريح.
الآن، بعد عقدين من الركض، ما زلت أتبعها، ألتقط المساكين ممن دهستهم من الرجال، أداوي صدورهم، أعتذر لهم، ثم أواصل الركض خلفها.
***
ابن عمتي، القروي العقيم، الذي جاءنا من الريف للمرة الأولي هذا الصيف ليخضع لبعض فحوصات الخصوبة، لم يحضر موعده مع الطبيب ذائع الصيت. أمضي جُلَّ أيامه هنا، في المدينة، محدّقًا في دُمي عرض الملابس، المنثورة في واجهات متاجر الملابس.
بعد أيام، ابتاع لزوجته، بأموال الفحوصات، كل الملابس الداخلية التي رآها علي المونيكات.
اليوم، بلغني أنه قد أنجب ثلاثة توائم دفعةً واحدة.
***
في الصف الدراسي، كان المدرّس يتجنب طرح الأسئلة علي حسناء الصف.
حين كانت تقف أمام السبورة، في صدر الصف، وتبدأ في قراءة الدرس جهرةً لبقية التلامذة، كانوا يصابون بالبله، ويضرب هو أخماسًا في أسداس.
***
حين رأتني أنتعل حذائي، خارج المسجد القديم بعد صلاة العشاء، أسرعت في الخطو. مُغضبًا، لحقت بها. استفهمت فأجابت: أنا أو ربك، اختر، فلا يستقيم لعاشقٍ إيمان، ولا يصفو لمؤمنٍ عشق.
***
كما تواعدنا، انتظرتها أسفل عمود الإنارة قرب الشاطئ. لكنها لم تأت.
أتممت الليلة منتصبًا ومحدقًا في نهاية الشارع، لم تأتِ.
طلعت الشمس، لم تأتِ. تعاطف معي عمود الإنارة وبقي مضيئًا ليذهب وحشتي ويعلّلني باللقاء.
حين توسطت الشمسُ صدر السماء، اعتذر لي عمود الإنارة: حتي أنا يرهقني الانتظار. وانطفأت أنواره، لكنها، أيضًا، لم تأتِ.
***
في المصعد العاطل، المظلم والعالق بين الوجود والعدم، افترشا الأرض في غفلة من الزمن.
لا يبصران شيئًا، ينتظران النجدة، كانت هي في ركن المصعد ترتجف خوفًا وتصرخ في رأسها.
وكان هو، في الركن المقابل يهدهدها، في رأسه، ويقول: لا بأس، لا بأس.
لم ينبسا ببنت شفة قط. حين أُفرِج عنهما، أخيرًا، خرجا للنور.
دون أن تلتقي عيناهما، قالت له: شكرًا لكل شيء. وانصرفت.
***
في ليلة زفافهما لم يقربها. حقيقةً، لم يقربها لسبع ليالٍ متصلة. كان، في كل ليلة، يسامرها فوق الأريكة، يغرق في مقلتيها، يمرر أنامله بين خصلاتها ويقول: دعينا نذق طعم الحب الخِداج لبضع ليالٍ أخري.
كانت هي تهز رأسها موافقةً، تبتسم بمرارة وتحدّث نفسها: يا ابن الكلب.
***
في المقهي القابع بطرف المدينة، التقيتها لمرةٍ عابرة. سألتني: هل لي بقدّاحة؟!
ارتبكت قليلًا، فتّشت ملابسي بحثًا عن واحدة فلم أجد، ثم تذكرت في النهاية: معذرةً، لستُ مدخنًا.
قالت: لا بأس، وانصرفت.
اعتدت بعدها حمل القدّاحات في جيبي، علّي أتعثّرُ فيها مرةً أخري، لكنها لم تضيء المدينة بعدها قط.
اللعنة، متي صرتُ مدخّنًا؟!
***
الملعونة،
عادتني ليلة خضوعي للجراحة، قبّلت وجنتي الطبيب وأوصته بي.
الطبيب الأحمق ابتسم ببلاهة، هزّ رأسه بحرارة موافقًا. أجري الجراحة، ونسي مِنشفته في بطني.
***


