تراتيل ونقوش
تراتيل ونقوش
حكايات الموت
(1)
في السوق، ابتاع قطعتين من الحبال. على فرع شجرة الجميز العتيقة، صنع بقطعة الحبال الأولي أُرجُوحة جميلة لطفلته الصغيرة. إلى اليمين قليلًا من الأرجوحة، صنع بالقطعة الأخرى مِشنقة، ثم تدلّي منها.
(2)
يقسمون له أن لا أحد يسير فوق خطوط النور، لكن الشك يقتله. لا يثق إلا في حواسه هو. في شرفة الطابق التاسع، يخطو أولي خطواته في الهواء بنجاح، ثم حين يتبعها بالثانية ي…. .
في الصباح، عثر عليه جاره في بقعة كبيرة من الدم، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة غريبة .. ابتسامة من تحصّل بعد عناء على يقين يتيم.
(3)
لا يطأ بقعةً من أرض الله إلا ويخط اسمه على حوائطها، علَّه يعود يومًا فيتذكر. اسمه منقوش في زوايا الأرض، مات ولم يره قط.
(4)
هذه العائلة تطفح بالفلاسفة حتى كادت تنقرض، لا أحد فيها يعمّر. رجالها يلتقطون الحقيقة باكرًا جدًا فينتحرون في شبابهم. اليوم، وُلِد لهم طفل ميت. اختنق بحبله السري.
(5)
بعد أن فرغ رجال الإطفاء من عملهم، هرع الآخرون يستخرجون ما بقي في عربة القطار المحترقة من متعلّقات الضحايا:
مصحف – أحمر شفاه-عكاز-مجلة خلاعية-دمية-كتاب في فيزياء الكوانتا-حذاء ممزق-قلادة ماسية-طاقم أسنان-قيثارة-مسدس محشو-دفتر مذكرات فارغ.
(6)
حين همّ بالقفز إلى النهر الهادر تحته، فاجأته رسالة في هاتفه تخبره أن صديقيه الاثنين توفيا في حادث سيارة. أخَّر خلاصه ليوم آخر. هو يخشى على الموت، وليمة إضافية ستصيبه بالتخمة بالتأكيد.
(7)
أسفل مكتبه، كان ممدّدًا وقد انتفخت أحشاؤه.
أعلى مكتبه توجد علبة تبغ فارغة، وأقلام مبعثرة، ودفاتر، ولوحة غير مكتملة، وكتاب لابن عربي، ومدية، ودمية مقطوعة الرأس، وأحمر شفاه، وصدرية نسائية، وحشرات ميتة، وطعام متعفّن، ولوحة مخطوط فيها: }وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطا{.
(8)
يمقت المحيطين جميعًا، صالحهم وطالحهم. يتمعن في وجوههم فيلفق لهم طرقًا مبتكرة للموت. يتمني فناء الآخرين، لكنه –رغم هذا-يخشى حدوث ذلك لئلا يفقد مبرر وجوده فيلحق بهم.
(9)
حسنًا، عاش هو حياته دون أن يلحظ وجوده أحد. على الهامش أمضي سنواته الطِوال، لكنه لن يجعل موته رتيبًا هو الآخر. سيجعله صاخبًا للغاية، سيملأه بالضجيج، سيكدر صفوهم في قبره:
أشلاء متناثرة، دماغ مفتت، ديون متراكمة، ثأر، رسائل بليغة وواضحة تصلهم منه بعد دفنه …. إلخ.
(10)
دعاهم إلى حفل شواء باذخ في بيته. دعاهم جميعًا، من يحبهم ومن يبغضهم. تحدث كثيرًا كما لم يفعل من قبل، أخبرهم أنه يحبهم جميعًا، واعتذر للجميع عن أي إساءات غير مقصودة، ثم عانق الجميع … بحزام ناسف.
(11)
في المعتقل، خاضوا معه جدلًا فلسفيًا عميقًا. كان هو رواقيًا، فحاور عقولهم عن الحق والخير والجمال. أما هم فكانوا سفسطائيين، فغرسوا شكهم وريبتهم في جسده حتى كاد يهلك. حين خرج من المعتقل لأسباب صحية، انتظر حتى تعافي ثم بحث كثيرًا عن الإجابات. حتى إذا عثر على الحقيقة في نهاية الأمر، تحزّم بها تحت قميصه، زار أصدقائه القدامى في المعتقل، ثم نزع فتيل الحقيقة ونثرها في وجوههم.
(12)
مصاب هو بداء عضال. لا يخشى الموت، لا يخشى الله. هو يخشى الانتظار، ويخشى الوحدة أكثر.
حين تيقن بقرب موته، ابتاع بما يملكه من مال مسدسًا أنيقًا. قصد السوق، واصطحب معه البعض.
(13)
على باب غرفة العناية المركزة لافتة تقول: يُحظَر دخول الأطفال، ومُرهَفي الحس، والمأكولات … والفلسفات.
(14)
يثرثر هو كثيرًا عن الموت، يمزج بجدّه وهزله. يحرص على حضور المآتم ومراسم العزاء والدفن. يقرأ كثيرًا عن الموت والقبر ومشاهد القيامة. في جلسات الأنس، يحكي لأقرانه بحماس عن مغامرات ما بعد الموت بالتفاصيل المثيرة للملل. لا أحد يعرف سر ولعه بالموت، لعله يظن أنه يبعده عنه بكثرة الحديث حول ملابساته.
لكن ما نجهله أكثر هو لماذا توقف عن الحديث عن الموت حين دهمه أخيرًا ؟!
(15)
في ساحة المدينة المقصوفة، تحتضن المرأة طفلتها الرضيعة. سال دماغ الرضيعة من الرأس حين احتضنتها القذيفة. سال قلب الأم من صدرها حين احتضنت طفلتها.
بعد سويعات من الحيرة، قام الرجال فحفروا قبرًا ودفنوهما معًا.
(16)
في اليوم الأول: مات الجد بسكتة قلبية.
في اليوم الثالث: صعقت الكهرباء الابن الأكبر فأردته قتيلًا في الحال.
في اليوم السادس: صدمت الحافلة ابنتهم الصغرى خارج مدرستها. يقولون: ستنجو. يقولون: ستتعافى. يقولون: لن تموت. لماذا؟ لأنه لا يُتَصور أن تودع الأسرة ثلاث جثث في أسبوع واحد.
في الصباح، زارهم الموت فنزع الثالثة. لماذا؟ ليلقي عليهم السلام، ثم ليمازحهم قليلًا (وهو –الحق أقول-يجيد المزاح)، ثم ليخبرهم أن هراء الإحصاء والمنطق يسري على الحمقى الذين اختلقوه، لا عليه.
(17)
“موت – حياة – موت”
أغنية قصيرة بليغة، قال لي، احرص أن تلقنها لأبنائك. أخبرهم أن الحياة بنت الموت، من سفاحٍ على الأرجح.
(18)
قرأ كثيرًا فصعد. حاز الجاه والسلطان فصعد. ازدرد الذهب وتجشأ الفضة فصعد. ضاجع الحسناوات فصعد. سكر كثيرًا وعربد، فصعد. انتشى بفتوته فصعد. صعد ثم صعد فصعد.
حين نكزه الموت بإصبعه البارد كالثلج، هوي. تناثرت أشلاؤه فوق البحار الخمس.
(19)
لا يطيق حضور مراسم العزاء والدفن. يحط الحزن على أكتاف القوم. أما في صدورهم فتقبع بهجة معتّقة لا رائحة لها: أخطأهم الموت مرة أخري وأصاب آخر.
(20)
“مات الفلاح قبل أن يحصد زرعه.
مات الغريب قبل أن تطأ قدمه الثانية أرض الميناء.
مات الرضيع في حجر جدّه وهو يلاعبه.
مات الطبيب حين تماثل المريض للشفاء.
ماتت الأم قبل أن ترَ وليدها.
مات الناسك حين سقط الشك مدويًا في قعر صدره.
مات الموت حين ……..” (*)
————————–
(*) نص غير مكتمل لكاهن قديم مات قبل اتمامه.
(21)
ليلة العيد، اشتري بدراهمه المعدودات بزّة بديعة لطفله الوحيد، ليلبسها في العيد فيكون كأقرانه ليوم واحد رغم فقره بقية العام. في الطريق إلى البيت، كان يتوهّم بهجة طفله للباسه الجديد. أمام الباب أبصر زوجته منثنية على كبدها.
صباح يوم العيد، كفّن طفله، ووضع معه في الكفن لباس العيد، ثم واراه التراب.
(22)
هو يريدها طفلة. هي تريده ولدًا. مزاح، فخلاف، فتلاسُن، فتناوُش، أفرغت خزانة ملابسها وقصدت بيت أبيها.
بعد أسابيع، وضعت وليدها باكرًا. نزل سقطًا. لم يعرف أحدهم إن كان ذكرًا أم أنثي. في اليوم التالي، جاء الزوج فصحبها إلى المنزل.
(23)
ينزع الموت روحًا، فيصنع ملهاة رائعة. يتبارى الشعراء في وصفها بقصائدهم كما تجود قرائحهم. يتصفّح الموت قصائدهم الرديئة ويسخط عليهم، فينزع أرواحهم ليصنع ملهاة أبهي، يتبارى في وصفها شعراء آخرون … إلخ، إلخ.
(24)
في طفولتنا، كانوا ينهوننا في القرية أن نخط شيئًا على الرمال ثم نتركه دون أن نمحوه. علّلوا ذلك بأسباب تتعلق بالجانّ، لا أذكر تفاصيلها الآن.
أنا الآن على قدر لا بأس به من العلم، ولم أعد أعتنق هذه الخرافات بالطبع، لكني سأحرص –وأنا على فراش الموت-على إحراق كتبي ولوحاتي وهواتفي وبطاقات الهوية.
(25)
قال لي جدي: يقولون (لا أعرف من هم، لكن يبدو أنهم على حق) أن لحظات نزع الروح دائمًا ما يسبقها سكون الموجودات، لا ثرثرة في حضرة الحقيقة، لا مقام وقتئذ إلا للصمت. فيها، تتعاظم قدرة الخالق فتبدو كأعظم ما تكون، وتندثر “قدرة” المخلوق فتبدو كأقحر ما تكون.
قال: ساعتها يبصر الجميع الحقيقة، فيعتنقها البعض، ويجحدها الآخرون.
(26)
غسّل الشيخ الجسد الأول، فنزفت من فتحاته الدماء والصديد والقذارات.
غسل الجسد الثاني، فخرجت من جسده البراكين والأعاصير والرعود.
غسل الجسد الثالث، فكان كالحجر الأصم. لم يخرج منه شيء.
(27)
جاء القوم لإمام المسجد بجسد الناسك العابد ليغسّله. همّ بتعريته حين أبصر على أسماله ثلاث شعرات طويلات شقراوات. نحّاهن جانبًا، تبسم قليلًا بزاوية فمه، ثم أتمّ تغسيله في صمت.
(28)
لا يحمل بطاقة هوية. لا يلتقط الصور مع رفاقه. لم يتزوج ولم ينجب. نشأ في بيت أيتام فلا يُعرف له أهل. لا يستمر في عمل واحد شهرين متواصلين. لا بيت له، يحمل متعلقاته في حقيبته الصغيرة. لا يقترف صداقات، لا يختلق عداوات.
حين توفي أثناء عمله، صلي عليه رفاقه ودفنوه سريعًا. بعد أيام معدودات كانوا يتساءلون إن كان قد وُجِدَ حقًا أم أنهم قد توهّموا هذا.
(29)
في خزانة ملابسه مائة وجه، يرتدي منها كل يوم ما يليق بهندامه. اليوم هو عابد زاهد ورع. بالأمس كان فاسقًا عربيدًا لا يتورّع عن شيء. أول أمس، كان كسولًا خاملًا. اليوم السابق، كان كمن يحمل الكون على كتفيه. يسبُّ هذا، ويدعو لهذا، ويداعب هذا، ويقذف عرض هذا، ……. .
موته لم يكن بعيدًا. في أحد أسفاره الليلية، مرّت إطارات الشاحنة فوق رأسه ففلقته. لم يميز أحدهم ما تبقي من وجهه فدُفِن في قبر مجهول.
(30)
فوق قبر السِكِّير، بنت الحمامات أعشاشهن.
فوق قبر الناسك، حطّ الغراب.
(31)
ثلاث فتيات في عائلة ارستقراطية فاحشة الثراء. هذا الوضع لا يأتي بلا مسؤوليات كما هي العادة. الفتيات لا يلعبن مع الصبية. الفتيات لا يوسخن ملابسهن باللهو في الطين. الفتيات لا يلهين في المطر. الفتيات يلتزمن بآداب المائدة. الفتيات لا يرفعن عقيرتهن بالصياح. الفتيات يبتسمن، لا يقهقهن. الفتيات لا … الفتيات لا … الفتيات لا … .
تكيفت الكبرى والوسطي. أما الصغرى فلم تحتمل فِراق الطين والمطر، وماتت.
(32)
جارنا البدوي يضرب ناقته. جارنا البدوي يذيقها العذاب ضعفين. جارنا البدوي يذبح صغارها قبل الفطام لئلا يتكلف عناء أعلافها. جارنا البدوي يخشى ناقته ويعلم أنها ستقتصّ يومًا ما.
في خيمته أثناء سفره في الصحراء، لدغته أفعي مجلجلة فهلك في ساعتها. خلعت ناقته عقالها، بركت عند باب الخيمة، ثم أسلمت الروح.
(33)
وجيه القرية يملك من الأراضي المزروعة بالذّرة ما ترتع فيه الخيل أيامًا وليالي لا تبلغ منتهاها، كما يتفاخر هو. غير أنه لا يملك إلا حفيدة واحدة، تملأ من عينه ما لا تملأه حقوله الشاسعة. خرجت حفيدته تلهو في الحقول، فضلّت الطريق وضاعت بين أعواد الذرة. لفحتها الشمس بحرارتها فماتت.
بحثوا عنها ليالي عدة حتى دلّتهم عليها رائحتها بعدما انتفخت في الشمس. أصابت عقل العجوز لوثة فأضرم النيران في حقوله قبيل الحصاد بأيام. باع الأرض بثمن بخس ثم أحرق أموالها. قبل أن تخمد النيران كان صدره قد خمد.
(34)
صدمت السيارة المسرعة أمامه هدهدًا صغيرًا لم يتقن الطيران بعد. خلع معطفه ووضعه بين طياته. حمله إلى منزله. اعتني به حتى كساه الريش وانجبر جناحه المكسور. بعد شهرين، حمله إلى الطريق السريع حيث وجده وأطلقه في السماء. تابعه بنظره حتى اختفي بين ثنايا السحب. حين عبر هو الطريق عائدًا إلى بيته صدمته شاحنة عملاقة.
(35)
بين كؤوس الخمر وأرجل النساء يقضون لياليهم، شأن من يهرب من فكرة أزلية.
الليلة الماضية، سقط أصغرهم ميتًا دون مقدمات. حملوه خفية إلى إمام المسجد، فغسّله وصلي عليه منفردًا فهم لا يتقنون الصلاة. بعد الدفن نصحهم الشيخ وخوفهم من سوء العاقبة فجادت أعينهم بالدمع وتواصوا على النزع.
هذه الليلة، ولجوا الحانة فرادي متعاقبين. حيّوا بعضهم البعض دون أن تتلاقي أعينهم. تحدثوا حديثًا مقتضبًا، ثم دفنوا رؤوسهم في كؤوس الخمر ونهود المومسات.
(36)
حين سبّ السجين مدير السجن، أقسم الأخير على حبسه منفردًا في الظلام حتى يلقي حتفه. لم يهتز، تحمل العزلة وتماهي فيها، إلا ما كان من شأن ذاك الصنبور في الطابق العلوي الذي يتسبب في قطرات رتيبة ومتواصلة تكاد تفلق رأسه. صرخ فيهم ولعنهم وتوسلهم لإصلاح الصنبور، فلم يلتفت إليه أحد.
بعدها بأعوام، جاء مدير السجن الجديد، فجدّد بعض أساسات السجن وأصلح خطوط المياه، فتوقفت القطرات. حينها صرخ السجين فيهم وتوسلهم بما بقي من أوتار صوته لإبقاء قطرات المياه، لكن مثل هذا لم يكن ممكنًا.
حين أتاه السجان في اليوم التالي بالطعام، كان ساكنًا كالقبر.
(37)
المهرج العجوز لم يعد يضحك الجمهور، هو يعرف هذا، لكنه لا يعرف شيئًا آخر يتكسب منه دراهم عشاءه. يتلو عليهم نكاته المحفوظة فيسبّوه. يرقص ويقفز فيرشقونه بالأحجار. يمسح الدم عن وجهه ويكمل العرض، فيهبطون إلى الحلبة ويضربونه حتى تتداخل أضلاعه.
الليلة، دخل المهرج الحلبة بساقه المكسورة. وضع فوهة مسدسه في فمه، ثم ضغط الزناد، فهلل الجمهور وصفقوا له كثيرًا.
(38)
صديقي الملحد الذي فلق رأسي بثرثرته عن موت الإله ووهم المطلقات وأساطير الأولين المتشحة بهراء الكهان، كان يشاطرني الغرفة في الباخرة التي تطفو فوق المحيط.
حين فاجأتنا العاصفة وأدركنا الغرق، تعلّقنا بالعوامات وانتظرنا خفر الساحل. نصف جسده في الماء ونصفه الآخر في الضباب، لمحت صديقي يرفع يديه إلى السماء. هل كان يدعو الله؟! لا أعرف، فهو لم يجادلني بعدها قط في شأن الإله.
(39)
عجوز القرية التي جاوزت التسعين بقليل، تذهب كل صباح إلى طرف القرية. تخط خطًا جديدًا على جذع شجرة التوت العتيقة، تنتظر أبناءها الثلاثة الذين لم يعودوا من الحرب. أربعون عامًا مذ ذهبوا. الأسبوع الماضي، اشتري أحد الوجهاء الأرض التي تحوي شجرات التوت. صباح اليوم، حرثوا الأرض واجتثوا الشجرات. قرب المغيب، سمعنا أصوات النساء. ماتت العجوز.
(40)
قال لي: مولع أنا بتحريق سفني وشطب الأسماء والعناوين من دفتري. اصحب من الناس من اصحب فاعتصره، حتى إذا لم يبق في صدره ما اقتات عليه من علم أو حكمة، نبذته نبذ النواة. تناسيت حتى نسيت. قطعت جميع صِلاتي بالأمس، حتى ليُخيل إلى أن أوتار عنقي ستتمزق إن أنا التفت.
قلت مازحًا: لم يبق إذًا إلا أن تقطع شرايين عنقك التي تربطك بالدنيا.
أطرق قليلًا كمن احتلت رأسه الفكرة ثم تمتم: نعم، نعم، لم يبق إلا أن أقطع شراييني.
(41)
صديقنا الصعلوك دائم الضحك، خفيف الروح، يتقافز لا يمشي، يلمز هذا ويلاعب هذا. لكنه لا يجيد شيئًا مثل التلصص. يتلصص على كل شيء. يتلصص على الفتيات أثناء الاستحمام. يتلصص على الزوجين بعد أن يغلقا عليهما الباب في الأعراس. يتلصص على النساء والقابلات أثناء الولادة. لا يجالس الرجال فهو لا يجيد تصنع الوقار.
حين غلبه الفضول يومًا وتلصص على الشيخ وهو يغسل ميتًا، عاد إلينا بوجه غير الذي نعرفه. تجهّم، اعتلت رأسه خصلتين مخضّبتين بالشيب. وغلّفه الصمت فلم ينبس بعدها ببنت شفة.
(42)
هذه العائلة الثرية متعجرفة. الكل يعلم هذا. هم أيضًا يعلمون. لا يخالطون الفقراء أو متوسطي الحال مهما تكلف الأمر. يسكنون أطراف القرية فلا يقربهم أحد. حتى في موتهم. كيف؟ ألا تري قبورهم التي تعلوها الشواهد المبهرجة بعيدًا عن قبورنا؟!
على أي حال، كان الدرس قاسيًا. غمرت السيول المدينة فاقتلعت الشواهد وأغرقت القبور فاختلطت عظامهم بعظام الآخرين.
(43)
حين ثار البركان وغمر المدينة برماده، لم يثني الأول عن عزمه. كان الناس يهرولون في الطرقات هربًا من الرماد، أما هو فكان يعدو نحو بيت الثاني، عشيق زوجته ليقتله. اشتبكا بالأيدي سريعًا، لكن الوقت لم يسعف أحدهما ليتغلّب على الآخر.
حين عثر رجال الآثار على عظامهما المطمورة، نظر أحدهم للجثتين المتعانقتين وقال: انظروا إلى هذين الصديقين، لم يفترقا حتى في ساعة الموت.
(44)
لم يبرح الحانة مذ وعيت أنا الأشياء. كانوا ينهوننا صغارًا عن الحديث معه، هذا الزنديق الذي لا يصلي الفرض ولا يعرف الله. تلك الليلة، انثني خلف الحانة، يتقيأ ما ملأ به جوفه من الخمر فأبصر شيخ المسجد الجديد مارًا مع ابنته.
ظهر اليوم التالي وجدته في المسجد يقرأ القرآن وينتظر الصلاة. نظرت إليه مستفهمًا فتبسّم وقال: الله جميل، خلق سلمي.
صلي بجانبي. قمنا فقام، ركعنا فركع، رفعنا فرفع، سجدنا فسجد، وحين سلمنا لم يسلم هو. كانت يده الباردة متدلية ورأسه مطروحًا على كتفي.
(45)
حين انطلقت صافرات الإنذار، هرعت الأم توقظ أبناءها الأربعة. حملت الرضيع وصحبت البقية سريعًا إلى حظيرة الخيول في المزرعة، بعيدًا عن المنازل التي ترصدها طائرات الحرب. عادت للبيت فأيقظت زوجها وأسرعا ليلحقا بصغارهما في الحظيرة. لكن الحظيرة لم تكن هناك.
(46)
قائد الحرب الذي لا يشق له غبار مات على فراشه.
السِكِّير سقط عند باب الهيكل.
الثري هوت طائرته في الصحراء فمات جوعًا وعطشًا.
الجندي الفار من المعركة قتلته أمه بفأسها حين تسلل إلى بيته ليلًا خشية العار فظنته هي لصًا.
المتسول الذي عثر في الزقاق على خاتم ذهبي، اشتري طعامًا كثيرًا وأكل حتى مات بالتخمة.
العجوز الهَرِم دفن ابنه، ثم دفن حفيده، ثم دفن ابن حفيده الرضيع. مل الانتظار فألقي نفسه في النهر.
.
.
وأشياء أخري تعرفونها.
(47)
مات طفلهم الأول. بعد عامين أنجبوا ثانيًا وسموه باسم أخيه الراحل فمات بعدها بقليل.
بعد عام أنجبوا طفلهم الثالث وسموه بنفس الاسم فمات بعد شهر.
حين أنجبوا طفلهم الرابع، سموه باسم آخر.
خمنوا ماذا؟
مات هو الآخر. هل كنتم تعتقدون أن الموت ساذجًا لهذا الحد حتى تنطلي عليه مثل هذه الحيل الرخيصة.
(48)
قبور تغطيها زهور النرجس.
قبور تنبت حولها أشجار النخيل.
قبور يعتليها روث الحيوانات.
قبور جميلة الشواهد.
قبور قبيحة الشواهد.
قبور لا شواهد لها.
قبور اسمنتية.
قبور رملية.
قبور فارغة تنتظر.
.
.
بلا بلا بلا ..
(49)
يتوق إلى النساء. لا، في الأربعين.
يشتهي شهي الطعام. لا، في الأربعين.
ماذا عن منزل لائق ؟. لا، في الأربعين.
سيارة ترحمه من عناء المشي إلى العمل كل صباح. لا، في الأربعين.
حسنًا، ماذا عن …؟ قلت لا، لا لا، صرخت نفسه. أخبرتك كثيرًا أنك ستحصل على كل شيء في الأربعين. ستغرق في بحور الملذات وستغرب عنك أيام الشقاء في الأربعين. أما الآن فاعمل. اعمل فقط لتجني المال الكثير.
قالت أمه العجوز: مسكين ولدي، مات في ذات يوم مولده. عاش أربعين ربيعًا بالضبط.
(50)
سخر الفيلسوف من الناسك. قال: لماذا تخفي يقينك تحت أثواب العزلة السبع؟ هيا، انزع رداءك واستمتع بدفء الحقيقة.
مترددًا، نزع الناسك أثوابه، واحدًا تلو الآخر. لفحته شمس الشك فسقط صريعًا.
(51)
في الطابق الأول، ألقت المرأة طفلها من السِفاح في فتحة المجرور لتمنع فضيحتها المحتملة.
في الطابق الثاني، حطّم الأب أصابع صغيره حين خدش سطح سيارته الحديثة.
في الطابق الثالث، نزع الأب المدمن للمخدرات أقراط صغيرته أثناء نومها، شعرت به فصرخت. غرس مديته في صدرها.
في الطابق الرابع، ألقي السكير طفله الرضيع من النافذة ليسكت صراخه المزعج.
.
.
في الطابق الخامس، زوجان يقومان الليل كل ليلة، يدعوان الله أن يمن عليهما بمولود يقطع هذا الانتظار الطويل.
(52)
عند الصخرة التي تطل على شلال المياه، يجلس العجوز الوحيد كل أصيل مع كلبه، يتناول غداءه ثم يلاعب كلبه بالكرة. في الليلة الأخيرة للعجوز، ألقي الكرة بعيدًا فانزلقت قدمه. حين أحضر الكلب الكرة لم يكن العجوز هناك.
اعتاد الكلب الجلوس هناك كل نهار حتى المغيب، لكن العجوز لم يظهر أبدًا. تستطيع أن تتثبّت بنفسك من صدق حديثي، عند الصخرة ستجد الكرة وبعض العظام ورائحة الانتظار التي تغلف الهواء.
(53)
الأم تمشّط شعر الصغيرة، تضفّره، تمرر يدها بين خصلاته التي بعثرتها الريح. تغني لها أغنيات عن شعرها الفاحم الطويل. تقص عليها حكاية “رابونزيل” ذات الشعر الأشقر الطويل للغاية.
في الشهر الأخير الذي قضته الصغيرة في سرير المرض بعد أن غرس السرطان أظافره عميقةً في صدرها، كان شعرها يتساقط فتلتقطه وتضعه في كيس صغير. حين خلا رأسها بالكامل، أخرجت الكيس من تحت وسادتها، وضعته في يدي أمها ثم نامت، للأبد.
(54)
الشاب المسكين دفن روحه في الكتب بحثًا عن إجابات لأسئلته. قرأ فانعزل. قرأ فسهر. قرأ فجاع وعطش. قرأ فمات.
في مكتبته الكبيرة، وجدوه ممددًا على الأرض، وحوله الكتب تبتسم بخبث.
(55)
عاش كأبطال الملاحم: صنع بطولات غير مكتملة، أبحر خارج الدروب المطروقة، سأل أسئلة محرّمة، عاد بإجابات متشكّكة، عاش وحيدًا كذئب عجوز.
غادر أيضًا كأبطال السِيَر. اختفي فلم يعثر على أثره أحد.
(56)
مشهد أول: في المشرحة، طبيب مخمور يمسك بإحدى يديه قنينة خمر، وبالأخرى مشرط جراحة، يعبث بجثة العجوز الميت الذي رفض تزويجه ابنته.
مشهد ثاني: لص جائع يحفر قبور الأثرياء حديثي الدفن، يقطع أصابعهم بفمه لينزع عنها الخواتم الماسية.
مشهد ثالث: مسلحي الميليشيات يقتحمون القرية المسالمة، يطلقون النار على كل حي. يقطعون رؤوس الأطفال ويلعبون بها الكرة.
مشهد رابع: شنق امرأة شقّت عنق ذئب حاول اغتصابها.
مشهد خامس: سجين تظهر أدلة براءته القاطعة بعد إعدامه بدقائق، فينفجر الجلاد والقاضي ضحكًا.
مشهد سادس: طفل صغير يلزم جثة أمه المنتفخة بضعة أيام في القرية الخراب التي خلّفتها الحرب. يغلبه الجوع، فيغرس يديه في أحشائها، ينزع منها ويأكل.
(57)
قال لي: آلهة الأوليمب حمقي. لو كنت مكانهم لحمّلت سيزيف ساعة حائط ضخمة بدلًا من الصخرة.
لم أصحبه بعدها أبدًا، صرت أخشاه كالموت.
(58)
في الخندق، تحت زخّات الرصاص التي أصابته بالصمم وذهبت بلبّه، يستلقي الجندي المرتجف وينظر إلى السماء ببلاهة. بيدين متراخيتين يخرج من جيبه خطاب طفلته الصغيرة، يعيد قراءة كلماتها المتقطعة للمرة الأخيرة. ينهض ويرفع بندقيته فيحتضنه الرصاص.
(59)
تفيق الطفلة التي مزقتها شظايا القنبلة من المخدر، فتتشبث بأيدي الطبيب وتصرخ: أنا عايشة، عمو، أنا عايشة. (**)
(60)
يرفع الصغير المرصّع بآثام القذيفة سبابته للأعلى. يقول: سأخبر الله عن كل شيء. ثم يسلم الروح. (**)
(61)
همس في أذني: تجنب المرايا لا يمنع التجاعيد من الزحف في ملامحك. تجنب ذِكر الموت لا ينسيه إياك. تجنب المرور بالمقابر أو زيارتها لا ينفي حقيقة أنك سترقد بين طياتها يومًا ما.
(62)
في غرفة الفندق جلس. سمع حركة عقارب الساعة، قام فحطمها. سمع صوت قطرات المطر المتساقطة في الخارج برتابة، قام فأغلق النافذة. سمع دقات قلبه المتسارعة، أمسك السكين وغرسها فيه. ثم استمتع بالصمت المطبق.
(63)
في المسرح الروماني المهجور، يجلس وحيدًا. يشاهد خيالات الأسود تفترس أطياف المسيحيين. مع كل مسيحي يسقط، يقفز من مكانه ويهلل ثم يتقارع الكؤوس مع أشباح الرومان عن يمينه وشماله.
(64)
يوم الإعدام كان الجميع سعيدًا ومبتهجًا. كان القاضي الفاسد سعيدًا، مكافأة السخية التي تنتظره من الطاغية. كان الجلاد سعيدًا، اشتاق كثيرًا لنزع الروح بعد مرضه الطويل. كان الصحفي سعيدًا، سيكتب أخيرًا “المانشيت” الرئيس في الصحيفة. كان الثائر سعيدًا، آن له أن يستريح أخيرًا.
(65)
يصلي قرب نافذة المسجد المقابلة لنافذة البغي. يقول: لا بأس، لا بأس، أنا لها. أحكمت ذمام نفسي فما عادت تدعوني لشيء، المهم ألا أمنع نسمات الهواء القادمة من النافذة. بعد ليلتين، تسلل خفيةً إلى غرفة البغي. طرق الباب فصدته، هي لا تضاجع أحدًا في أيام حيضها. استغفر هو وعاد للمسجد. في المنتصف بين بيت البغي وباب المسجد قُبِض، فضربت الملائكة أخماسًا في أسداس.
(66)
الموت يعرف أنه يخافه كالجحيم، فيطيب له أن يمازحه من حين لآخر. تجسّم له ونشر أجنحته في الأفق. صرخ الكهل ورماه بسهم، رماه بسهم آخر، أفرغ فيه جعبة سهامه، قذفه بالبلطة، أطلق عليه السباب البذيء. أما الموت فكان مستلقيًا على ظهره يضحك كمن لم يفعلها قبلًا.
نظر الموت في ساعته (نعم هو يحمل الساعات، هل رأيت من هو أوفي بالمواعيد منه) فانتفض، كادت وليمته التالية أن تفلت. ودع الكهل ووعده بلقاء قريب.
(67)
الدرويش يري ما لا نري. ينظر في عيون الخلق فيعرف ما تبقي من أعمارهم. هذا العجوز سيعمّر طويلًا. أما ذاك الفتي فسيهوي بعد سويعات. هذه المرأة ستموت بعد أربع سنوات وشهرين. أما هذا الغريب، هذا الغريب، آه، غريبٌ أمر هذا الغريب. لا يري شيئًا في عينيه، كما أنه انصرف سريعًا قبل أن يتحقق مما رآه، أو مما لم يره بالأحرى.
في اليوم التالي زاره الغريب ثانيةً. بعدها بسويعات واروه التراب.
(68)
الأفيال تتذكر جيدًا، هكذا يقولون.
الأفيال تتذكر جيدًا، هكذا يبدو الأمر.
فيل السيرك هذا على سبيل المثال، لم ينس مصرع صغيره منذ عشر سنين. انفك الصغير من قيده فخرج إلى الشوارع يجري كالمجنون. فزع الناس، فأخرجوا أباه ليهدئ من روعه فيعيدوه إلى الحظيرة. حين اقترب من صغيره وتلامسا، خرج ذاك الملثّم من العدم، وأفرغ مسدسه في رأس الصغير. كان ملثمًا فلم يحفظ إلا عينيه الباردتان.
عشر سنين، يتحمل ألعاب السيرك المهينة ليختلس النظرات نحو المشاهدين علّه يري عينيي قاتل صغيره فيقتص منه.
(69)
يتهامسون بينهم: الأرملة السوداء جاءت.
الأمر بسيط على أي حال. علمت منهم –دون قصد-في الليلة السابقة لزفافها بشأن خيانة صديقهم لها. ضحكت كثيرًا وتظاهرت بالصفح، سيّرت مراسم الزواج كأن شيئًا لم يكن. تزينت له كالحور، ذاقت منه وذاق منها. بعد أن خلد للنوم، مزقت أوتار عنقه بأسنانها، قطعت ذَكَره وحَشَت به فمه.
في اليوم التالي عثر عليه أصدقاؤه غارقًا في دمائه فلم يطلعوا أحدًا على ما حدث ودفنوه في صمت. فقط، حين يهم أحدهم بالزواج منها، يهرعون إليه ليصرفوه عنها. هذه امرأة تعشق وتذبح كآلهة الأوليمب. يرهبونها كالموت، هي تعرف هذا فتحرص على إلقاء القبلات ناحيتهم في طريقها للمتجر كل ليلة.
(70)
هذا الطاغية الذي سفك دماء قومه وهتك أعراضهم وشردهم وجرّعهم القهر كؤوسًا، مات ولم يقتص منه أحد. تماثيله منثورة في أنحاء المدينة، وقبره المرصع بالذهب قائم في الميدان. بعضهم كفر، بعض تشكك، بعضهم تساءل ببراءة الأطفال: ولكن، أين الله؟
سنوات، وضربت المدينة العاصفة، فاقتلعت –فيما اقتلعت-قبر الطاغية فتناثرت عظامه على قارعة الطريق. خرجوا بعد العاصفة يتفقدون الموجودات، هالهم ما رأوا فتسمّروا في مواضع أقدامهم. مرّ ثعلب صغير –لا أحد يعلم من أين أتي-فتبرّز على جمجمة الطاغية، ومضي في سبيله لا يلوي على شيء.
(71)
الصغير اليتيم لا يعوله أحد. ولا يملك إلا قيثارته الصغيرة، يعزف بها على قارعة الطريق فيجود عليه البعض بدراهم معدودات يبتاع بها عشاءه. مرت الليالي سراعًا على أهل المدينة، طوالًا على الصغير. اعتادوا صوت قيثارته فتسرّب من رؤوسهم، ونسوه فلم ينقدوه شيئًا حتى غلبه الجوع وأبت عليه نفسه السؤال، فمات على قارعة الطريق.
مات الطفل ودفن. لكن صوت قيثارته لم يكف ليلةً عن التردد في أنحاء المدينة ليذكر أهلها بجُرمهم.
(72)
أدار المقامر مجسّم الأرض ليخمن موضع وفاته. دارت الكرة طويلًا. أوقفها بسبابته. حين نزع إصبعه، ضحك. ضحك كثيرًا.
(73)
يسكنان الحارة العتيقة. نافذتها في مقابل نافذة غرفته، لا يفصلهما إلا ثلاثة أمتار لم يعبرها قط. يتحادثان من مسافة ثلاثة أمتار. يتبادلان قصائد الغرام من مسافة ثلاثة أمتار. يخططان لزواجهما من مسافة ثلاثة أمتار. يتشاكيان من مسافة ثلاثة أمتار. يتمازحان من مسافة ثلاثة أمتار.
حين ماتت، أحضر مواد البناء وأغلق النافذة تمامًا. لم يذهب لمأتمها، لا يزال يرهب الأمتار الثلاثة.
(74)
بين السماء والأرض، تلتقي قذيفتي المعسكرَيْن المتطاحنَيْن. تتصافحان سريعان، ثم تمضيان في سبيليهما لتكملا مهمتهما بنجاح.
(75)
سليم الطوية وساذج نوعًا، لم يأبه له أحد من أهل القرية. لم يشعر به أحد. حين مات فجأة، استيقظت القرية على عويل أيتامها وأراملها وشحاذيها.
(76)
كنا جلوسًا في بيته نرقبه وهو يصارع طفله الصغير، يرخي يديه ويطلق الصرخات ليوهم الصغير بالغَلَبة. حين انطلق الصغير إلى مرقده، التفت هو نحونا وقال: هكذا الموت، يوهمك بالحياة، يعميك بالخلود، يوحي إليك بالغَلَبة، حتى تمتلئ باللاشئ. ثم تدرك في النهاية أنك كنت قابعًا تحت جناحيه طوال الوقت.
(77)
جثة مطمورة تحت الثلج.
جثة مدفونة تحت التراب.
جثة مفقودة تحت الأنقاض.
جثة غارقة في قعر البحر.
جثة مغطاة بالوحول.
جثة ملقاة في العراء.
إلخ ..
إلخ ..
(78)
على مرأي من طفله، أطلق الجنود النار على الثائر.
حين هوي، ألقي الطفل لعبته، بصق الحلوى من فِيه ثم التقط قبعة والده ووضعها على رأسه.
(79)
حين جاء الموت ليقطف روح الصبي، وجده جالسًا يشاهد الرسوم المتحركة. انتاب الموت الفضول فجلس يشاهدها معه هو الآخر. حين رأي صورته التي نقشها الرسام (هيكل عظمي يلبس معطفًا أسود ويحمل منجلًا عظيمًا) ضحك كثيرًا حتى استلقي.
لم يلهه هذا عما جاء لأجله بالطبع. نزع روح الفتي، ثم اعتاد بعدها أن يعود هناك في أوقات فراغه (هل يفرغ الموت أبدًا ؟!) ليشاهد الرسوم المتحركة.
(80)
في شارع المدينة المسعور، تلوّي المتسول العجوز جوعًا، لم يأبه له أحد. سقط مغشيًا عليه، لم يأبه له أحد. مات، لم يأبه له أحد.
ثمّة شؤون أخري أكثر أهميةً بالطبع. على سبيل المثال: هذا الرجل تشاجر مع زوجته صباحًا. هذه المرأة سيفوتها موعدها مع مصفف شعرها. هذا الشاب صفعته صديقته على مرأي من الفتيات. هذا الثري خسر بعض الأموال في البورصة.
حين سقط لحم المتسول عن عظامه وانتفخ وملأت الهواء رائحته المنتنة، انتبه الجميع، جاءت البلدية فجرفت الجثة، ثم عاد الجميع لشؤونهم الهامة.
(81)
صفعته الحياة فرد لها الصاع صاعين. طحنته فلم ينطحن. ساجلته الحرب حتى أدمت هي يديها. حين أعياها احتالت عليه. نزعت عن عينيه الدهشة أثناء نومه. في الصباح، استيقظ بنظرات بلهاء. تسربت من جيبه علامات الاستفهام والتعجب. بهت واضمحل حتى تلاشي تمامًا.
(82)
على زجاج نافذة المقهى، تداخلت صورة الشاب الذي عزم على الانتحار مع صورة الشيخ الذي يجلس على المقعد المقابل ويسعي جاهدًا لنفض فكرة الموت من رأسه.
لم تتحمل النافذة هذه المفارقة فتحطمت.
(83)
أطفالنا يصادقون القذائف ويلهون معها. تثني القذيفة عمود الإنارة، فيعلقون فيه حبالهم ويصنعون أرجوحة. تهدم القذيفة منازلهم، فيلعبون فيها “الغميضة”. تترك القذيفة في موضع سقوطها حفرة موت عميقة، يملئونها بالماء ويسبحون فيها. تنثر القذيفة شظاياها على الطرقات، فيجمعونها ويزرعون فيها الورود.
(84)
تستعمر عقله فكرة الموت وتظلل عينيه، فلا يري إلا النقص والموت والخراب والتعفّن في الأشياء والأشخاص وجميع الموجودات.
يري موته شاخصًا أمام عينيه، فلا يقر له المقام بوطن، يرتحل بحقيبة سفر، وتابوت وكفن بداخله حنوطه من الكافور والعبر والصندل.
سرق اللصوص منه حقيبة سفره وحافظته في زقاق مظلم بأرض غريبة، فاضطر لبيع التابوت والكفن ليبتاع له طعامًا، قصد المتجر لكنه لم يبلغه أبدًا.
(85)
زوجته رحلت، يحيا هو وطفلته وأبيه في بيت منعزل قرب البحيرة. طفلته تحب جدها كثيرًا. في النهار يلعبان معًا، في الليل يقص عليها الأقاصيص.
تلفق من خيوط الصوف لحيةً وتلبسها كجدها.
تلبس القمصان الواسعة والعوينات الكبيرة كجدها.
تجلس عند البحيرة لتصطاد الأسماك وترقب المغيب كجدها.
تغضب سريعًا وترضي. توزع اللعنات والقبلات على الجميع كجدها.
في الصباح، سأم المرض لعبته مع جدها فسقط الأخير مغشيًا عليه فجأة. ظنته يمزح فحاكته واستلقت بجانبه.
عاد هو من عمله فدفن الاثنين.
(86)
فكرة حوار بليغ بين دمية رضيعة وشظايا قذيفة.
بين مقلاع وفوهة دبابة.
بين طائرة حرب ومدرسة أطفال.
الفكرة حاضرة. النص لم يكتب بعد. لن يكتب أبدًا. هذه أشياء لا يصفها إلا الوحي.
(87)
مرت الجنازة، فطأطأ الجميع رؤوسهم، وغشا الحزن وجوههم.
حدثت الزوجة نفسها: مات قبل أن يشتري لي القرط الذهبي.
حدث الابن نفسه: من سيبتاع لي السيارة الفارهة؟
حدث الصديق نفسه: هلك الملعون قبل أن يرد لي دينه.
حدث التاجر نفسه: فقدت عميلًا آخر.
ارتفع عويل الشياطين: مات قبل أن يكفر.
(88)
في صغره، لم يتعلم أي لعبة لا تعجبه، لا يهملها، لا يعطيها لغيره بل يحطمها.
حين كبر، لم تعجبه قواعد اللعبة الكبرى، فانتحر.
هو يستحق على أي حال، لم يقرأ شروط التعاقد جيدًا قبل أن يطأ أرض الحلبة.
(89)
مدرسة مقصوفة أثناء الحرب الأهلية. جدران مفتتة، دماء، أوراق، دماء، أقلام، دماء، حذاء طفلة، دماء، طاولة صغيرة، دماء، غبار، دماء، يد باردة ممتدة من تحت الأنقاض، متيبسة حول لوحة رسم، منقوش فيها علم الوطن. (**)
(90)
في ميدان المذبحة، كانت الدماء والدخان والدموع وآيات الرصاص منقوشة في كل شيء. لم يبق من أجواء العيد إلا لافتة مخطوط فيها: كل عام وأنتم بخير. (**)
(91)
على هذا الجانب من الأسلاك الشائكة توجد أم ثكلي.
على الجانب الآخر يوجد طفل باكٍ فقدته أمه في زحام الرصاص.
هذا الجندي يحمل بندقية في يده ومِكحلة في صدره. قطّع الأسلاك وعبر بالطفل إلى حيث أمه.
صباح اليوم التالي، أعدموه بالرصاص. (**)
(92)
قبيل الزفاف بأسبوع، جلس الزوجان في مقعدهما الخاص على عجلة الملاهي الدوارة الضخمة. العجلة تدور، وهما في الهواء يتضاحكان، يختلسان قبلات سريعة، يناقشان أمور الزواج. نظر من الأعلى لأضواء المدينة المتراقصة أمامه، ثم سألها عن لون فستان الزفاف الذي تود ارتدائه، لم تُجِب. حين التفت نحوها، لم تكن هناك. لم يجد إلا حزامًا ممزقًا.
(93)
المقعد العجوز في طرف الحديقة الكبيرة لا يجلس عليه إلا حبيبان يعرف صوتهما جيدًا. يلوذان به كل أصيل، يتوهمان مستقبلهما القادم، ما تخبئه لهما الحياة، يحكيان عن بلاد الله التي سيزورونها، موسيقاهما المفضلة، مشكلاتهما مع الآباء ضيقي الصدر، …. إلخ.
ساعة بالضبط يمضيانها هنا خلسةً كل يوم. في اليوم الذي ضرب فيه الإعصار المدينة، غادرا سريعًا. لم يعودا أبدًا.
(94)
في شمال الملهاة، أعد الثري وليمة مترفة لأصدقائه (هل هم أصدقاؤه فعلًا ؟!) من ذوي الأموال والبطون المنتفخة والمؤخرات المحشوة بالدهن. قهقهوا كثيرًا، أشعلوا السيجار الفاخر، تحدثوا عن مشاريعهم المشتركة. لم يقربوا الطعام. صباح اليوم التالي، كانت الوليمة بكاملها في صفائح القمامة.
في جنوب الملهاة، ذبحت الأم طفلها الأعمى وأطعمته بقية إخوته كي يفلتوا من براثن الموت بضعة أيام أخري.
(95)
لا شيء يسكن هذا الزقاق المظلم إلا دكان العجوز. ينام فيه ليلًا، ويتكسب منه نهارًا ببيع الحلوى للصغار. يضئ لهم الفانوس الذي يعمل بالزيت كي لا يتعثروا في الزقاق، يعبئ جيوبهم بالحلوى، ثم يغفو حتى موعد عودتهم. يبيع لهم الحلوى ثانيةً، يحضرون له الجرائد القديمة ليقرأها على ضوء الفانوس اليتيم، يعبر بهم الزقاق الموحل، ثم يعود لدكانه الصغير، ينتظرهم حتى صباح اليوم التالي.
العام الماضي، جاء عمال البلدية فأزالوا دكانه. لم يحتمل العجوز الأمر فقضي. لكن فانوسه ما زال هناك ليضيء لأطفال المدرسة طريقهم في الزقاق. لا أحد يعرف كيف لم ينطفئ بعد.
(96)
خرج السجين من حبسه الطويل في غرفة السجن المظلمة، إلا من شق في الجدار يري منه الطيور والشمس والفراشات.
حين عاد لبيته، خرق في جدار غرفة الغلال العلوية خرقًا. أغلق عليه بابه، ولم يخرج من هناك قط.
(97)
في المأوي تحت الأرض، كان أهل المدينة قاطبة يدفنون وجوههم في أيديهم ويدعون الله أن يصرف عنهم الموت لليلة واحدة فقط. كانت المدينة صامتة إلا من صافرات الإنذار وطائرات الحرب وأصوات القذائف.
لا، ثمّ صوت آخر. قطة تبحث عن وليدها الذي تسلل إلى المأوي مع القوم. أفلت الطفل من ذراعي أمه اللذين يطوقانه. حمل القط الصغير، خرق صمت الشارع الخالي، أطلق الصغير عند أمه. في طريق عودته للمأوي، شكرته القذائف على معروفه.
(98)
لا يصبر عن طفلته الوحيدة طرفة عين، هطلت كالغيث بعد عشرين عامًا من زواجه المجدب.
يلاعبها، يداعبها، يحتضنها، يقبلها، يدفن وجهه في صدرها، يقص عليها أخبار الحوريات، يتقاسم الحلوى معها، يهدهدها، تنام هي ويظل هو بجوار فراشه يتأملها.
اليوم، كان يلاعبها كالعادة، يلقيها نحو السماء ثم يمسك بها. تضحك هي فيقذفها مسافة أبعد. قذفها بعيدًا، ثم لمّا هم بالتقاطها انزلقت قدمه على الأرض المبتلة فسقط أرضًا. ثم سمع صوت عنقها.
(99)
في المدرسة، رسم اليتيم صورة أمه الراحلة على الأرض بالطبشور. ثم نام بجانبها.
(100)
على مكتبه جلس. أخرج الأوراق، عطّرها، ثم شرع في كتابة خطابه اليومي لمحبوبته التي لم يرها أحد، ولم يرها هو. زارت القذيفة بيته فهوي. من تحت الأنقاض، خرج كالعنقاء الجريحة. تحت الجدران المهدمة نقّب عن أوراقه وأقلامه. حين عثر عليها، انتحي جانبًا من القوم ليكمل خطابه.
(0)
الموتى يخرجون من قبورهم كل ليلة. على التل القريب يجلسون متلاصقين. يتأملون أضواء المدينة الصاخبة في صمت. يطلقون التنهدات. قرب الفجر، يعودون ثانيةً إلى مضاجعهم الأبدية. (**)


