الولي الـمُـــدلّل: حسان حسن سليم اليعقوبي (6): الجلال والجمال في حياة حسان:
الولي الـمُـــدلّل: حسان حسن سليم اليعقوبي (6): الجلال والجمال في حياة حسان: تأليف: إلياس بلكا.
ولد صاحبنا في مدينة يافا الفلسطينية في 17 ديسمبر 1943. وهي تقع على الساحل، حوالي 55 كيلومتر غرب القدس، وتشكل اليوم جزءً من بلدية "تل أبيب".ويافا من أقدم مدن فلسطين، وهي إحدى المدن المهمة في العالم القديم. أما في الفترة التي ولد فيها حسّان، فقد كان قضاؤها يُعدّ أكبر قضاء (أي منطقة إدراية) من حيث عدد السكان بفلسطين. خاصة مع غناه بالموارد والفلاحة ووجود الميناء.. لدرجة أنه يمكن اعتبار هذا الإقليم آنذاك الأكبر اقتصاديا بالبلد، ما جذب إليه هجرات متعددة من الداخل ومن الدول العربية والإسلامية المجاورة، فكثير من الأسر اليافية من هذا الخارج. كذلك كانت يافا بمثابة العاصمة الثقافية لفلسطين، وتركزت فيها أهم الصحف والمطابع ودور السينما والأندية.. الخ.كانت يافا -هذه المدينة الساحرة الملقبة بعروس البحر- جوهرة حقيقية في المشرق العربي.. لكن للأسف أن هذه المدينة العربية في معظمها وقعتْ ضحية عصابات الهاغانا الصهيونية، فاحتلتها في 26 أبريل من عام نكبة 1948، وقامت بتهجير السكان في هجمة أطلقوا عليها "عملية درور".. فتفرّق أهل يافا في العالم لدرجة أنهم يشكلون الآن حوالي 15% من الشتات الفلسطيني.كان من هؤلاء أسرة حسان، التي نزحتْ إلى الأردن، واستقرّت به في مخيمات اللاجئين.. هنا نشأ الصغير حسان وتعلّـم، وكان من لطف الله تعالى به وبعائلته أن رزقها -من حيث لا تحتسب- كفايـَتها من أمور المعيشة.. وكان ذلك من أُولى بركات حسان في محيطه، إذ -كما سنرى- حيثما نزل صاحبنا أو عاش عمّت البركةُ المكانَ والزمان، فهذا وأمثاله علامة مُبكرة على محبة الله لعبده حسان وعنايته به. ثم سافر حسان وقد أصبح فتى في سنّ المراهقة إلى مصر لإكمال دراسته حتى الثانوية العامة، ونزل بالمدينة العملاقة: القاهرة، حيث لا يعرف أحدا، لكن الله سبحانه سخّر له من التقاه في أحد شوارع العاصمة الكبيرة، فعرَف حاله ورقّ له، وعرض عليه المصريُّ الطيّب أن يؤويه عنده في بيته.. فاستقبله وخصّص له غرفة مستقلة وتكلف بجميع احتياجاته المعيشية والدراسية.. لم ينسَ حسان أبدا هذا الرجل الشهم ولا فضلَه عليه. من جهة أخرى لاحظ صاحب هذا البيت تحسّنا في ظروفه المادية والمعنوية، وفهِم أن ذلك بسبب عنايته بحسان، لذلك حتى بعد رحيل الفتى حافظ الرجل على غرفة حسان كما هي ولم يستعملها. ثم بعد سنوات زار حسان المنزلَ، فوجده في مِلك رجل آخر، لكن غرفته أيضا بقيتْ على حالها وبما تركه فيها.. كل ذلك لحُسن اعتقادهم في حسان، وهو اعتقاد مبني على تجارب مباشرة لهم.ثم بدا لحسّان وقد أنهى دراسته بالقاهرة أن يكملها في بلد آخر. وغالب ظني -والله أعلم- أنه كان بإمكانه مواصلة دراسته بالجامعات المصرية، لكنه اختار أن يأتي إلى المغرب، ربما لأن من طبعه العميق التّرحال والتجوال، وربما لحنينه إلى أصوله المغربية العميقة.. وقبل هذا وذاك جاء هنا لأمر أراده الله سبحانه له.فتكرّرت القصة نفسها: نزل صاحبنا بالمغرب، وذهب إلى العاصمة، لا يعرفه أحدٌ ولا يعرف أحدا.. فجلس يتفرّج على مجموعة من الشباب يلعبون كرة القدم، وكان حسان يحب هذه اللعبة ويمارسها، بل يجيدها، فدخل بينهم، فاستمتع وأمتع، وأُعجِب به أحد الشباب في فريق اللاعبين، فتقرّبَ منه، وعرف أحواله، وتعاطف معه جدّا. لم يكن هذا الشاب غير ابن باشا مدينة سلا وضواحيها، وما أدراك ما الباشا في تلك الفترة من تاريخ المغرب، فهو رجل السلطة الأول في دائرته الترابية. تمسّك الشاب بحسان وعرض عليه المجيء معه، وكلّم أباه في الموضوع.. فتقبـّله، وأصبح حسان يذهب ويجيء في سيارة الباشا مع ابنه.. قد كفاه الله همّه كلـّه.تقدّم الشاب إلى جامعة الرباط للدراسة، فحوّلته لفرعها الجديد بفاس، فولَج إلى ما أصبح لاحقا يشكل: كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة محمد بن عبد الله، بظهر المهراز بفاس، ثاني أهم جامعات المغرب. وحظي بمنحة وبالسكن في الحي الجامعي رقم 1 بالمنطقة نفسها، أعني ظهر المهراز.ثم حصل الشاب حسان على الإجازة في القانون العام من فاس، فطار إلى أمريكا حيث التحق بجامعة بولدر، بولاية كولورادو بالوسط الغربي للولايات المتحدة. ومرة أخرى يسّر الله أموره، فاستطاع حسان أن ينهي دراساته العليا بهذه الجامعة، وأن يناقش في رحابها الدكتوراه في العلوم السياسية سنة 1973، وكان موضوعها عن تحوّلات الوعي الفلسطيني. ودشّن الدكتور حسان مرحلة جديدة في حياته، فاشتغل أستاذا بجامعة بولدر نفسها، ثم لاحقا مارس التدريس بجامعات أمريكية عدة، وبفنلندا، وبجامعة اليرموك بالأردن..كانت هذه الفترة خصبة جدا في حياة حسان، فقد درَس ثم درّس وحاضر وألّف كثيرا من الكتب، كما رأينا، وتزوّج وأسس أسرة.. لكنها فترة تميّزت أيضا بانقلاب كبير في حياته، لعلّه الأكبر. فقد بدا له أن يزور المدن والبلدان التي عاش بها، وأن يصحبه في هذه الجولة زوجته "د.قمر".. فذهب لمصر والأردن وغيرهما.. وحين جاء إلى المغرب قصد لزيارة فاس، وأراد أن يدخل إلى السكن الجامعي بظهر المهراز، تماما كما كان الأمر حين كان طالبا. لكن إدارة الحي رفضوا وشرحوا له أن اللوائح التنظيمية للسكن الجامعي لا تسمح بذلك، لكن صاحبنا رحمه الله ركِب رأسه وأبى أن يفهم وأن يعود أدراجه، فلجأ الموظفون المكلفون للإداري المسؤول فكلموه، فخرج إليه وشرح له الموضوع بهدوء قائلا: لا نستطيع استقبالكما بسكن خاص بالطلاب، فأنت الآن لم تعد طالبا.. لكنني أرحب بك في بيتي الخاص وهو قريب من الحي الجامعي، بل سأكون سعيدا باستضافتك.كذلك كان، ولم يكن هذا الموظف غيرَ المرحوم محمد بنبراهيم الذي كتبتُ عنه هنا ثمانية مقالات، ورأينا أنه رضي الله عنه كان يقوم معظم الليل مُصليا ذاكرا متعبدا.. قال لي أ.بنبراهيم: قمتُ في الليلة الأولى ولم يحدث شيء، وفي الليلة الثانية وقف حسان وطلب أن يصلي معي، فقمنا الليل معاً.. ثم طلب مني الأوراد والأذكار.. في تلك الليالي الجميلة من عام 1973.. انقلب القلبُ، وتحقّق الجذب، وتحوّل الأمر، وتنوّر الباطن.. فدخل حسان في طريق السلوك إلى الله.. طريقٌ مَن دَخله صادقا لا يلتفتُ إلى الوراء أبدا.وقد جمعتْ بين الرجلين صداقةٌ عميقة وأخوة حقيقية استمرتْ ثلاثين سنة، وهما قرينان لهما العمر نفسه، فكان حسان كثير الزيارة لصاحبه، حتى قرّر ذات يوم أن يُصفي شؤونه بأمريكا، وأن يتفرّغ لربّه، وأصرّ أن يكون ذلك بفاس حصرا.. فوصل إلى هذه المدينة الإدريسية، المدينة الاستثنائية التي أسسّها حفيد الرسول الأكرم، يوم الثلاثاء 21 ديسمبر 2004، ونزل كعادته ببيت صديقه أ.بنبراهيم.. لكن الله سبحانه كان قد قدّر تقديرا آخر.. أحبّ لقاء عبده حسان، فأخذه إليه في الليلة نفسها، وعرجتْ روحه الطاهرة إلى السماء حوالي فجر الأربعاء.. ولمّا تمض إلا سُويعات قليلة على مجيئه لفاس.. كذلك كان.. جهّزوا جنازته وغسّلوه في الدار الطيبة نفسها التي تعرّف فيها على الأستاذ بنبراهيم، وفيها أخذ طريق الذكر والسلوك.. مِنها بدأ قبل ثلاثين سنة وإليها عاد، ومنها خرج محمولا على الأكتاف ليُدفن إلى جوار الولي الغريب الفريد، آية من آيات الله وعجيبة من عجائب الأزمان والدهور: عبد العزيز الدباغ. وكان حسّان يحبه كثيرا ويُعجب أيّما إعجاب بكتابه الباهر المُبهر: الإبريز. فقدّر الله أن يُدفن إلى جواره، في مطرح الجِلـّة (أي الأجلاّء) خارج باب الفتوح، أحد أكبر المقابر في العالم التي ضمّت عددا هائلا من العلماء والفقهاء والأمراء والأولياء والصلحاء، بعضهم معروف، وأكثرهم مجهول أو قد اندَرس قبرُه.. كما قدّر سبحانه أن يُدفن بعده بسنين صديقُه بنبراهيم في المقبرة نفسها.تلك شذراتٌ من حياة رجلٍ طبعها الجمالُ أكثر من الجلال.. كانت حياته عبارة عن رحلة.. رحلة طويلة في الأرض فيها تنقّل مستمر.. لكنها انتهتْ برحلة أخرى إلى السماء.. كذلك بدأت حياة حسان بالإسراء وانتهت بالمعراج.. من فاس بدأتْ، وإلى فاس عادتْ.. في صحبة وليّها الكبير بنبراهيم.. رحمهما الله أجمل رحمة.يتبع..
صورة لجامعة بولدر، ووراءها جبال روكي.
Published on May 05, 2017 08:28
No comments have been added yet.
إلياس بلكا's Blog
- إلياس بلكا's profile
- 50 followers
إلياس بلكا isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

