الولي الفقير (2): مسعود بن حدّو أكروح. الولاية والصفاء والشهادة. تأليف: إلياس بلكا.

الولي الفقير (2): مسعود بن حدّو أكروح. الولاية والصفاء والشهادة. تأليف: إلياس بلكا.

(صورة المرحوم محند الابن البكر للحاج مسعود، وعميد آل أكروح في حياته)
نواصل حديثنا عن الوليّ مسعود بن حدو بن شعيب بن أكروح. واسم "مسعود" منتشر بقبيلة بني ورياغل، خاصة في أوساط أهل الصلاح والولاية. في تلك الفترة كان بالقبيلة 80 مسجدا، و31 ضريحا، و9 زوايا. منها زاوية الحاج مسعود الكموني، وزاوية سيدي يعقوب بن عبد الكريم بقرية ازاكارين اسناسو، وهي القرية المقابلة لآيت فارس.1-  زاوية آيت فارس:  ثم في نهاية القرن 19، ظهرت زاوية أيت فارس فنشطت وورثتْ الزوايا الأخرى التي اندثرت أو تراجعت. حتى غدتْ هذه الزاوية بمثابة المَعلم الأهم لمنطقة بني بوعياش ومركزها.وأهم شخصيتين فيها هما: الحاج مسعود صاحبنا، وصديقه الحميم الحاج سي موحند ابن سي علي، وسي علي هو صاحب الضريح الملاصق للمسجد القديم لأيت فارس. وقد توفي سي موحند في يناير 1959، وكان آخر مقدّم للزاوية.كانت زاوية آيث فارس مركزا مهما لسكان الناحية، يتعبدون بها ويتعلمون في رحابها ويأكلون من طعامها ويبيتون فيها إن سافروا، ويهربون إليها إن خافوا آذى أو عدوا، ويحتكمون إلى شيوخها إذا اختلفوا وتنازعوا. وهي تنتمي للطريقة الدرقاوية التي أسسها الشيخ محمد العربي الدرقاوي، من قبيلة بني زروال  الغمارية والملاصقة من جهة الجنوب الغربي ببني ورياغل، وبها توفي سنة 1825م. شيخ مسعود:  وغالب ظني أن مسعود وإخوانه كانوا يقتدون بالشيخ محمد بن أحمد العربي العلوي الدرقاوي الذي كان من صالحي الأولياء، وقد تولّى إمامة المسجد الأعظم بصفرو لمدة 64 سنة، ولما توفي دُفن بزاويته باب المضيق (يسمى الآن باب ستي مسعودة). وربما الذي عرّف صاحبنا على الوليّ الصّفريوي هو الفقيه المتصوف محمد العزوزي الورياغلي، أكبر عالم بالمنطقة، ومُمهد نهضة الريف خاصة منذ 1909. رشى الإسبان من قتله غدرا. 2-  آل أكروح  والمقاومة:  وقد كان لآل أكروح  إسهام مميّز في مقاومة المعتدين على مناطقهم بالريف. من ذلك  مشاركتهم في هزيمة الثائر بوحمارة. فقد برز من  مدشرهم  إغميرن قائد عسكري هو أموح أمزيان. ثم ظهر الإسبان، وبدؤوا يشترون الذمم، وجنّدوا جماعة يجولون في الأسواق وبين الأهالي لشراء الذمم، حتى جاؤوا لسوق أحد المرابطين بوادي تيسر، فتصدّى لهم: شعيب بن حمو الطاعي البوعياشي، وعمر بن حمادي من آل محند ايحيا، والسيد امحند أكروح.. واستنفروا الناس، فقضوا على حزب إسبانيا بالقبيلة. استشهاد والد مسعود:  لكن الشهيد البارز لآل أكروح هو حدو بنشعيب، وهو والد صاحبنا. ويغلب على ظني -والله أعلم-  أن حدّو والد مسعود شارك في حصار قلعة "إغريبن" وبها استُشهد. وكان الإسبان قد تحصنوا بها، وهي تقع بين أنوال وأمْزاوْرُو حيث مركز قيادة الخطابي. فحاصرها المجاهدون، ودارتْ معركة قاسية لمدة أربعة أيام استـُشهد فيها بعض أبطال بني ورياغل أمثال: محمد بن الحاج سي علي أوبارو، عبد الكريم بن الحاج بودرة، محمد بن السي أحمد الأجديري، الحاج حموش، السيد محمد بن سي شعيب، دحمان بن الحاج محمد بن عياد، ومسعود التافراوطي البوعياشي ومحمد أغدان.. لم يمتْ والد مسعود في المعركة مباشرة، لكنه جُرح جروحا بليغة، ويظهر أنه نُقل إلى أنوال، وبها أسلم الروح رحمه الله. وكان الذي نقل وصيته إلى ابنه مسعود هو السيد أشهبار، كما تولّى دفنه في ضريح هناك. وقد جرى هذا كله في الأسبوع الثالث من يونيو 1921.ويا لعجائب الأقدار فهذه القرية -أنوال-  التي دفن بها  ليست سوى قريتي الأصلية.. وكان جدّي أحمد حمو من المجاهدين في معاركها رفقة الأمير الخطابي.أما المقاوم الآخر الذي قاتل مع ابن عبد الكريم، فهو الأخ الشقيق لمسعود، والابن الآخر للشهيد حدّو، واسمه: أَوْسَبعي، وكان أحد القادة الذين يعتمد عليهم الخطابي، ومنصبه في عُرف الناس آنذاك هو: الباشا، أما رسميا فيُسمّى: القائد. وكان من صناديد المجاهدين، رحمه الله. الهجرة إلى فاس:  ثم دارت الدوائر، وانهزم الأمير الخطابي رحمه الله، ونزلت القوات الإسبانية الضخمة بنواحي أجدير كما سيطروا على بعض الجبال المجاورة.. فأذن الخطابي لقبيلته بالبحث عن ملاجئ، فغادر الكثيرون من بني ورياغل دورَهم وقراهم.كذلك جمع الشيخ مسعود أهلَه، وأحصى ماله الذي جعله في قُلتَين، وبعض الدواب، ونزل إلى جهة فاس، وكان يعرف الطريق جيدا حيث كان يذهب لزيارة زاويته وشيخه. وأنزل رَحله بالضبط في الجبل المقابل لحمّة مولاي يعقوب، والذي عليه الآن شعار (الله-الوطن-الملك).. ومكث هناك بين 3و4 أشهر.. حتى جاء الخبر أن الإسبان قرّروا سلوك سياسة جديدة مع الأهالي، فرجع بأسرته إلى قرية إغميرن.3-  التقي النقي:  الصفاء: هذه هي الكلمة المفتاح لفهم شخصية مسعود.. بل الصفاء –أو القلب السليم- هو روح التصوّف، وسبب الولاية..كان مسعود شخصية عجيبة واستثنائية في زمنه القاسي الذي انتشرت فيه الفوضى والصراعات في كل اتجاه. فكان الذي تميّز به وفاقَ به الناس في بيئته هو الصفاء الباطني، لم يكن يحسِد أو يغضب أو يحقد، بل كان مسامحا صبورا يكظم غيظه ويُحسن إلى من أساء إليه. فقد كان -خاصة إذا استحضرنا الزمان والمكان وخصوصيتهما-  مَلَـكا أكثر منه بشرا.. كان كريما ينفق بسخاء، حتى في أزمان الشدّة والمسغبة. وكثيرا ما وضع أهلـُه الطعام لأنفسهم، فيجلسون للغذاء، ويسمع مسعود قراءة القرآن أو الأوراد من الزاوية، وهي قريبة نسبيا من منزله، فيأمر برفع الطعام كله وإرساله للزاوية، ولا يترك منه شيئا لأهل بيته وصغاره.أيضا كان مسعود شخصا رحيما رقيقَ الشعور مرهف الحسّ، لدرجة أنه لم ينهر امرأة قط. وأحيانا كان يلاطف أبناءه فيصطاد لهم العصافير بعد الفجر. وكانت في مسعود خصلة جميلة، هي الرفق بالغريب الذي يلجأ للزاوية أو للقرية. فقد تقطعت السبل بقوم أجانب عن إغميرن وآيت فارس، فساعدهم وأعطاهم أرضا، وربما صاهرهم. وربّى آخرين حتى كبروا وتخرّجوا.وكان محبوبا عند جميع الناس، لا يعاديه أحدٌ. لذا كان الجماعة إذا قرّروا الاجتماع لا يثقون في غير مسعود، فيتركون أسلحتهم وديعةً عنده ببيته حتى ينتهي الاجتماع.. وكان مسعود من العابدين، يقوم الليل دائما قبل السَّحَر. وفي رمضان يعتكف الشهر  كاملا، وكان من الذاكرين الله كثيرا، لا تفارقه السّبحة أبدا، ويضعها أحيانا حول عنقه، حتى كانتْ شهرتُه في الوثائق العدلية: الفقير مسعود.وكثيرا ما يُرى وقد أرخى القبَّ على رأسه، فيعتقد الناس أنه نائم، ولا يعرفون أن من عادة بعض الأولياء مِن قديم تغطيةُ وجوههم لإخفاء ذِكرهم لله عن الناس.وكان مُجاب الدعوة، لاحظ يوما أن ابنه البكر "امحند" قليل النشاط والعمل، فناداه ودعا له بأن يعيش أحسن عيش بلا تعب. وكذلك كان، أحصى أبناؤه الأيام التي اشتغل فيها بكدّ يده طيلة حياته، وهو الذي عاش ثمانين سنة، فوجدوها أقلّ من سنتين. ومع ذلك عاش ملِكا لا يُعوزه شيء.  وكان زاهدا، ولم يكن حريصا على أملاكه ودنياه، وازداد في آخر عمره زهدُه في كل ذلك، فسلـّم إدارة فلاحته وأرضه لبعض أهل بيته. رحلته إلى الحج:  وفي شهر نوفمبر من عام 1938 حج مسعود، وركب سفينة "ماركيس دي كومياس" من مدينة مليلية، وكانت أول باخرة إسبانية تنقل حجاج الريف والشمال عموما، مع المسافرين العاديين، فتنطلق من ميناء سبتة، فمليلية، فطرابلس، فبنغازي، فبور سعيد، فالسويس، وأخيرا جدّة. ويا سبحان الله، فقد كان بهذه السفينة نفسها قاضيان من أسرتي: عمرو أتراري، وهو جدّي من جهة الأم، ومحمد العوفي، خال أمّي.  وأتصوّر أنه نشأت صداقة بين مسعود وجدّي عمرو، مع طول الرحلة إلى الحج ذهابا وإيابا، إذ يجمع بينهما تشابه وتقارب في الطبع، إذ كان جدّي من العلماء العُبّـاد. رحم الله الجميع.كانت وقفة عرفة يوم 29 يناير 1939، بعدها عاد مسعود إلى بلده، فدخل الزاوية أوّلا، واعتكف فيها أسبوعا، ثم ذهب لبيته، وقرّر رحمه الله أن يتفرّغ للذكر والعبادة، فترك كل شيء حتى توفي. وكان ذلك حوالي سنتين.4-  أسرته وذريته:  كان مسعود أكبر أبناء حدّو، ثم شقيقه أَوْسَبعي. كما كان له أخوان آخران غير شقيقين، هما: محمد الذي مات شابا في مقتبل العمر، ولم يُعقّب، ثم حمادي، وهو الأصغر. أما أبناؤه فهم السادة: محند (1918-1998)، ثم حدو (1926-2011)، ثم  أحمد (1937-1997)، ثم محمد (1933- لا يزال حيّا أطال الله عمره).ومن أعيان آل مسعود حاليا وفضلائهم: السادة: امحمد بن محند أكروح صاحب الوكالة ببني بوعياش، وهو عميد الأسرة حاليا. ومحمد بن حدّو رجل الأعمال الشهم بطنجة. والقاضي النزيه حسن بصفرو. والأستاذ سعيد ببلدية بني بوعياش.. وكان منهم المرحوم المناضل عبد الله بن عبد العزيز.وقد أكرم الله سبحانه عبده الصالح مسعوداً بكرامتين:الأولى كرامة مادية: فقد وهب الله لصاحبنا ذرية هي الأكبر في آل أكروح. يتجاوز عددها الآن في ظني الثلاثمائة.كما بارك الله في أملاك مسعود، رغم أنها لم تكن واسعة جدا، وعوّضه خيرا كثيرا عمّا أنفقه في حياته لوجهه الكريم. حتى إنني قدّرتُ أنّ ما ورثه أولاده الأربعة، مضافا إليه ما زادوه بجدّهم وعملهم، ثروةٌ تتجاوز 15 مليار سنيتم. لذلك يعيش معظم أحفاد مسعود عيشة مقبولة ومستورة.والثاني كرامة معنوية: فقد تأملتُ بعض أحوال آل مسعود، ممّن أعرف من الجيل الأول والثاني والثالث، فلاحظتُ أن معظمهم على خير، وأنهم ورثوا قسطا من سلامة صدر جدّهم. صحيح أنهم كسائر الناس، فيهم الصالح والطالح، لكنهم يتميّزون بأمرين: أنّ طيْش من طاش من شبابهم، أو "انحرافه"، بسيط ومحدود، أعني ليس فيهم "مجرمون"، كمافيا المخدرات أو مصّاصي دماء العُمّال والضعفاء.. ثم من شغلته الدنيا يرجع في النهاية لربّه ولابدّ.وكل هذا لأن صلاح الآباء ينفع الأبناء. قال العلماء: إن الله يحفظ بسبب صلاح العبد ولدَه، وولدِ ولده.. إلى سبعة أجيال، ويحفظ أيضا عشيرته وجيرانه الأقربين. كما يشفع فيهم في الآخرة. قال تعالى: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما، رحمة من ربك.) 5-  وفاته:  وكأن الله سبحانه أراد أن يكرم عبده الصالح بالشهادة، فأخرجه من خلوته، فحضر مسعود جنازةً التقط فيها المرض المُعدي: التهاب السحايا. وهو مرض شديد قاتل. فتوفي في أكتوبر 1941، رمضان 1360 هـ، عن 63 سنة، وهو العمر نفسه الذي توفي فيه الرسول عليه السلام وأبو بكر وعمر. ودُفن بالمقبرة الملاصقة للمسجد القديم لأيت فارس.ذلك أن الشهداء أقسام، فشهيد الحرب شهيد الدنيا والآخرة، وشهيد الوباء شهيدُ الآخرة، أي يكون له في الاَخرة ثواب الشهداء، وأما في الدنيا فيُغسل ويصَلى عليه.. ذكر العلماءُ هذا بناء على ما ورد من أحاديث، راجعها مثلا في رسالة السيوطي: "أبواب السعادة في أسباب الشهادة." رأى الشيخ الدرقاوي أن المولى إدريس الأزهر أعطاه ورقا، ففتحه فإذا فيه جواهر عديدة.. ومن تأويل هذه الرؤيا أن هذه الجواهر هم الأولياء الذين تخرّجوا من مدرسة الدرقاوي.كان مسعود إحدى هذه الجواهر والدُّرر التي لا تزال تشعّ بأنوارها في حياة ذريته.. ذلكم هو الحاج مسعود، الشهيد بن الشهيد: فخرُ آل أكروح وتاجُهم وزينتُهم في الدنيا والآخرة. رضي الله عنه وأرضاه.





 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 26, 2017 17:35
No comments have been added yet.


إلياس بلكا's Blog

إلياس بلكا
إلياس بلكا isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow إلياس بلكا's blog with rss.