لماذا الجواهري – ج١
[image error]
١) وطول مسيرة ملل
بصوت ستنتظر الحياة طويلا لتنجب له شبيهًا، ولربما لن تفعل كما لن أفعل لو كنت مكانها، يشدو بنبرة لم تستطع السنين خطف وهجها، ولا الحوادث أن تهز من قوتها، بل لقد ازدادت على الصعاب صلابة، ورقة لا تخفى بين ثنايا تلك الصلابة، كما أن من الحجارة لما تتفجر منه الأنهار؛ بهذا الصوت الفريد عانقت كلمات أبي فرات القلوب.
الصوت يمنح الكلمة بعدًا أعمق منها مكتوبة، على أن للأدب عمومًا وللشعر بشكل أخص القدرة على إحياء جامد الكلمات ولو كانت مكتوبة؛ ولدى شاعر العراق العظيم ملتقى البحرين. أجدني أساق لأكتب عنه، ولا أدري ما قد أكتب ولا لماذا أكتب عنه، ومع ذلك فحاشا قامته أن أتساءل وهو لكل قول أهلٌ.
لقد أسرى بي الأجلُ وطول مسيرة مللُ
وطول مسيرة من دون غايٍ مطمع خجلُ
ربما من هنا سأبدأ، وبلا حجة كذلك، فكل الفلك الدائر اكتمالا مبدأ.
يكمن التحدي الأكبر أمام الشاعر في اقتناص صورة واضحة ومركبة في ذات الوقت، تبلغ بالسامع مرفأ الشعور المراد، بالقدر الذي تختطب فيه عقله وتثير خياله ليولد لها معانٍ كثيرة، تجعله مرغما للعودة إلى البيت مرارًا، مادام البيت قادرًا على منحه ذات الشعور ولكن بصور مختلفة، هذه التركيبة المعقدة هي التي تعيد زائر القصيدة ليعود مرارا فلا يمل من تردادها. يمثل المعنى الدافع خلف الصورة بعدًا أول يستعين بالجملة لتمنح المدى التركيبي العميق، وتقدم نغمة الكلمات نفسها حاملة للشعور، حيث يطوعك الوزنُ، أوتطوعه.
تنزع الأوزان القصيرة إلى البساطة إلى حد السطحية أحيانًا، وتعد بهذا ضروبًا مطروقة للغناء المباشر وقصائد الأطفال، ويصعب تطويع مثل هذه البحور في الصور المركبة لقصرها، الأمر الذي يجعل تعميق هذه البحور أصعب بكثير، لتكون القصيدة التي ورد مطلعها سابقًا معجزة من حيث البناء. فالصور في الأبيات مرتبطة دون أن تخل بوحدة الفكرة في البيت الواحد، وهذا تحدٍ آخر، فالبيت إن لم تكتمل فيه الفكرة ليشكل وحدة بنائية مستقلة ضعف باعتماده على ما يليه، في جدلية وحدة البيت ووحدة القصيدة، حيث يتباين الإبداع في فروق تفصيلية، الأمر الذي يُرى جليًا في هذه القصيدة كذلك وخاصة في الإعادة المستأنفة بعد ختام البيت الأول، (وطول مسيرة مللُ) وكأنه يعيد فتح موضوع أغلقه على عجل، (وطول مسيرة من دون غايٍ)، والتي تبدو للوهلة الأولى مستقلة كفكرة، لكنها مع ذلك لا تنفصل بحال عن (الملل)، فطول المسيرة لا تكون مملة لطولها وحسب، بل لأن الخجل من اعتدام الغاية استدعاه، وهنا موضع التركيبية في الفكرة المستقلة المعتمدة في ذات الوقت، مستقلة في البيت الأول، إلا أن التفصيل في البيت الثاني أعوزها له من طرف خفي.
لم يتركك أبو فرات دون أن يكسر رتابة المسعى بالتفاتاته وإدهاشه، فما برح أن أقنعك بالملل حتى التفت:
على أني لأن ينهي غدٌ طول السرى .. وجلُ
لا وجلَ يستطيع الشاعر أن يبلّغه للمستمع أبلغ من هذه الالتفاتة ذاتها، إذ البيت في هذا المكان وجلٌ نسقي يعكس وجل طيّ المسيرة التي استطالها من قبل. اللغة هنا ملكت الجواهري مفاتيحها، حين رد على (أن) الزمان الذي ينهي، ب (أني) الوجلة. وفي (أن) ما ليس في (إن)، فالأخيرة تؤكد ما تحقق عيانًا، والأولى تحقق على وجلٍ، وفي مصدرية الإنهاء مجال بحث بحياله.
تماهـلَ خشيةً وونـىً وعُـقـبـى مـهـلِـــهِ عـجَـــلُ
لا يكف الوجل من الظهور في هذه القصيدة، من الذي يخشى هنا؟ أليس الزمان عجلٌ والشاعر وجلٌ من هذه العجلة؟ لماذا يخشى الزمن وما مدعاة خشيته؟
أشاعَ اليأسَ بي عُمُـرٌ وكـنــــتُ وكـلُّــــــهُ أمــــلُ
لقد ألبس الجواهري الزمنَ بردته، فصار يخشى لخشيته، ويأمل نيابة عنه، فقد كانَ، ولكن عمره كان كله أملٌ، وليس هوَ ! من هنا صار العمر هو وهو في موضع المراقب الواصف للحال وحسب، ليس ذلك فقد، لقد أدخلك الجواهري في الوجل، وأناب العمر عنه، وخرج من المعادلة مراقبًا وواصفًا حتى أعاد نفسه ب (يا أحبابي) أحبابه فيما بعد.
ألا هل ترجع الأحلام ما كحلت به المقلُ ؟
وعند هذا البيت سأقف وجوبًا، ليس لكي أقول شيئا بل لكي أصمت، وأجاوز مرورًا بسلاماته الباهرة.
ألا هــل قـاطـــعٌ يصلُ لـمـا عَـيَّـت بـه الـرُسُـــــلُ
قد يبدو هنا أن الشاعر هو القاطع الذي يشتاق الوصال، وصالٌ يقطع به طول المسيرة ليصل من تناهى من الأحباب، هذا وفقَ الملل من طول المسير، فمن هو القاطع من وجهة نظر الوجل من انتهاء المسير؟ ربما هم الأحباب، ولذلك كان القاطع مبهمًا فلا هو بالمخاطب الراحل، ولا المتكلم الباقي.
سـلامـاً أيُّـهـا الـثـاوونَ ، إنّــي مُـزمِــعٌ عَـجِــــلُ
سـلامـاً أيُّـهـا الخالـونَ ، إنَّ هـواكُــــمُ شُـغُــــلُ
كل بيت في هذه القصيدة ملتزم بالاستقلال والعوز كما هي الحال في مطلع القصيدة، كل بيت ملتزم بإثارة الوجل في مقابلة سابقه، بشكل سلس ظاهره، عميق تضاربه، وكذلك هي تحاياه الختامية:
سـلامـاً أيُّـهـا النَّدمـانَ ، إنّـي شـــاربٌ ثـمِـــــلُ
والشرب من العمر، وقد ثمل مللا، فاختفى الوجلُ.
سـلامـاً أيُّـهـا الأحبـابُ ، إنَّ مـحـبــــــةً أمـــلُ
لقد كان العمر أملًا، والمحبة الآن أملٌ، لكن أملٌ لأي شيء ؟ هي الأمل للقاء، ومازال الأمل في الأشياء من حوله، ليس فيه هو ولا له، وهل يخفى الإبداع في ذلك؟ وهل يجدر بي التنويه على (إنّ) هنا ؟
سـلامـاً كُـلُّـــهُ قُـبَــــــلُ كــأنَّ صـمـيـمَـهــا شُـعَـــلُ
بدأت دون أن أعلم ماذا سأكتب، وانتهيت ولازلت لا أعلم، لكنني متأكد بأنني سأعود بجزء ثانٍ لأتم ما ابتدأت هنا مع قصيدة ثانية، ومع عنصر الصوت الذي افتتحت به.


