ثلاث مقولات غير مسبوقة، عن علي عزت بيجوفيتش

]ثلاث مقولات غير مسبوقة، عن علي عزت بيجوفيتش
د. محمد باباعمي

إذا ما رسمت خطَّ حياتي من الميلاد إلى ما بعدَ الأشدِّ؛ فإني أقرِّر بلا تردُّد أنَّ مؤثرات كثيرة ساهمت في تشكيل "ما أنا عليه"، سواءً أكان إيجابيًّا أم سلبيًّا؛ مِن هذه المؤثرات ما هو برانيٌّ، ومنها ما هو جوانيٌّ:
فالبرَّاني من مثل الأسرة والشارع، والمدرسة والمجتمع، والسياق الدولي والأسفار...
أمَّا ما هو جوانيٌّ، فهو أكثر تعقيدا، وأبلغ أثراً؛ ويمكن التمثيل له بالتأمُّل والخلوة، ونبض قلبي، ومدارك عقلي، وتلاوتي المسترسلة، وقراءاتي الطويلة النفَس، وبعض نجاحاتي، وكثير من إخفاقاتي، وجزئيات عابرة في حياتي ثم أخذتْ حيزا كبيرا في "رؤيتي للعالم"، وتفاعلات قدَرية بين فكرة وواقعٍ، بين معنى وواقعةٍ، بين ما هو زمنيٌّ وما هو من خارج الزمن...
كلُّ ذلك، كان له الأثر المباشر وغير المباشر على "خطوي وخطاي"، على "ما قدَّمتُ" وعلى ما تركتُ من "أثر" (ونكتبُ ما قدَّموا وآثارهم)؛ وضمن هذا الخضم يمكن أن أشير بالإصبع إلى جملة من الأسماء والشخصيات التي ما فتئت تعذِّبني، إذ تراقبني بأفكارها عن ظهر الغيب، أو بحقيقة وجودها عن كثبٍ وهي شاهدةٌ؛ ولعلَّ ترجمة لحياتي بأسلوب سرديٍّ تاريخيٍّ سيكشف أسماءَ هؤلاء، وسيبين مواطن التأثر بريشة فنان أو بمجهر عالم؛ لعلَّ الله يكتب لي هذا العمل في قابل الأيام.
و"نموذج الرشد" في كلياته وجزئياته، في حركته وسكونه، فيما أعلَن عنه، وفيما لم يبُح به؛ في الذي اكتمل منه، وفي الذي لم يكتمل... نموذج الرشد هو موشور (أو سكانير) كاشفٌ للظاهر والـمُخبَّا، إذا ما اعتُبر التأريخ للنموذج عنوانا للتأريخ للذات مفردةً، إذ لا فصل بين الموضوعي والذاتي إلاَّ في عالم الخيال؛ ومن ثم تكون "معالم النموذج" و"روافد النموذج"، و"مصادر النموذج" هي المنابع التي أثرت فيَّ مفردا، وغيرت فينا جَمعًا.
وعلي عزت بيجوفيتش يقف على رأس جبل شاهقٍ، وهو من أبرز المعالم المعرفية لي في السنوات العشرين الماضية؛ تماما كما هو الحال مع مالك بن نبي؛ فهذان يتبادلان المرتبة الأولى في منظومتي المعرفية، أو لعلَّ ابن نبي يهيمن عليَّ أكثر في البحث الحضاري العلمي، ثم يأتي علي عزت في إثره وبعده زمنا وعمق أثرٍ.
ومع ذلك، فقد كنت أعتقد أني قرأت علي عزت كاملاً، وأني طالعته مستوعِبا معتصِرا؛ وكنت أظنَّ أنَّ بعضا ممن حولي من الباحثين فعلوا نفس الشيء؛ غير أني اليومَ أعدِّل الحكم، وأطرح هذه المقولات الثلاث عن فكر الرجل، ثم أتركها للجدل والحوار:
أولا- إذا كان "الإسلام بين والغرب" هو أبرز كتابٍ لعلي عزت، وإذا كان هو المصدر الرسميُّ لفكره وفلسفته؛ ولقد ارتبط به اسمًا وشهرةً؛ فإنَّ حقيقة علي عزت لا تُعرفُ إلا من خلال كتابٍ آخر، قد كان في نظرنا إلى أمدٍ قريب كتابًا ثانويًّا؛ ذلك أنه فيما كنَّا نتصوَّر، لا يحوي إلاَّ "منقولات" و"مقتطفات"، من مصادر قرأها في السجن؛ مع بعض "التعليقات والنظرات" اليسيرة التي لا تؤسِّس نسقا معرفيا متكاملا؛ هذه "النصوص القصيرة" دوَّنها علي عزت على دفاتر، ثم هربت من السجن، وطبعت بعد ذلك في كتابٍ...
غير أني تيقنت اليوم أنَّ ما قرأتُ من فكر علي عزت من خلال "هروبي إلى الحرية" كان على عجلٍ، ولم يستوعب عمقَ فلسفته، وأنَّ الحكم كان خاطئًا، وأنَّ كلَّ فقرة، وكلَّ جملة، وكلَّ كلمة؛ حتى ولو كانت منقولةً من مصدر؛ هي قطعةٌ من رُوحه، وهي نفخة من رَوحه، وهي عنوان لما كان يدور في عقله وخلده؛ ثم إنَّ حقيقة تعليقاته تفوق بكثير منقولاته، لا حجمًا وعددا فحسب، لكن قيمة وأهمية ودقَّة.
ولمن أراد أن يعرف بيجوفيتش فعليه بـالهروب إلى "هروبي إلى الحرية"، لكن شريطة أن يلتزم الصبر والأناة، وأن لا يتعجل الحكم، وأن يقدم الفهم على التحليل، وأن يزن كلَّ كلمة بميزان الإدراك الواعي؛ وإلاَّ فإنه قد يخرج منه ببعض النتف والحكم والفوائد، وهي لا تغنيه من فقر ولا تسمنه من جوع.
ثانيا- أنَّ علي عزت قرأ للكثير، ولم يفرق بين الشرق والغرب، بل إنَّ قراءاته الغربية أوسع مدى من قراءاته الشرقية؛ ومن ثم فهو فيلسوف أوروبي غربي مسلم، كتب عن الغرب والشرق؛ مستوعبا الأول قارئا للثاني؛ فهو لولا تعمقه في القرآن الكريم، قليلُ الغوص فيما سواه من سنة، وتاريخ إسلامي، وفقه، وعقيدة؛ وهذه الخاصية هي ميزة إيجابية وسلبية في آن واحد؛ ومن إيجابياتها أنها أمدَّت أعماله صفة عالمية (بالمفهوم الغربي للعالم)، وخلعت عنها الصفة المحلية (لغة، وثقافة، وجغرافية، وإدراكا).
ومن أبرز من ترك بصماته واضحة في فكره الأديبُ الألماني العصاميُّ "هيرمان هيسه"؛ ولقد كان هذا الاسم غائبا عن أدبياتي مُفردا، وعن أدبيات النموذج مجتمعة؛ غير أني بعد قراءة بعض أعماله، وقراءة ما صرح به علي عزت، في كتابه "هروبي إلى الحرية"، أجزم أنه ذهب بعيدا في صياغة نظرية "الطريق الثالث"، أو ما سماه "الطريق الوسط" أحيانا؛ بل إنَّ علي عزت يقول بصراحة، وأرجو تأمل العبارة وقراءتها بأناة، يقول:
--------------
تتمة المقولة الثانية، والمقولة الثالثة سوف تُنشر في مقال كامل بحول الله تعالى
هروبي إلى الحرية
‫الإسلام بين الشرق والغرب‬
لعبة الكريات الزجاجية
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 27, 2018 03:30 Tags: بيجوفيتش, محمد-باباعمي, هروبي-إلى-الحرية
No comments have been added yet.