محمد باباعمي's Blog

January 21, 2020

شرارةُ الإيمان: الجزائر وقصة إسلام مراد هوفمان (مقالة بمناسبة تخرج دفعة مراد هوفمان في معهد المناهج):

مراد هوفمان
تعود بنا الذكرى إلى عام 1951م وبالذات إلى المسيسيببي، حيث كان الطالب الألماني البافاري "ويلفرد هوفمان" يزاول دراسته في جامعة "هارفارد"، وكان يومها مُدمِنا على الكحولِ، فتسبَّب ذلك في تعرُّضه إلى حادثِ مرورٍ نجا منه بأعجوبة، ويومها قال له الطبيب الجرَّاح، بعد إجراء عملية جراحية في ذقنه وفخذه: "في ظل الظروف العادية، لا أحد ينجو من حادث من هذا القبيل؛ ولكنَّ الله يخبِّئ لك شيئا مميَّزا في المستقبل، يا صديقي".

وكان يترقَّب هذا الأمر المميَّز بشغفٍ، ولا يعرفُ طبيعته، ولا متى سيلقاه، ولا أين؛ وبما أنه كان كاثوليكيًّا، فإنه آمن بإمكان مجيئه على قدَرٍ.

ثم في عام 1961م عيِّن ملحقًا في السفارة الألمانية بالجزائر، التي كانت يومها مستعمَرة فرنسية، ولقد كان شاهِدَ عيانٍ على الحرب التحريرية، وبخاصَّة مجازر "الجيش الفرنسي"، ثم "المنظمة السرية" و"الأقدام السود"، التي كانت تقتل كلَّ يوم جزائريين عزَّلا، شبَابا وشيَّابا، رجالاً ونساءً وأطفالاً؛ لا لشيء، إلاَّ لمجرَّد أنهم "مسلمون" وأنهم "جزائريون"؛ وقد كان منظرُ الجثت التي تسَّاقط أمامَ ناظره، وهو يراها من شُرفة بيته ليلاً، كان لها الأثرُ الكبيرُ عليه؛ ولقد صرَّح أنه تألَّم لذلك، وتعجَّب من رباطة جأش أصحابها؛ فقال في "مذكراته":

"لقد شهدتُ صبرَ الشعب الجزائريِّ وصمودَه في مواجهة المعاناة الشديدةِ، وانضباطَهم العظيم خلال شهر رمضان، وثقتهم في النصر؛ فضلا عن إنسانيتهم، بالرغم من بؤسهم" وبالرغم مما ينالهم من ظلمٍ، جراء الاستعمار وأذنابه.

ولم يتوقف الدبلوماسي "هوفمان" من التفكير في سرِّ هذا الصبر الذي يجمّل الجزائريين، وهم يعانون من ويلات الاستعمار الفرنسيِّ، فعبَّر عن ذلك بقوله:

"وطوال هذه الفترة التي ظللتُ فيها مسلَّحا دائما بمسدَّسي الوالتر ب.ك. من عيار 7.65 ملليمتر الجاهز للإطلاق؛ بحثتُ عن ذلك السرّ الذي مكَّن هؤلاء الجزائريين الملتزمين من احتمال كلِّ هذا الاحتقار، وسوءِ المعاملة والعقاب. وأخيرا وجدتُ مفتاح هذا وأنا أعودُ لقراءة الآية 153 من سورة البقرة، التي تقول: "يا أيها الذين آمنوا، استعينوا بالصبر والصلاة، إنَّ الله مع الصابرين".

ومما آلمه أشدَّ الألم في تلك الحقبةِ، أنه كلِّف بحمل صناديق "الويسكي" للعمَّال الألمان في المناطق البترولية جنوب الجزائر، وهو يومَها موظَّفٌ في السفارة الألمانية بالعاصمة، فانتقل بالطائرة إلى الصحراء، وحين وصلَها، راعَه وحيَّره الفرقُ الشاسع في الحالة النفسية، بين "الجنود المسلمين الجزائريين" و"الموظَّفين الألمان"؛ وكتب عن تلك الحادثة، وكانت الأسئلة الوجودية الكونية تدفعه دفعًا للبحث عن الحقيقة:
"لم أملك إلاَّ التفكيرَ في المصير المؤسف للجنود الجزائريين في القوات الفرنسية، الذين كانوا يحرُسون هذا المعسكَر، وقد وقفوا هادئين متمالكين لرُشدهم، ومستغرقين في تأمُّلاتهم. كانت ثقتهم تنبعُ من إيمانهم، ومن إيمانهم فقط بالإسلام. أمَّا العمَّال الألمان فقد كانوا بحاجة إلى الكحول لرفع معنوياتهم. وهكذا كانت الكحول من أجل ألمانيا".

وكأنَّ منطق العبارة يلزمنا أن نضيف: "ثم هكذا كان الإسلام والإيمان من أجلِ الجزائر".
بعد عقدين من مرور هذه الحوادث، التي أثرت في العالم الألماني، وبعد أن تقلَّب في مناصب سياسية عالمية، ومَنح الوقت الكافي لقراءة الكتب والمصادر الإسلامية، وفي تتبع آثار الفنّ الإسلامي؛ وبالذات في عام 1980م، كتب "هوفمان" تحت عنوان: "لم أملك إلاَّ أن أكون مسلمًا" فقال:

"وهكذا أدركتُ، وقد هزَّتني الحقيقةُ، أنني قد أصبحتُ في خطوةٍ وراء الأخرى، بالرغم مني، ودون أن أكون واعيًا بذلك، مسلمًا بمشاعري وفكري. ولم تبق سوى خطوةٌ واحدةٌ أخيرةٌ، وهي أن أعلِن إسلامي رسميًّا".

وفي الخامس والعشرين من سبتمبر 1980م، بمدينة كولونيا، أعلن "ويلفرد هوفمان" إسلامه ثم سجَّل هذه الكلمات التاريخية المؤثّرة في يومياته:

"نطقتُ بالشهادتين في المركز الإسلامي الألماني بكولونيا:

"لا إله إلا الله، محمد رسول الله، واخترتُ لنفسي من بين الأسماء الإسلامية اسم "مراد فريد"؛ وأصبحتُ منذ اليوم مسلمًا، وهكذا بلغتُ مُرادي".

ثم هكذا بقي وفيًّا لإسلامه وللحقيقة التي هداه الله إليها، إلى أن لقي ربَّه، راضيًا مرضيًّا.
صرَّح مراد "هوفمان" في مراسلة خاصَّة للدكتور طه كوزي، مؤرَّخة بـ 2014م؛ والتي نشرناها في كتابنا المشترك "من الكمون إلى الفعل الحضاري"، أنَّ الفضل للجزائر في إسلامه، فقال: "إن كان للجزائر من فضلٍ، فهي السببُ الرئيس في اعتناقي الإسلام".

وفي كتاب "الرحلة إلى مكة" يورد "هوفمان" قصَّته مع "سائق طاكسي" (سيارة أجرة)، وهو الذي كان السببَ الفعليَّ المباشرَ لإسلامه، فيقول:

"بدأت امرأتي تنزف بعد منتصف الليل، ولم يكن باستطاعة سيارة الإسعاف أن تحضُر إلينا قبل الساعة السادسة صباحا"... ثم أخذنا سيارة أجرةٍ، في الصباح الباكر، وكان السائق شابًا جزائريا، وفي الطرق "كانت زوجتي تعتقد أنها ستفقد وعيها، ولذلك، وتحسُّبا للطوارئ، راحت تخبرني أنَّ فصيلة دمها هي (O) ذات (RH) سالبٍ. وكان السائق الجزائريُّ يسمع حديثَها، فعرض أن يتبرَّع لها ببعضٍ من دمه الذي هو من فصيلة دمها نفسِه".

ثم علَّق "هوفمان" متعجبا، حائرًا من هذا التصرُّف الإنساني الذي لا تفسِّره المصلحةُ، ولا المنظومات الفلسفية الشرقية ولا الغربية؛ فقال:

"ها هو ذا العربي المسلم يتبرَّع بدمه، في أتون الحربِ، ليُنقذ أجنبيةً على غير دينه".

ثم، واصل الحديث، فقال: "لكي أعرف كيفَ يفكّر ويتصرَّف هؤلاء السكَّان الأصليون المثيرون للدهشة، بدأتُ أقرأ كتابهم "القرآن" في ترجمته الفرنسية... ولم أتوقَّف عن قراءته منذ ذلك الحين، حتى الآن".

ولعلَّ عبارةً وردت في سياقٍ مختلفٍ لها أكبر الدلالة على علاقة الرجل بالجزائر، ومكانتها في قلبه، وفيها يقول: "لم تشأ هذه الجزائر، التي أدينُ لها بالكثير، أن تتركني وشأني، وإنما تبعتني كالقدَر".

ثم اعترف وهو يخطُّ مذكراته بعد التسعينيات بأنه "يندر أن تفارق مخيّلتي صورة الجزائر التي ما تزال تعاني آلاما مأساوية، فهل يمكن أن يكون ذلك كلُّه محض صدفة؟!".

تنبَّه "هوفمان" في كتابه "الإسلام في الألفية الثالثة" حين كان سفيرا في الجزائر والمغرب إلى أنَّ المسلمين من عادتهم إكرام الضيف إلى حدٍّ كبيرٍ، غير مألوف لدى الغربيين؛ ولِذا ذكر أنه "لِفرط كرم الضيافة، كان عليَّ أن أثير انتباه الزائرين الرسميين من الألمان إلى الجزائر أو المغرب، في أثناء شُغلي لمنصب السفير في هذين البلدين، إلى عدم إبداء الإعجاب الشديدِ، وبطريقة ألمانيةٍ، بما تقع عليه أعينهم عند أحد مضيّفيهم"، ثم قال: "أمَّا من لم يستمع إلى هذا الرأي، فكان يجد ما جذبه وأبدى إعجابه به - مثل كتابٍ قيّم، لوحةٍ جميلة، أو تحفةٍ ثمينة – في حقائبه" أي يعطيه له المضيّف هديةً مهما كانت قيمة هذا الشيء، ولا يقبل ردَّها أو رفضها أو تسلُّم مقابل ماديٍّ عليها.

زار "هوفمان" غرداية عدَّة مرَّات، وكتب عن ذلك في "يوميات مسلم ألماني"؛ وأتذكًّر أنه ألقى محاضرةً في بني يسجن في الثمانينيات، بدارِ عشيرة "آت يدر"، حضرها الأساتذة والمهتمون بالثقافة والفكر والسياسة؛ وكان موضوعها حول سعة الإسلام، ودور المسلمين، والتقصير الذي يؤسَف له في التعريف بدينهم، بالصورة المشرقة اللائقة به.

وفي رحلة من رحلاته كان متأثرا بالأطفال وهم يتلون كتاب الله تعالى بصوتٍ واحدٍ، وبإيقاع موحَّدٍ، في المدارس الحرَّة بقرى وادي ميزاب، جنوب الجزائر... ثم يقول:

"وحتى تلك اللحظة، لم أكن قد تعرَّفتُ على القرآن إلاَّ من خلال النوافذ المفتوحة لكتاتيب تحفيظ القرآن في ميزاب، جنوب الجزائر؛ حيث يحفظه أطفال البربر (الأمازيغ)، ويتلونه في لغةٍ غريبة عنهم، وهو ما دهشتُ له كثيرا. وفيما أدركتُ أنَّ حفظ القرآن وتلاوته، باعتباره رسالة من الله مباشرةً، فرضٌ تحت الظروف كافَّة".

ألقَت هذه الملتَقيات القدريَّة وغيرُها من الأسباب المباشرة وغير المباشرة، إضافة إلى صفاء الطوية، واتقاد الفكر، لدى العالم "مراد هوفمان"، شرارةَ الإيمان في قلب رجلٍ كان لوحده أمَّةً، ما لبثت هذه الشرارةُ أن تحوَّلت إلى صرحٍ علميٍّ ومعرفيٍّ وإيمانيٍّ نادر المثال في زمانِنا؛ ذلك أنه بعد أن أسلم دافع في كلّ المنتديات العالمية عن المسلمين، الذين اجتمعت عليهم أشكال الظلم الغربي بخاصَّة؛ ثم لام المسلمين اليومَ عن ضعفهم ووهنهم، في اللقاءات الخاصَّة والعامَّة، وبين ثنايا مؤلفاته ومقالاته ومحاضراته؛ وكان في كتابه الأخير "خواء الذات والعقول المستعمَرة" صريحا، حيث قال:

"سوف تتمتع الدول الإسلامية بالحرية الحقيقية، فقط عندما يتمكَّن قادة الفكر لديها من فكّ رقابهم من الانبهار غير القابل للنقد بكلّ شيء غربيٍّ، وأن يعودوا للاغتراف من المصادر الثرية للثقافة الإسلامية الخاصة بهم".

ويعلن بحرقة لا نظير لها أنَّ الواجب قد تعيَّن على كلّ مسلم غيور، فيقول:

"ولقد حان الوقت لفعل ذلك".

وفي كتاب "الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود" يورد "مراد هوفمان" عبارة دالَّة على واقع العالَم اليومَ، وواقع المسلمين، وضياعِ الحقيقة بين ثنايا هؤلاء وأولئك؛ والعبارة هي مقولة لـ"نوفاليس" أحد الأدباء الرومانسيين، يقول فيها:

"حيث تغيب الآلهة، تسود الأشباح وتسيطِر".

د. محمد باباعمي، الجزائر العاصمة، 13 جانفي 2020م
http://www.veecos.net/2.0/
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 21, 2020 02:41 Tags: الجزائر, مراد-هوفمان

October 27, 2018

ثلاث مقولات غير مسبوقة، عن علي عزت بيجوفيتش

]ثلاث مقولات غير مسبوقة، عن علي عزت بيجوفيتش
د. محمد باباعمي

إذا ما رسمت خطَّ حياتي من الميلاد إلى ما بعدَ الأشدِّ؛ فإني أقرِّر بلا تردُّد أنَّ مؤثرات كثيرة ساهمت في تشكيل "ما أنا عليه"، سواءً أكان إيجابيًّا أم سلبيًّا؛ مِن هذه المؤثرات ما هو برانيٌّ، ومنها ما هو جوانيٌّ:
فالبرَّاني من مثل الأسرة والشارع، والمدرسة والمجتمع، والسياق الدولي والأسفار...
أمَّا ما هو جوانيٌّ، فهو أكثر تعقيدا، وأبلغ أثراً؛ ويمكن التمثيل له بالتأمُّل والخلوة، ونبض قلبي، ومدارك عقلي، وتلاوتي المسترسلة، وقراءاتي الطويلة النفَس، وبعض نجاحاتي، وكثير من إخفاقاتي، وجزئيات عابرة في حياتي ثم أخذتْ حيزا كبيرا في "رؤيتي للعالم"، وتفاعلات قدَرية بين فكرة وواقعٍ، بين معنى وواقعةٍ، بين ما هو زمنيٌّ وما هو من خارج الزمن...
كلُّ ذلك، كان له الأثر المباشر وغير المباشر على "خطوي وخطاي"، على "ما قدَّمتُ" وعلى ما تركتُ من "أثر" (ونكتبُ ما قدَّموا وآثارهم)؛ وضمن هذا الخضم يمكن أن أشير بالإصبع إلى جملة من الأسماء والشخصيات التي ما فتئت تعذِّبني، إذ تراقبني بأفكارها عن ظهر الغيب، أو بحقيقة وجودها عن كثبٍ وهي شاهدةٌ؛ ولعلَّ ترجمة لحياتي بأسلوب سرديٍّ تاريخيٍّ سيكشف أسماءَ هؤلاء، وسيبين مواطن التأثر بريشة فنان أو بمجهر عالم؛ لعلَّ الله يكتب لي هذا العمل في قابل الأيام.
و"نموذج الرشد" في كلياته وجزئياته، في حركته وسكونه، فيما أعلَن عنه، وفيما لم يبُح به؛ في الذي اكتمل منه، وفي الذي لم يكتمل... نموذج الرشد هو موشور (أو سكانير) كاشفٌ للظاهر والـمُخبَّا، إذا ما اعتُبر التأريخ للنموذج عنوانا للتأريخ للذات مفردةً، إذ لا فصل بين الموضوعي والذاتي إلاَّ في عالم الخيال؛ ومن ثم تكون "معالم النموذج" و"روافد النموذج"، و"مصادر النموذج" هي المنابع التي أثرت فيَّ مفردا، وغيرت فينا جَمعًا.
وعلي عزت بيجوفيتش يقف على رأس جبل شاهقٍ، وهو من أبرز المعالم المعرفية لي في السنوات العشرين الماضية؛ تماما كما هو الحال مع مالك بن نبي؛ فهذان يتبادلان المرتبة الأولى في منظومتي المعرفية، أو لعلَّ ابن نبي يهيمن عليَّ أكثر في البحث الحضاري العلمي، ثم يأتي علي عزت في إثره وبعده زمنا وعمق أثرٍ.
ومع ذلك، فقد كنت أعتقد أني قرأت علي عزت كاملاً، وأني طالعته مستوعِبا معتصِرا؛ وكنت أظنَّ أنَّ بعضا ممن حولي من الباحثين فعلوا نفس الشيء؛ غير أني اليومَ أعدِّل الحكم، وأطرح هذه المقولات الثلاث عن فكر الرجل، ثم أتركها للجدل والحوار:
أولا- إذا كان "الإسلام بين والغرب" هو أبرز كتابٍ لعلي عزت، وإذا كان هو المصدر الرسميُّ لفكره وفلسفته؛ ولقد ارتبط به اسمًا وشهرةً؛ فإنَّ حقيقة علي عزت لا تُعرفُ إلا من خلال كتابٍ آخر، قد كان في نظرنا إلى أمدٍ قريب كتابًا ثانويًّا؛ ذلك أنه فيما كنَّا نتصوَّر، لا يحوي إلاَّ "منقولات" و"مقتطفات"، من مصادر قرأها في السجن؛ مع بعض "التعليقات والنظرات" اليسيرة التي لا تؤسِّس نسقا معرفيا متكاملا؛ هذه "النصوص القصيرة" دوَّنها علي عزت على دفاتر، ثم هربت من السجن، وطبعت بعد ذلك في كتابٍ...
غير أني تيقنت اليوم أنَّ ما قرأتُ من فكر علي عزت من خلال "هروبي إلى الحرية" كان على عجلٍ، ولم يستوعب عمقَ فلسفته، وأنَّ الحكم كان خاطئًا، وأنَّ كلَّ فقرة، وكلَّ جملة، وكلَّ كلمة؛ حتى ولو كانت منقولةً من مصدر؛ هي قطعةٌ من رُوحه، وهي نفخة من رَوحه، وهي عنوان لما كان يدور في عقله وخلده؛ ثم إنَّ حقيقة تعليقاته تفوق بكثير منقولاته، لا حجمًا وعددا فحسب، لكن قيمة وأهمية ودقَّة.
ولمن أراد أن يعرف بيجوفيتش فعليه بـالهروب إلى "هروبي إلى الحرية"، لكن شريطة أن يلتزم الصبر والأناة، وأن لا يتعجل الحكم، وأن يقدم الفهم على التحليل، وأن يزن كلَّ كلمة بميزان الإدراك الواعي؛ وإلاَّ فإنه قد يخرج منه ببعض النتف والحكم والفوائد، وهي لا تغنيه من فقر ولا تسمنه من جوع.
ثانيا- أنَّ علي عزت قرأ للكثير، ولم يفرق بين الشرق والغرب، بل إنَّ قراءاته الغربية أوسع مدى من قراءاته الشرقية؛ ومن ثم فهو فيلسوف أوروبي غربي مسلم، كتب عن الغرب والشرق؛ مستوعبا الأول قارئا للثاني؛ فهو لولا تعمقه في القرآن الكريم، قليلُ الغوص فيما سواه من سنة، وتاريخ إسلامي، وفقه، وعقيدة؛ وهذه الخاصية هي ميزة إيجابية وسلبية في آن واحد؛ ومن إيجابياتها أنها أمدَّت أعماله صفة عالمية (بالمفهوم الغربي للعالم)، وخلعت عنها الصفة المحلية (لغة، وثقافة، وجغرافية، وإدراكا).
ومن أبرز من ترك بصماته واضحة في فكره الأديبُ الألماني العصاميُّ "هيرمان هيسه"؛ ولقد كان هذا الاسم غائبا عن أدبياتي مُفردا، وعن أدبيات النموذج مجتمعة؛ غير أني بعد قراءة بعض أعماله، وقراءة ما صرح به علي عزت، في كتابه "هروبي إلى الحرية"، أجزم أنه ذهب بعيدا في صياغة نظرية "الطريق الثالث"، أو ما سماه "الطريق الوسط" أحيانا؛ بل إنَّ علي عزت يقول بصراحة، وأرجو تأمل العبارة وقراءتها بأناة، يقول:
--------------
تتمة المقولة الثانية، والمقولة الثالثة سوف تُنشر في مقال كامل بحول الله تعالى
هروبي إلى الحرية
‫الإسلام بين الشرق والغرب‬
لعبة الكريات الزجاجية
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 27, 2018 03:30 Tags: بيجوفيتش, محمد-باباعمي, هروبي-إلى-الحرية

May 25, 2016

مساءلة المرحلة، وأدب الرحلة

http://goo.gl/aDWjpS
تمرُّ الأيام مرَّ السحاب، يحسبها المرء جامدة جلدة؛ وهي تحفر فيه ندباتها وخلجانها: حلوَها ومرَّها، حبيبَها وبغيضَها؛ فاليومُ ليس كالبارحة، والغدُ لا يتلبس لَبوس اليوم؛ والأيام دولٌ وحظوظ، وهي أرزاق وأنصبة وخدود؛ ولكلٍّ من حياته ما ملك، وعليه ما هلك واستهلك؛ وفي الناس سابق للخيرات، ومنهم مقتصد، ومنهم ظالم لنفسه مبين.
فإن لم تعمل في وقتك عمل فيك، وإن لم تبادله الجهد والاجتهاد، أجهدك بالدون والهون، وأذاقك جهد البلاء ودرَك الشقاء؛ فانظر ماذا أنت فاعل؟ ولا تقل: فات الأوان.
ولقد شددتُ الرحال منذ أيام لتفكير مديد، ونظرٍ في "معنى المعنى" جهيدٍ؛ وقلَّبت الفكرة بالفكرة، فانقلبَ عليَّ بعضها ظهر المجنِّ، وأسلس لي بعضُها الآخرُ القياد، وما بين تلك وهاتيك "خرط القتاد".
ترى، هل أنا ورقة خريفٍ، تعبث بها الرياح العاتيات لتهشِّمها وتردي بها أرضًا؟
أم أنيَ حجرٌ ثابتٌ صلدٌ، لا يغادر مكانه، ولا يستجيب لداعي الأنهر، ولا لاستفزاز الصرير؟
أم قد أكون تلك الرياح الطائشة، فأحمل معي ما يعترض سبيلي، ولا أبالي؟
غير أني كلُّ ذلك وجميع أولئك، ساعةً وساعةً: فحينًا أقسو وحينًا ألين؛ وحينًا أبلو وحينًا أبتلي؛ وحينًا أحضُر وحينًا أغيب؛ وحينًا أضعُف وأخرى أستقوي... وهكذا دواليك، "والأيام دولٌ، والدهر قلَّب"...
أسمو وأبادل الملائكة التحية يومَ أقترب من ربي، ثم أهوي وأعاند الشياطين مكرهم يومَ يرين قلبي، ثم أكابد السير بين عالٍ وسافلٍ في قصَّة لا تنتهي... خيوطها بيدي، ومسرحها رهن إشارة غيري، والجمهور ما بين مصفِّق ومصفِّر، وقابل ورافض... "لا ينام على جنب واحد"، و"لا يستقرُّ على حال"...
ألازم الكتاب لساعات، قارئا ومعيدا، محللا ومركبا، ثم مسقطا ما فيه من معاني على خط الزمن، سلبا وإيجابا، رفضا وقبولا؛ ولقد أطيل التفكير وأديمه لأيام، وكلَّما وجدت من نفسي فتورا، أو قرأت في عقلي احتجاجا؛ تذكرتُ أنَّ حبيبي عليه الصلاة والسلام لازم حراء سنوات، ولا أحد من العقلاء المنصفين عدَّ تلك الأعوام ضياعا، أو صنفه في خانة الفراغ؛ لكنها في حقه شحن وعمار، واستعداد وإعداد، وتزكية وتصفية، وترشُّح وتوفُّز...
أسأل مَن معي: هل إذا لم يمرَّ مشروع بعقل وفكر يرجى نُضجه، ويُنتظر خيره، ويُستبشر بغده وعقِبه؟
لا أحد يقول خلاف ذلك، أو يعتقد نقيض ذلك؛ لكنَّ السقوط، والحيرة، والتردد، يقع في "كيف": كيف لنا أن نتحوَّل من حالة "اللاعلم" إلى حالة أساسيةِ العلم؟ كيف نقنع من حولنا وما حولنا ببديهية لا يختلف فيها اثنان؟ كيف نوقف قاطرة "الرداءة والاستسلام للأمر الواقع" لنقلع طائرة الجودة والسداد وحسن التخطيط والفعل؟
كيف؟
الجواب لم يخفَ، ولن نتنازل عنه شرو نقير؛ ولكننا نراوده، ونأتيه من كلِّ جهة، متوكلين على الله؛ مدركين أنَّ الزمن كفيل برجع الصدى، وأنَّ النية إذا صدقت فلا عائق يوقف سير العمل... ولذا، كان الحوار ولا يزال مع النية، ومع حسن التدبير، وفي ذلك لا نني ولا نتعب من الدعاء والتذلل للعليم الخبير.... سبحانه.
4 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 25, 2016 06:41

April 16, 2016

حبلٌ ويَدَان: مقال في فنِّ التداول

http://goo.gl/ty3vdU


"فنُّ التداول" هو الوجه الملوَّن الجميل لمفهوم "الجماعة العلمية"، وهو الإجراء الممكن "للمتَّحد العلميِّ"؛ ذلك أنــــَّه يتحوَّل من ممارسة صارمة للفكر، ومن رسميةٍ متأبِّية للبحث العلميِّ، إلى حالةٍ من السلاسة والإبداع والانبثاق، وإلى تحمُّلٍ رفيقٍ رحيمٍ لشيءٍ من ضعف المحيط، وإلى مرحليةٍ صابرةٍ واعيةٍ لبلوغ الغاية؛ فيما يمكن تسميته مع بعض التحوير: "حالة الفنِّ".
الحبل الذي تسلَّمته أمانةً ممن قبلي، مددتــُه مِرارًا ولعقود ثلاثة من الزمن إلى من معي ومن بعدي، فكنت كلَّما قبضت طرَفا من فكرٍ أو فعلٍ، ووصلتُ بعد حين إلى "استحالة" التفرُّد والانفراد؛ استدعيتُ الجمع والتجمُّع؛ إنْ في صيغة "أيامٍ مغلقة"، أو على صورة "مؤسَّسات بحثية"، و"حلقات درس وقراءة"، أو "مشاريع تربوية"، أو دعوة للباحثين والدارسين إلى اهتمام معيَّن، أو حتى على صورة سؤال ومقال، ورواية وكتاب...
فمثلا، في "أصول البرمجة الزمنية" فتحتُ كوَّة لمفهوم "الزمن الصبغة"، ذلك المفهوم الذي يقف صرحا شامخا أمام نظرية "الأزمنة المهيمنة"، ويحلُّ إشكالا كبيرا في واقع الحياة للإنسان المعاصر، وهو يتوهَّم "الانفصال والانفصام" بين الروح والمادة، بين الآني والغيبي، بين العلمي والديني... وكنتُ آمل يومَها أن يأتي مَن يطوِّر نظرية "الزمن الصبغة"، أو يفتح الله عليَّ فأشتغل بها؛ لكنَّ اليد الهزيلة، التي هي يدي، والحبل المتين الذي هو من حبل القرآن المتين، بقيت معلَّقة ولا تزال...
وقد استدعيتُ مرارا – ولا أزال – فكرة "القابلية للرشد" امتدادا لنظرية "القابلية للاستعمار" لدى مالك بن نبي؛ وكتبتُ فيها ما كتبتُ، ثم جاءت جزءا من نموذج الرشد، ومن المنظومة المعرفية الرشيدة؛ وأسهم بعض الإخوة باحتشام في النظر فيها، والانتصار لها؛ ولا يزال الحبل ممدودا، معلقا على يدٍ متعبة أعياها الانتظار...
وقلْ مثل ذلك عن تفسير القرآن الكريم، باعتماد "بذور الرشد"؛ وكذا عن "صورة الفتى" مدخَلا منهجيًّا، وعن الوعاء الحضاريِّ... جميعها خيوط ممدودة، على كثرتها لا تجد إلاَّ يدا واحدة أحيانا، ويدين اثنتين أو ثلاثة نادرا... فتبقى معلَّقة منتظرة متفائلة... إلى حين.
بين وجوب تواضع الباحث، ووجوب الصدع بالحقِّ، خطٌّ ذهبيٌّ رفيعٌ؛ لا يجده إلاَّ من أرهقه الكَلال، ومن أعياه طول التفكير وعرضُه*؛ وبخاصَّة إذا كانت البيئة موبوءة بثقل الماضي ومخلفات الحاضر وهموم المستقبل، وأخص منها إذا جاء الأمر من جهة من أنهكته الجراح المثخنة ولا وَثاق...
لكن، مهلاً، هل هذه شكوى وتذمُّر؟ على غرار ما اشتكاه ابن نبي في مذكراته، أو على نمط شكوى المسيري في مقدِّمات موسوعته، أو على شاكلة ما أنكره مهاتير في يومياته، أو من سنخ ما بكاه فتح الله بحثا عن الجيل الذهيِّ؟
لا وألف لا، إنما هي خاطرة هادئة يرسلها القلب للعقل، فتستقبلها الجوارح من عمق الضمير؛ لتذكِّر بالنعمة وتذكُرها، ولتقول للناس: لا استعجال، لا شكوى، لا لوم، لا عنت، لا حرج، لا ادعاء، لا صدام، لا تبديل للخط، ولا ندم على الاختيار... ذلك أنَّ الله تعالى، بفضلٍ منه ومنَّة، بعثَ، ولا يزال يبعثُ، من الشباب الخلَف مَن يمدُّ اليد إلى حبلٍ هنا، أو إلى طرف خيطٍ هنالك؛ وإنَّ منهم لَمن أقنعك بضرورة رفع يدك كلية، فهو الصادق القوي الأمين، وهو الآن يحمل ما لم تحمل، ويتحمَّل ما لا تتحمَّل...
ولكنكم قوم تستعجلون...
لمثل هذه الأيدي المتوضئة أقول:
لا تنسوا إذ شددتم الحبل بإحكام أن تمدُّوا طرفا منه لمن معَكم، ولمن بعدكم، وليس أريح للمرء من وفيٍّ يسانده، ومن سخيٍّ يناصره؛ ولقد تصعب الأيام الأولى، ولقد تعود إليك الأيدي خاسئة حسيرة، ولقد تضعُف أصابع البعض حتى لتكاد تتكسَّر، ولقد يراوح البعضَ شكٌّ أو تردُّد... لكن، يقينًا، ثمة مَن يُنهي الشوط لصالح "حبل الله المتين"، وإلى جانب "الحق المبين"، ثابتا على "الصراط المستقيم"...
ولكنكم، قوم تستعجلون...
فنُّ التداول فنٌّ، لا هو بالعلم، ولا هو بالصنعة؛ والفنُّ في روحه حافظٌ للخصوصية، قابلٌ للتنوع، داعٍ إلى المحاولة، متقبِّل للخطأ، مصحِّح للمسار أوان المسير، مركِّز على المصير "نعمَ المصير"... ولذا فهو من أعظم نعمِ الله على العبد الواحد، وهو من أحسن رزق الله على التجمعات والمجتمعات... فمن خسره يكاد يحِّول يده حبلا، وحبله يدا... فيرسِّخ المتحرك، ويحرِّك الراسخ... ويرى الدنيا مقلوبة، ثم ينظر إلى الآخرة بعين بها حولٌ.
و"الحوَل طبيًّا" هو "عبارة عن حالة من عدم التوازن في حركة إنسان العين، بحيث تكون حركة العينين غير متوافقة مع بعضها البعض"، كما أنَّ "الحول حضاريـًّا" هو نوع من فقدان التوازن بين فكرٍ وحركة، أو بين فكر وفكر، أو بين حركة وحركة؛ بحيث تأتي النتيجةُ غير متوافقة، ولا تزيد في مخزون الحضارة إلاَّ "كمًّا" و"اسما" و"ظاهرا"...
فمن لم يصبر للتوازن تجرع غصص الحوَل، ومن لم يتحمَّل مدَّ اليد طواعية قبل قيد اليد كرها...
ولكنكم قوم تستعجلون...

-----------------
*عَرضه وعُرضه (بفتح العين أو ضمِّها)
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 16, 2016 06:56 Tags: البحث-العلمي, التداول, الجماعة-العلمية

April 5, 2016

الخيرية رهينة بصفاتها (من القواعد الكلية في فقه الحضارة)

http://goo.gl/uWb8Aw
كثيرا ما خلطت النظريات العرقية، والطرحات العنصرية، بين الذات والموضوع، وبين الصفة والموصوف؛ فادَّعت دوام الصفة لبعض الموصوفين أبدا؛ ومثل ذلك اعتقاد أنَّ الجنس الفلاني خلق للحضارة، وإنَّ العرق الآخر هو متخلف "جينيا"؛ بل وحتى أحيانا باسم الدين، يعتقد البعض أنَّ مجرَّد الانتماء ولو بلا اتصاف بمستلزمات ذلك الانتماء، كاف لبلوغ مرتبة الكرامة والتكريم.
فمثلا، يعتقد "غوبينو" أنَّ الأجناس تنقسم إلى ثلاثة: "الأصفر ويتسم بالمادية وافتقاد القدرات الإبداعية، والأسود الذي يفتقد الذكاء، والأبيض الذي يتَّسم بالنبل والشرف والروحانية وحبِّ الحرية؛ وأفضل أجناسه الجنس الآري". وفي كتاب من التراث الإسلامي نقرأ هذا العنوان: "باب تفضيل جنس العجم على العرب نفاق"، ويقرِّر فيه مؤلِّفه أنَّ المعتقد الصواب هو "أنَّ جنس العرب أفضل من جنس العجم: عبرانيهم، وسريانيهم، رومهم و فرسهم وغيرهم...".
غير أنَّ القرآن الكريم، والسنة النبوية الطاهرة، والفكر المنبثق منهما بلا كدر؛ كلُّ أولئك ينبِّه إلى قاعدة "الخيرية مرهونة بصفاتها"، وأنَّ الأفضلية والأكرمية مقرونتان بالتقوى، لا غير. قال تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" (آل عمران: 110). وقال: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا.." (سورة النساء: 123). وقال عليه الصلاة والسلام: "يا فاطمة بنت محمد، لا أغني لك من الله شيئا...". الحديث.
ومدلول هذه القاعدة أنَّ خيرية أيِّ أمَّة ليست مرهونة بها، ولا هي مطلقة في حقِّها؛ وإنما هي مشروطة بشروطها، ورهينة بوجود صفاتها؛ والمؤكَّد أنَّ "هذه الأمَّة ليست خير أمَّة من الأزل، بل وُضعت فيها هذه الخيرية، وليست مما لا تفارقها ولا تنفكُّ عنها، فهناك حالات تحقَّقت من قبلها فأصبحت خير أمة، أي كونها خير أمَّة لا يعني أنها ستبقى أبدا هكذا، فإن لم تراع هذه الأمة تلك الحالات التي جعلتها خير أمَّة، ستضيع تلك الخيرية".
والقاعدة لها الكثير من التقاطعات، من مثل قاعدة "ذاتية الأسباب"؛ وقاعدة "العبودية التي تأبى الانعتاق"؛ وقاعدة "الأمور بمقاصدها".
عمليا؛ لا مجال لأن ينتظر المسلمون اليوم بلوغ مكانة مرموقة في سلَّم الحضارة؛ إذا لم يستعيدوا الصفات التي تبلِّغهم ذلك المقام؛ فمجرَّد انتمائنا للإسلام لا يغيِّر من الحقِّ شيئا؛ بله انتمائنا إلى عرق أو بلد أو حزب معين؛ وإنما تحقيق الخيرية مرهون بأن نأتي بالأوامر، وننتهي عن النواهي، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر؛ مؤمنين موقنين، مخلصين عاملين؛ فإذا تحقق ذلك، كان الغد لنا، وشهدنا بزوغ شمس الفجر الجديد، بحول الله تعالى؛ وإلاَّ فلا.
5 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 05, 2016 02:07

قاعدة "تأشيرة الوجدان": نقطة تلاقي القلب والروح والفكر

http://goo.gl/aOYbpQ
هل الطرح الفكريُّ العقليُّ لقضايا الحضارة يمكنه أن يجد في المخاطَب أثره الطيِّب؟ وهل الحضارة هي مسألة علمية لا دُخل للقلب والوجدان فيها؟ وهل مادَّة الحضارة موضوعية محايدة، لا شأن للقيم والعواطف والأحاسيس والمعتقدات في تناولها؟
للأسف هذا هو التوجُّه العام في "فقه الحضارة" في أغلب مدارسه؛ والحقُّ أنَّ في قاعدة "تأشيرة الوجدان" إضاءة وجوابا على هذا الإشكال الخطير.
فحتى يجد "القولُ الحضاري"، و"الفعلُ الحضاري"، سبيلهما إلى الإنسان، الذي هو المخاطَب الأول، والمحور المركزي، والمعنيُّ الأساس؛ يجب أن يصدر من ينابيع ثلاثة: القلب، والروح، والفكر؛ فبهذا الاجتماع يحصل على "تأشيرة الوجدان"، وينال القبول في السماء ثم في الأرض تبعا.
ومن ثم وجب على مَن يبغي التفقُه في الحضارة أن يحاسب نفسه باستمرار، ويعاتبها في كمال الإيمان "حتى إنه يسأل الشفرة (أو كلمة السر) عن كلِّ خاطر يمرُّ على قلبه، ويطالب "تأشيرة الدخول" لكلِّ فكر يرد إلى عقله"؛ فإذا ما حصل على "التأشيرة من الذات"، انتقل إلى العمل والمجاهدة "فالسالك الذي نوى سياحة طويلة، مضطر للمرور بمنزل القصد والعزم لأخذ التأشيرة، فإذا ما حازها بدأ بالسفر الحقيقي".
هذه القاعدة تردم الهوة السحيقة بين "القلب والعقل"، وبين "المثقف والداعية"، وبين "الخطاب والمخاطَب"؛ وتساعد على تحطيم الثنائيات الكلاسيكية المختزلة: من مثل "الدين أو العلم"، "الحاكم أو المحكوم"، "الماضي أو الحاضر"... فالحضارة تعالج كلَّ ذلك في تركيبية وشمولية، وتكاملٍ وتناغم. ومن ثم كان من بين منطلقات البحث الحضاري، بناء على قاعدة "تأشيرة الوجدان":
1. إنقاذ الإيمان: "فعندما لا تشعر بمسؤوليتك في إنقاذ الإيمان مما يحيق به من خطر عظيم في العالم كله، فكيف تريد إذن من هذا العالم أن يفتح أذنيه ليسمعك؟!"
2. الشفقة والرحمة: "وعندما لا يصدر كلامك مُحمّلاً بألطاف من الشفقة والرحمة بأولئك المجذومين روحياً ومعنوياً، فإنَّ كلامك معهم لا يزيد عن كونه ثرثرة لا يترك أثراً في أحد".
3. الإدراك والفهم والخطاب: "وعندما لا تدفعك مسؤوليات الدعوة لزيادة الإدراك، وفهم توجُّهات العالم الروحية والفكرية، واكتشاف اللغة التي يمكن من خلالها أن يفهمك، فأنت عابث غير جاد، والعابثون من الدعاة يضرون ولا ينفعون ويؤخِّرون ولا يقدمون".
عمليا؛ يمكن ملاحظة أنَّ العالم المفكر المهتمَّ بالحضارة منهجا وموضوعا، غالبا ما يكون عقليَّ التوجه، حتى في حثه على الروح والقيم والشعور؛ كما أنَّ العالم الفقيه غالبا ما يهتمُّ بالمسائل الجزئية بعيدة عن أثرها الوجداني والحضاري، والعالم الصوفي يعتني بمخاطبة القلب، لكن غالبا ما يكون ذلك في منأى عن التحليل الحضاري العميق؛ والواجب أن يجتمع كل ذلك في "فقه الحضارة"، بل حتى إن لم يتسنَّ جمعه في ثنايا شخص واحد، وجب تقسيم الأدوار فيما بين العلماء والباحثين المشتغلين بالحضارة هما واهتماما، بين من يملأ "القلب" إحساسا، ومن يسمو "بالروح" ارتقاء، ومن يفجر طاقات "العقل" إبداعا.
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 05, 2016 02:04

قاعدة: لا أثر لأيِّ عامل خارجي، إلاَّ باستجابة العامل الداخلي

http://goo.gl/wwV0sA
الإرادة هي مناط التكليف والاستخلاف؛ ومن ثمَّ يحاسَب المرء على ما كان من فعله هو، لا على ما تعرَّض إليه جراء فعل الآخرين؛ وهذا مدلول قوله تعالى في سورة آل عمران: "إنَّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين"، وفي سياق آخر من سورة الأعراف يقول سبحانه: "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين؛ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه...".
ولعلَّ المسألة لها جذور في السؤال الكلاميِّ عن "إرادة الإنسان وفعله"، بين الجبر والاختيار والكسب؛ والحقٌّ أنَّ لها أثرا عميقا في بناء الحضارات، وفي العلاقة بين المستعمِر والمتستعمَر، وبين التابع والمتبوع؛ وفي أصول الفقه نقرأ قاعدة تجيب على هذا السؤال؛ هي أنَّ "اعتبار الشيء بذاته وبخاصِّ صفاته أولى من اعتباره بغيره من الأشياء الخارجة عنه".
وتفسير هذه القاعدة بلغة بحوث الحضارة أنه "كلما شعرنا بداء المعامل الاستعماري الذي يعترينا من الخارج، فإننا نرى في الوقت نفسه معاملا باطنيا يستجيب للمعامل الخارجي ويحط من كرامتنا بأيدينا"؛ ومن ثمّ، ولهذا السبب وجب اعتبار "القضية عندنا منوطة أولا بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته، من حيث نشعر أو لا نشعر، ومادام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا، وتبديدها وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في استقلال، ولا أمل في حرية، مهما كانت الأوضاع السياسية، وقد قال أحد المصلحين "أخرجوا المستعمر من أنفسكم، يخرج من أرضكم".
عمليا، يورد علي شرعتي في كتابه "العودة إلى الذات" ما يسميه "عقدة سردل"؛ ودلالة هذه العقدة تبيِّن "أنَّ العلاقة بين الأم والطفل تقوم على أنَّ: الأمَّ تنهر طفلها، والطفل يلوذ بحضن الأمِّ خوفاً منها وطلباً للأمان، وهذه الجدلية تنمو بنفسها وتصبح عامل جذب"؛ فالأمُّ في هذه الحال هي المستعمِر، والطفل هو المستعمَر، وعامل الخوف مع الأيام يتحوَّل إلى عامل جذبٍ بكلِّ المعايير: اللسان، والملبس، والثقافة، والإعلام، والذوق، والنظام، والاقتصاد...
ولا ريب أنَّ هذه القاعدة فرعية تابعة لقاعدة أخرى، بل لنظرية عرف بها مالك بن نبي، وهي "القابلية للاستعمار"؛ وعالجها فتح الله كولن كذلك في كتابه "ونحن نبني حضارتنا"، نقلا من ابن نبي؛ ومن ذلك قوله: "ولكن جموع البشر لم تَعُد تَقبل أن تقع -كرة أخرى- في موقع القابلية للاستعمار، بعدما بدأت تُدرِك ذاتَها بذاتها وبمقوِّماتها الداخلية الذاتية".
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 05, 2016 02:03

خبزٌ وسمن: كيف نفرق بين المتعلِّم والمتعيلم؟

http://goo.gl/bX5fZH
حكي أن ابن سينا (الرئيس الطبيب) رأى رجلا يمشي على بُعد فرسخ منه (أي حوالي خمسة كيلومترات)، فقال لمن معه: "انظروا إلى ذلك الرجل، فإنه يأكل خبزا مغمَّسا بالسمنة". ولما سألوه: "كيف عرفت أنه يأكل خبزا مغمَّسا بالسمنة؟". قال: "إنني رأيت البعوض يحوم حول خبزه، مما يعني بأنَّ الخبز الذي يحمله مغمَّس بالدهن".
لا يختلف اثنان أنَّ ابن سينا عالم فذٌّ، وأنه صاحب مواهب كثيرةٌ، وأنه من أعلم علماء البشرية عبر العصور؛ ولكن هل هذه الأسطورة صحيحةٌ؟
مما لا ريب فيه أنها ليست كذلك، ذلك أنَّ الذي يرى البعوض مِن بُعد فرسخ (خمسة كيلومترات) يستطيع أن يرى السمنة البيضاء تغطي الخبز بلا عناء.
*******
لكن، ما فحوى هذه المقدمَّة؟ وماذا يمكن أن نستفيده منها؟
إنَّ حجم الأخبار التي تصلنا في هذا العصر، وإنَّ عدد الأحداث التي تخترق أسماعنا وأبصارنا كلَّ لحظة، ودقيقة، وساعة، ويوم... هو حجم يفوق ما يستهلكه ابن سينا بآلاف المرات، بل بملايين المرات.
كذلك، الكمُّ الهائل من المعلومات التي تقع على أطراف أصابعنا، والتي يمكننا الحصول عليها بلا جهد ولا تنقُّل من مكان، نحصل عليها بمجرَّد الضغط على زرِّ لوحة المفاتيح، فينفتح العالم على ناظرنا بجميع لغاته، ومشاربه، ومستوياته، وكذا بخبُزه وسمنه، وبغثه وسمينه...
ثم نجد أنفسنا مقتنعة بأشياء: قابلةً لبعضها، رافضة للبعض الآخر؛ محبَّة لأمور، كارهة لأمور أخرى؛ متَّخذة مواقف بعضُها كامنٌ، والبعض الآخر معلَنٌ، مما يتهجَّم على عقولنا الرخوةَ الهشَّة الضعيفة مِن أعاصير الصور، والأصوات، والرموز، والكلمات، والأخبار، والمفاهيم، والأفكار، والمواقف.
لكن، هل نحن ممن يرى البعوض؟ ويرى السمنة؟
أم أننا نرى الخبز؟ ونرى الرجل؟
أم أننا لا نرى شيئا ولا أحدا؟
كيف نميز بين الصواب والخطأ فيما نرى ونسمع ونقرأ؟
وهل نمتلك الوقت الكافي لتصفية كلِّ ذلك؟
وهل لدينا الكفاءةُ اللائقة للتمييز بين الحقِّ والباطل؟ بين النافع والضارِّ؟ بين الشيء وظلِّه؟ بين الأمر وصورته في المرآة؟
تستحرُّ ظاهرةٌ بين الكبار والصغار، عنوانها "الإعجاب بكلِّ ما يشتهر، وبكلِّ من يشتهر"، بلا جهد ولا عناء في النظر وإعادة النظر، ولا في التساؤل حوله بعقل ناقد، ولا بالبحث فيه بفؤاد وقاد...
يقول لك الواحد منهم مثلاً: هل شاهدت فيديو العلامة فلان؟
ثم حين تكتشف – ويكتشف معك – أنك لم تشاهده، يصنِّفك في خانة الجهلاء المتخلِّفين، وإذا ما بذلت الجهد، لكي ترفع عنك الحرج، ثم فتحت الجهاز، وشاهدت أو سمعت ما وصفه لك، تجده هُراء غالبًا، وكلاما فارغًا، وجهلا مغلَّفا (لا خبزا، ولا سمنا) وإنما هو من قبيل المعلوم الذي لا ينفع أحدا، ومن نوع الفراغ الذي لا يزيد في رصيد أحد... (إلاَّ ما شذَّ، والشاذُّ يحفظ ولا يقاس عليه)
ما أحوجنا اليوم إلى غربلة ما نقرأ، وما نسمع، وما نرى، وما نحس...
ما أحوجنا إلى غربال حسَّاس جسَّاس، وموشور رفيع الدقة حقيق؛ حتى لا نقع فريسة ولقمة سائغة، بين أنياب المتربصين بديننا، المفسدين لدنيانا، المرجفين في المدينة، المهلكين لحرثنا ونسلنا؟
رحمك الله ابنَ سينا، لم تكن أنت المخطئُ في قصَّة الرجل والخبز والسمن، وإنما نقَل الناسُ عنك ما لو قيل لك لردَدْتَه، ولأنكرته؛ ذلك أنَّ العالـِم الحقَّ لا يصنعه الوهمُ (ولا يصنع الوهمَ)، ولا يعنيه كثرةُ السماع والمشاهدة، ولا الجلوس أمام التلفاز والجهاز أياما وليالي (غير آمنين)... إنما الذي يصنع العالم هو المكابَدة، والصبر، والتحقيق، والنقد، والفهم العميق، والضمير الحيُّ، والقلبُ العقول، واللسانُ السؤول، والجوارح الفعَّالة الفاعلة...
وإلا، فلا... ثم لا.... ألفُ لا.
*******
الجهل أنواع كثيرة، ومشارب متباينة، منها: الجهل المعلوم، والجهل المركَّب، والجهل المغلَّف، والجهل الآنيُّ، وجهلٌ دون جهلٍ... ولكلِّ نوع أحكامه، ولكن لا أحد من البشر يخلو من أحدِ هذه الأنواع، وأفضلُ الجاهلين من يعرف أنه لا يعرف، ومن يميز بين حدود معرفته وحدوم جهله.
أمَّا العلاقة بالعلم، وأصناف الممارِسين له، فتصنَّف إلى أشكال منها: المتعلِّم، والمتعالم، والعالم... غير أنَّ الذي يعنينا في هذا المقال هو صنف رابع، وهو "المتعيلم"، ولعلَّ هذه الصيغة غير مألوفة في قواميس اللغة، ولم ترد سماعيا عن العرب، وإن كان بعض المعاصرين يستعملونها. غير أنها قد تكون على شاكلة اسم المفعول "المتفيهق"، وهي من تفيهَق: في الكلام، توسَّع فيه وتنطع، وفي الحديث الشريف: "وإنَّ أبغضكم مني في الآخرة مساويكم أخلاقا، الثرثارون المتفيهقون". وفي رواية عن جابر رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ من أحبِّكم إليَّ، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحسانكم أخلاقاً، وإنَّ أبغضكم إليَّ، وأبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارُون والمتشدِّقون والمتفيهقون" قالوا : يا رسول الله قد علمنا (الثرثارُون والمتُشدقون) فما المُتفيهقُون؟ قال: "المتكبِّرون".
وكثرةُ استهلاك قنوات الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي اليومَ، يكاد يـُخرج لنا كلَّ ساعةٍ "متعيلما" جديدا، ويكشف لنا كلَّ حين "متفيهقًا" جريئا.
ومن أبرز صفات المتعيلم المتفيهق أنه:
*يتكلَّم في كلِّ شيء، ولا يعرف كلمة: "لا أعرف"،
*ويجتهد في بيان فضله على العالمين،
*ويستسهل اغتياب العلماء،
*ويكيل التهم بلا حجة ولا دليل على كلِّ من يعترض سبيله،
*ويقفز من مجال إلى آخر، ومن اهتمام إلى اهتمام غيره، محدثا بلبلة وصياحا وضجة لا حدَّ لها؛ وقد سما هذا القفزَ والهرج أحدُ علماء المغرب الإسلامي حين أوصى تلميذا له فقال: "يا بني، العلم والوطوطة لا يلتقيان". والوطوطة في مصادر اللغة صوت الجبان، وصوت الخطاف، وصياح الطفل باكيا.
وكلُّ هذه الأوصاف مما يميز المتعيلم المتفيهق، الذي أوهم نفسه، واستوهم غيره، أنه "يعلم" وأنه "يعرف"، وأنه يستطيع أن يدرك المعنى مهما خفي، والسمن والبعوض مهما بعُد.
ويبقى السؤال المحيِّر: كيف ننجو من هذا الداء العضال؟
وكيف نتحرَّز من هذا الانحراف الوخيم الوبيل؟
وكيف نربي جيلا من المتعلِّمين ليكونوا علماء هداةً، لا متعيلمين ولا متعالمين؟
لا نملك الجواب الجاهز، ولا ندعي امتلاكه، ولكن نحرِّك فينا "الهمَّ والهمَّة"، ونستدعي فينا "العقل الجمعي والفكر العمليَّ"، ونقيس تحقيق النتجية والمبتغى "بالميدان والفعالية"، لا "بالكلمات الرنانة والخطب الطنانة"... ذلك هو الرشد لو تعلمون... فهل نحن راشِدون؟
3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 05, 2016 02:00