خبزٌ وسمن: كيف نفرق بين المتعلِّم والمتعيلم؟
http://goo.gl/bX5fZH
حكي أن ابن سينا (الرئيس الطبيب) رأى رجلا يمشي على بُعد فرسخ منه (أي حوالي خمسة كيلومترات)، فقال لمن معه: "انظروا إلى ذلك الرجل، فإنه يأكل خبزا مغمَّسا بالسمنة". ولما سألوه: "كيف عرفت أنه يأكل خبزا مغمَّسا بالسمنة؟". قال: "إنني رأيت البعوض يحوم حول خبزه، مما يعني بأنَّ الخبز الذي يحمله مغمَّس بالدهن".
لا يختلف اثنان أنَّ ابن سينا عالم فذٌّ، وأنه صاحب مواهب كثيرةٌ، وأنه من أعلم علماء البشرية عبر العصور؛ ولكن هل هذه الأسطورة صحيحةٌ؟
مما لا ريب فيه أنها ليست كذلك، ذلك أنَّ الذي يرى البعوض مِن بُعد فرسخ (خمسة كيلومترات) يستطيع أن يرى السمنة البيضاء تغطي الخبز بلا عناء.
*******
لكن، ما فحوى هذه المقدمَّة؟ وماذا يمكن أن نستفيده منها؟
إنَّ حجم الأخبار التي تصلنا في هذا العصر، وإنَّ عدد الأحداث التي تخترق أسماعنا وأبصارنا كلَّ لحظة، ودقيقة، وساعة، ويوم... هو حجم يفوق ما يستهلكه ابن سينا بآلاف المرات، بل بملايين المرات.
كذلك، الكمُّ الهائل من المعلومات التي تقع على أطراف أصابعنا، والتي يمكننا الحصول عليها بلا جهد ولا تنقُّل من مكان، نحصل عليها بمجرَّد الضغط على زرِّ لوحة المفاتيح، فينفتح العالم على ناظرنا بجميع لغاته، ومشاربه، ومستوياته، وكذا بخبُزه وسمنه، وبغثه وسمينه...
ثم نجد أنفسنا مقتنعة بأشياء: قابلةً لبعضها، رافضة للبعض الآخر؛ محبَّة لأمور، كارهة لأمور أخرى؛ متَّخذة مواقف بعضُها كامنٌ، والبعض الآخر معلَنٌ، مما يتهجَّم على عقولنا الرخوةَ الهشَّة الضعيفة مِن أعاصير الصور، والأصوات، والرموز، والكلمات، والأخبار، والمفاهيم، والأفكار، والمواقف.
لكن، هل نحن ممن يرى البعوض؟ ويرى السمنة؟
أم أننا نرى الخبز؟ ونرى الرجل؟
أم أننا لا نرى شيئا ولا أحدا؟
كيف نميز بين الصواب والخطأ فيما نرى ونسمع ونقرأ؟
وهل نمتلك الوقت الكافي لتصفية كلِّ ذلك؟
وهل لدينا الكفاءةُ اللائقة للتمييز بين الحقِّ والباطل؟ بين النافع والضارِّ؟ بين الشيء وظلِّه؟ بين الأمر وصورته في المرآة؟
تستحرُّ ظاهرةٌ بين الكبار والصغار، عنوانها "الإعجاب بكلِّ ما يشتهر، وبكلِّ من يشتهر"، بلا جهد ولا عناء في النظر وإعادة النظر، ولا في التساؤل حوله بعقل ناقد، ولا بالبحث فيه بفؤاد وقاد...
يقول لك الواحد منهم مثلاً: هل شاهدت فيديو العلامة فلان؟
ثم حين تكتشف – ويكتشف معك – أنك لم تشاهده، يصنِّفك في خانة الجهلاء المتخلِّفين، وإذا ما بذلت الجهد، لكي ترفع عنك الحرج، ثم فتحت الجهاز، وشاهدت أو سمعت ما وصفه لك، تجده هُراء غالبًا، وكلاما فارغًا، وجهلا مغلَّفا (لا خبزا، ولا سمنا) وإنما هو من قبيل المعلوم الذي لا ينفع أحدا، ومن نوع الفراغ الذي لا يزيد في رصيد أحد... (إلاَّ ما شذَّ، والشاذُّ يحفظ ولا يقاس عليه)
ما أحوجنا اليوم إلى غربلة ما نقرأ، وما نسمع، وما نرى، وما نحس...
ما أحوجنا إلى غربال حسَّاس جسَّاس، وموشور رفيع الدقة حقيق؛ حتى لا نقع فريسة ولقمة سائغة، بين أنياب المتربصين بديننا، المفسدين لدنيانا، المرجفين في المدينة، المهلكين لحرثنا ونسلنا؟
رحمك الله ابنَ سينا، لم تكن أنت المخطئُ في قصَّة الرجل والخبز والسمن، وإنما نقَل الناسُ عنك ما لو قيل لك لردَدْتَه، ولأنكرته؛ ذلك أنَّ العالـِم الحقَّ لا يصنعه الوهمُ (ولا يصنع الوهمَ)، ولا يعنيه كثرةُ السماع والمشاهدة، ولا الجلوس أمام التلفاز والجهاز أياما وليالي (غير آمنين)... إنما الذي يصنع العالم هو المكابَدة، والصبر، والتحقيق، والنقد، والفهم العميق، والضمير الحيُّ، والقلبُ العقول، واللسانُ السؤول، والجوارح الفعَّالة الفاعلة...
وإلا، فلا... ثم لا.... ألفُ لا.
*******
الجهل أنواع كثيرة، ومشارب متباينة، منها: الجهل المعلوم، والجهل المركَّب، والجهل المغلَّف، والجهل الآنيُّ، وجهلٌ دون جهلٍ... ولكلِّ نوع أحكامه، ولكن لا أحد من البشر يخلو من أحدِ هذه الأنواع، وأفضلُ الجاهلين من يعرف أنه لا يعرف، ومن يميز بين حدود معرفته وحدوم جهله.
أمَّا العلاقة بالعلم، وأصناف الممارِسين له، فتصنَّف إلى أشكال منها: المتعلِّم، والمتعالم، والعالم... غير أنَّ الذي يعنينا في هذا المقال هو صنف رابع، وهو "المتعيلم"، ولعلَّ هذه الصيغة غير مألوفة في قواميس اللغة، ولم ترد سماعيا عن العرب، وإن كان بعض المعاصرين يستعملونها. غير أنها قد تكون على شاكلة اسم المفعول "المتفيهق"، وهي من تفيهَق: في الكلام، توسَّع فيه وتنطع، وفي الحديث الشريف: "وإنَّ أبغضكم مني في الآخرة مساويكم أخلاقا، الثرثارون المتفيهقون". وفي رواية عن جابر رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ من أحبِّكم إليَّ، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحسانكم أخلاقاً، وإنَّ أبغضكم إليَّ، وأبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارُون والمتشدِّقون والمتفيهقون" قالوا : يا رسول الله قد علمنا (الثرثارُون والمتُشدقون) فما المُتفيهقُون؟ قال: "المتكبِّرون".
وكثرةُ استهلاك قنوات الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي اليومَ، يكاد يـُخرج لنا كلَّ ساعةٍ "متعيلما" جديدا، ويكشف لنا كلَّ حين "متفيهقًا" جريئا.
ومن أبرز صفات المتعيلم المتفيهق أنه:
*يتكلَّم في كلِّ شيء، ولا يعرف كلمة: "لا أعرف"،
*ويجتهد في بيان فضله على العالمين،
*ويستسهل اغتياب العلماء،
*ويكيل التهم بلا حجة ولا دليل على كلِّ من يعترض سبيله،
*ويقفز من مجال إلى آخر، ومن اهتمام إلى اهتمام غيره، محدثا بلبلة وصياحا وضجة لا حدَّ لها؛ وقد سما هذا القفزَ والهرج أحدُ علماء المغرب الإسلامي حين أوصى تلميذا له فقال: "يا بني، العلم والوطوطة لا يلتقيان". والوطوطة في مصادر اللغة صوت الجبان، وصوت الخطاف، وصياح الطفل باكيا.
وكلُّ هذه الأوصاف مما يميز المتعيلم المتفيهق، الذي أوهم نفسه، واستوهم غيره، أنه "يعلم" وأنه "يعرف"، وأنه يستطيع أن يدرك المعنى مهما خفي، والسمن والبعوض مهما بعُد.
ويبقى السؤال المحيِّر: كيف ننجو من هذا الداء العضال؟
وكيف نتحرَّز من هذا الانحراف الوخيم الوبيل؟
وكيف نربي جيلا من المتعلِّمين ليكونوا علماء هداةً، لا متعيلمين ولا متعالمين؟
لا نملك الجواب الجاهز، ولا ندعي امتلاكه، ولكن نحرِّك فينا "الهمَّ والهمَّة"، ونستدعي فينا "العقل الجمعي والفكر العمليَّ"، ونقيس تحقيق النتجية والمبتغى "بالميدان والفعالية"، لا "بالكلمات الرنانة والخطب الطنانة"... ذلك هو الرشد لو تعلمون... فهل نحن راشِدون؟
حكي أن ابن سينا (الرئيس الطبيب) رأى رجلا يمشي على بُعد فرسخ منه (أي حوالي خمسة كيلومترات)، فقال لمن معه: "انظروا إلى ذلك الرجل، فإنه يأكل خبزا مغمَّسا بالسمنة". ولما سألوه: "كيف عرفت أنه يأكل خبزا مغمَّسا بالسمنة؟". قال: "إنني رأيت البعوض يحوم حول خبزه، مما يعني بأنَّ الخبز الذي يحمله مغمَّس بالدهن".
لا يختلف اثنان أنَّ ابن سينا عالم فذٌّ، وأنه صاحب مواهب كثيرةٌ، وأنه من أعلم علماء البشرية عبر العصور؛ ولكن هل هذه الأسطورة صحيحةٌ؟
مما لا ريب فيه أنها ليست كذلك، ذلك أنَّ الذي يرى البعوض مِن بُعد فرسخ (خمسة كيلومترات) يستطيع أن يرى السمنة البيضاء تغطي الخبز بلا عناء.
*******
لكن، ما فحوى هذه المقدمَّة؟ وماذا يمكن أن نستفيده منها؟
إنَّ حجم الأخبار التي تصلنا في هذا العصر، وإنَّ عدد الأحداث التي تخترق أسماعنا وأبصارنا كلَّ لحظة، ودقيقة، وساعة، ويوم... هو حجم يفوق ما يستهلكه ابن سينا بآلاف المرات، بل بملايين المرات.
كذلك، الكمُّ الهائل من المعلومات التي تقع على أطراف أصابعنا، والتي يمكننا الحصول عليها بلا جهد ولا تنقُّل من مكان، نحصل عليها بمجرَّد الضغط على زرِّ لوحة المفاتيح، فينفتح العالم على ناظرنا بجميع لغاته، ومشاربه، ومستوياته، وكذا بخبُزه وسمنه، وبغثه وسمينه...
ثم نجد أنفسنا مقتنعة بأشياء: قابلةً لبعضها، رافضة للبعض الآخر؛ محبَّة لأمور، كارهة لأمور أخرى؛ متَّخذة مواقف بعضُها كامنٌ، والبعض الآخر معلَنٌ، مما يتهجَّم على عقولنا الرخوةَ الهشَّة الضعيفة مِن أعاصير الصور، والأصوات، والرموز، والكلمات، والأخبار، والمفاهيم، والأفكار، والمواقف.
لكن، هل نحن ممن يرى البعوض؟ ويرى السمنة؟
أم أننا نرى الخبز؟ ونرى الرجل؟
أم أننا لا نرى شيئا ولا أحدا؟
كيف نميز بين الصواب والخطأ فيما نرى ونسمع ونقرأ؟
وهل نمتلك الوقت الكافي لتصفية كلِّ ذلك؟
وهل لدينا الكفاءةُ اللائقة للتمييز بين الحقِّ والباطل؟ بين النافع والضارِّ؟ بين الشيء وظلِّه؟ بين الأمر وصورته في المرآة؟
تستحرُّ ظاهرةٌ بين الكبار والصغار، عنوانها "الإعجاب بكلِّ ما يشتهر، وبكلِّ من يشتهر"، بلا جهد ولا عناء في النظر وإعادة النظر، ولا في التساؤل حوله بعقل ناقد، ولا بالبحث فيه بفؤاد وقاد...
يقول لك الواحد منهم مثلاً: هل شاهدت فيديو العلامة فلان؟
ثم حين تكتشف – ويكتشف معك – أنك لم تشاهده، يصنِّفك في خانة الجهلاء المتخلِّفين، وإذا ما بذلت الجهد، لكي ترفع عنك الحرج، ثم فتحت الجهاز، وشاهدت أو سمعت ما وصفه لك، تجده هُراء غالبًا، وكلاما فارغًا، وجهلا مغلَّفا (لا خبزا، ولا سمنا) وإنما هو من قبيل المعلوم الذي لا ينفع أحدا، ومن نوع الفراغ الذي لا يزيد في رصيد أحد... (إلاَّ ما شذَّ، والشاذُّ يحفظ ولا يقاس عليه)
ما أحوجنا اليوم إلى غربلة ما نقرأ، وما نسمع، وما نرى، وما نحس...
ما أحوجنا إلى غربال حسَّاس جسَّاس، وموشور رفيع الدقة حقيق؛ حتى لا نقع فريسة ولقمة سائغة، بين أنياب المتربصين بديننا، المفسدين لدنيانا، المرجفين في المدينة، المهلكين لحرثنا ونسلنا؟
رحمك الله ابنَ سينا، لم تكن أنت المخطئُ في قصَّة الرجل والخبز والسمن، وإنما نقَل الناسُ عنك ما لو قيل لك لردَدْتَه، ولأنكرته؛ ذلك أنَّ العالـِم الحقَّ لا يصنعه الوهمُ (ولا يصنع الوهمَ)، ولا يعنيه كثرةُ السماع والمشاهدة، ولا الجلوس أمام التلفاز والجهاز أياما وليالي (غير آمنين)... إنما الذي يصنع العالم هو المكابَدة، والصبر، والتحقيق، والنقد، والفهم العميق، والضمير الحيُّ، والقلبُ العقول، واللسانُ السؤول، والجوارح الفعَّالة الفاعلة...
وإلا، فلا... ثم لا.... ألفُ لا.
*******
الجهل أنواع كثيرة، ومشارب متباينة، منها: الجهل المعلوم، والجهل المركَّب، والجهل المغلَّف، والجهل الآنيُّ، وجهلٌ دون جهلٍ... ولكلِّ نوع أحكامه، ولكن لا أحد من البشر يخلو من أحدِ هذه الأنواع، وأفضلُ الجاهلين من يعرف أنه لا يعرف، ومن يميز بين حدود معرفته وحدوم جهله.
أمَّا العلاقة بالعلم، وأصناف الممارِسين له، فتصنَّف إلى أشكال منها: المتعلِّم، والمتعالم، والعالم... غير أنَّ الذي يعنينا في هذا المقال هو صنف رابع، وهو "المتعيلم"، ولعلَّ هذه الصيغة غير مألوفة في قواميس اللغة، ولم ترد سماعيا عن العرب، وإن كان بعض المعاصرين يستعملونها. غير أنها قد تكون على شاكلة اسم المفعول "المتفيهق"، وهي من تفيهَق: في الكلام، توسَّع فيه وتنطع، وفي الحديث الشريف: "وإنَّ أبغضكم مني في الآخرة مساويكم أخلاقا، الثرثارون المتفيهقون". وفي رواية عن جابر رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ من أحبِّكم إليَّ، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحسانكم أخلاقاً، وإنَّ أبغضكم إليَّ، وأبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارُون والمتشدِّقون والمتفيهقون" قالوا : يا رسول الله قد علمنا (الثرثارُون والمتُشدقون) فما المُتفيهقُون؟ قال: "المتكبِّرون".
وكثرةُ استهلاك قنوات الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي اليومَ، يكاد يـُخرج لنا كلَّ ساعةٍ "متعيلما" جديدا، ويكشف لنا كلَّ حين "متفيهقًا" جريئا.
ومن أبرز صفات المتعيلم المتفيهق أنه:
*يتكلَّم في كلِّ شيء، ولا يعرف كلمة: "لا أعرف"،
*ويجتهد في بيان فضله على العالمين،
*ويستسهل اغتياب العلماء،
*ويكيل التهم بلا حجة ولا دليل على كلِّ من يعترض سبيله،
*ويقفز من مجال إلى آخر، ومن اهتمام إلى اهتمام غيره، محدثا بلبلة وصياحا وضجة لا حدَّ لها؛ وقد سما هذا القفزَ والهرج أحدُ علماء المغرب الإسلامي حين أوصى تلميذا له فقال: "يا بني، العلم والوطوطة لا يلتقيان". والوطوطة في مصادر اللغة صوت الجبان، وصوت الخطاف، وصياح الطفل باكيا.
وكلُّ هذه الأوصاف مما يميز المتعيلم المتفيهق، الذي أوهم نفسه، واستوهم غيره، أنه "يعلم" وأنه "يعرف"، وأنه يستطيع أن يدرك المعنى مهما خفي، والسمن والبعوض مهما بعُد.
ويبقى السؤال المحيِّر: كيف ننجو من هذا الداء العضال؟
وكيف نتحرَّز من هذا الانحراف الوخيم الوبيل؟
وكيف نربي جيلا من المتعلِّمين ليكونوا علماء هداةً، لا متعيلمين ولا متعالمين؟
لا نملك الجواب الجاهز، ولا ندعي امتلاكه، ولكن نحرِّك فينا "الهمَّ والهمَّة"، ونستدعي فينا "العقل الجمعي والفكر العمليَّ"، ونقيس تحقيق النتجية والمبتغى "بالميدان والفعالية"، لا "بالكلمات الرنانة والخطب الطنانة"... ذلك هو الرشد لو تعلمون... فهل نحن راشِدون؟
Published on April 05, 2016 02:00
No comments have been added yet.